"افعلوا ما أقوله لكم، ولا تلتفتوا إلى أي أوامر مخالفة تصدر عنّي في المستقبل". إذا كنت قد أصدرت توجيهات كهذه من قبل، أو كنت ممن تلقوا توجيهات مشابهة، فيمكنك القول إنك قد اختبرت "ميثاق يوليسيس".
تقول أسطورة البطل يوليسيس (أوديسيوس)، إنه بعد الانتصار في حرب طروادة، وفي طريق عودته مبحراً إلى وطنه، أدرك أنه سيمّر بالقرب من جزيرة غريبة، هذه الجزيرة مشهورة بحوريات يمتلكن أصواتاً عذبة شجية، وعندما يمّر البحارة ويسمعون غناءهن، ينبهرون ولا يستطيعون مقاومة جمال تلك الأصوات، فيحاولون الوصول إلى مصدرها غير عابئين بمدى خطورة الصخور التي تصدم سفنهم فتحطمها وتغرقها.
أدرك يوليسيس أنه وطاقمه لن يكونوا قادرين على مقاومة ذلك الغناء، وأنهم إذا استمروا فمصيرهم الهلاك، فطلب من معاونيه ربطه بحبال غليظة إلى سارية السفينة، وأن يملأ الجميع آذانهم بالشمع لكيلا يسمعوا إنشاد الحوريات، وأخذ على طاقمه ميثاقاً بعدم الإصغاء إلى أي أمر، أو توجيه، أو تهديد، يصدر عنه إلى أن يتخطوا تلك الجزيرة.
ألهم يوليسيس وميثاقه الكثيرين، فأصبحنا نراه متقمصاً في العديد من التخصصات، ومطبّقاً في الكثير من المجالات؛ فمثلاً هذا الميثاق موجود في الطب لمنع المريض من تصرفات لاحقة تتسبب له بالضرر، كمريض الفصام النفسي الذي يقرر إيقاف العلاج تحت تأثير المرض، وكذلك في مجال التكنولوجيا عندما تقوم الشركات ببناء أنظمة وتصبح هي نفسها غير قادرة على فك تشفير بيانات المستخدمين فيها، ونرى هذا الميثاق أيضاً في عالم القانون والتشريع، حيث تتضمن بعد النصوص القانونية بنداً بمنع تعديل النص في المستقبل.
استعارة ما فعله يوليسيس ليس حكراً على المؤسسات؛ فهناك نسخ مخففة منه تعترضنا في حياتنا اليومية، فعندما نواعد صديقاً لممارسة الرياضة معاً، فإننا نضع أنفسنا تحت ضغط هذا الوعد لتجنب التقاعس أو تغيير رأينا بسهولة، كما درجت عادة بين الطلاب في بعض الجامعات، بأن يتبادلوا كلمات مرور حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترة الامتحانات، فيقوم كل طالب بتغيير كلمة المرور الخاصة بحساب زميله، ولا يتم مشاركتها معه حتى انتهاء الامتحان.
إذا ما أمعنا النظر في ممارساتنا المهنية وأنظمتنا الإدارية، فسنرى أن عقوداً يوليسيسية تبرم من حولنا باستمرار، حيث إن تطبيقاتها نمت وربت في ميادين الاقتصاد السلوكي والمبيعات والتسويق، يكفي أن نشير إلى بعض حسابات التوفير البنكية التي يمنع عليك السحب منها لفترة معينة حتى لو رغبت بذلك، وجميع أنظمة البيع التي تتضمن دفعات غير مستردة.
لقد وصل الأمر إلى إطلاق شركة ناشئة تساعد الناس على إبرام العقود مع أنفسهم، حيث قامت دراسة أجرتها كلية هارفارد للأعمال بتحليل مدى فعالية مثل هذه الاتفاقيات. وبحسب النتائج، فقد شهدت الشركة نسبة نجاح بلغت 42.7% للعقود التي لم تتضمن أي رهان. والمفاجأة كانت بالنسبة للعقود ذات الرهانات، حيث بلغت نسبة النجاح 82.8%، أي الضعف تقريباً. وقد كان هناك نوع من العقود يتضمن التزام الأشخاص بتقديم الأموال إلى مؤسسات خيرية تخالف توجهاتهم ومتعقداتهم إذا لم يحققوا الهدف المطلوب، وبلغ معدّل النجاح في هذا النوع من العقود 87.1%.
لن نترك يوليسيس وشأنه في هذه اللحظة، بل سنرى الخطوات التي يمكنك اتباعها لتطبيق عقد يوليسيس بطريقة مجدية، قد يكون ذلك مع موظفيك أو زملائك في العمل، أو مع أصدقائك، أو حتى مع أفراد العائلة.
- تحديد موضوع العقد: من المهم في البداية تحديد الموضوع الذي سيتم الاتفاق عليه، قد يكون تطوير الأداء المهني، أو الامتناع عن سلوكيات غير مرغوبة، أو الالتزام بنمط حياة صحي، أو غير ذلك. تذكّر أن الغاية التي من أجلها قام يوليسيس بعقد ميثاقه هي الوصول إلى دياره بسلام والتخلص من تأثير غناء الحوريات.
- تحديد النتيجة المرغوبة: بعد أن يتم الاتفاق على الموضوع، لا بد من تحديد النتيجة المرغوبة، قد يهدف عقدك إلى تحسين الأداء بنسبة 10%، أو المواظبة على أداء التمارين الرياضية، أو إنهاء كتابة بحث أكاديمي. من المهم أن تكون النتيجة واقعية وقابلة للإنجاز، فأنت لا تريد المخاطرة برفع سقف التوقعات للدرجة التي تؤدي إلى انهيار العقد.
- وضع مدة زمنية: لم يطلب يوليسيس من طاقمه أن يبقوه مقيداً حتى نهاية الرحلة، كذلك لم يطلب منهم أن يسكبوا الشمع في آذانهم بشكل دائم، بل لفترة محددة تنتهي باجتيازهم الجزيرة. كذلك الأمر فإن عقدك يجب أن يكون محدداً بمدة زمنية، وتختلف هذه المدة باختلاف الموضوع والنتيجة المرغوبة.
- وضع رهان أو حافز: لإنجاح عقد يوليسيس وتحقيق النتائج المُتطلع إليها، يجب أن يكون هناك حافز قوي يدفع الشخص المرتبط معك بالعقد إلى تنفيذه. يمكن لهذا الحافز أن يكون إيجابياً بمعنى منح جائزة مادية أو معنوية عند تنفيذ العقد، ويمكن كذلك أن يكون حافزاً سلبياً بمعنى أن يتم وضع شرط جزائي أو خسارة ستلحق بالطرف الآخر عند خرق الميثاق. تذكّر أن الناس بطبيعتها تشعر بألم الخسارة أكثر من شعورها بلذة الربح، لذلك عادةً ما يكون الجزاء أكثر مضاءً في إنجاح التعاقد.
- الاتفاق على آلية للمتابعة: لا بد أن تتابع مدى الالتزام بالاتفاق المبرم، وكلما كانت طريقة القياس واضحة، زادت القدرة على كشف أي تراخٍ أو تخلف عن أداء المتفق عليه. ترتبط القدرة على المتابعة والقياس بالموضوع الذي تم اختياره، والنتيجة التي تم الاتفاق على الوصول إليها. في بعض الأحيان، تكون المتابعة واضحة فيظهر خرق الاتفاق بشكل تلقائي كأن يصغي طاقم السفينة إلى أوامر يوليسيس المقيد إلى الساري والواقع تحت تأثير الأصوات، أو يمتنع البعض عن سد آذانهم فيقودون السفينة إلى الصخور. وفي أحيان أخرى يتطلب الأمر الحصول على معلومات وقياسات لتقرير ما إذا كان الالتزام موجوداً من عدمه، كما في حالة عقود يوليسيس المهنية.
من المهم كذلك اختيار الشخص الذي سيعلن خرق الاتفاق من عدمه، ويمكن أن يكون ذلك الشخص أحد طرفي العقد كما في الحالات التي يكون التعاقد فيها بين مدير وموظفيه، أو مدرب ومتدربيه، أو طبيب ومرضاه، أو أب وأولاده، وفي حالات أخرى يكون طرف آخر كالمحاكم عندما توضع عقود يوليسيس في التشريعات والقوانين.
من التحديات الرئيسة التي تواجه تطبيق ميثاق يوليسيس تسويف الطرف الملتزم بأداء ما تم الاتفاق عليه، وهذا يعود لعدة عوامل أهمها ما يسمى بـ "التحيّز للحاضر" حيث إن العقل البشري مبرمج على بذل الجهد الذي يأتيه بالمنفعة المباشرة، أما الأعمال التي تظهر منافعها في وقت لاحق، فيحاول تأجيلها.
نصحت إحدى المقالات المنشورة في هارفارد بزنس ريفيو العربية بمجموعة من الإجراءات للتعامل مع التسويف، تتلخص في تخيّل حالتنا عندما نقوم بإكمال العمل المطلوب منا والوصول إلى الهدف المنشود، وإلزام أنفسنا أمام الآخرين بما نريد تحقيقه، والتفكير في تداعيات التأخير في أداء العمل، مع تطعيم ذلك بتجزئة المهام إلى أنشطة بسيطة، وربطها بمكافآت صغيرة.
قد ينظر البعض إلى ما قام به يوليسيس على أنه مؤشر على انعدام الثقة في النفس، أو أنه دليل على ضعف الشخصية وهوان العزيمة. ولكن نظرة أكثر عمقاً تشي بشيء مختلف؛ فهذا الرجل كان على قدر كبير من الحكمة، تلك الحكمة التي جعلته يعرف ما هو قادر عليه، وما هو عاجز عنه، وكذلك إدراكه أن الظروف تتغير والأحوال تتبدل، وأنه لا بد من الاستباقية واجتراح الحلول المبتكرة إذا ما أراد الوصول إلى مينائه بسلام.
إذا ما وصلت في قراءتك إلى هنا، فقد عرفت ميثاق يوليسيس، ومتى يمكنك استخدامه، وكيف تقوم بعقده. وربمّا يكون الوقت مناسباً للتفكّر فيما إذا اختبرته من قبل – بأحد أشكاله – أم لا؟، وكيف يمكنك أن تطوّع هذا الميثاق في أيامك القادمة.