"هذه الأشياء تجعل بشرتي تبدو مثل الطبشورة". كان ذلك رد الفعل الفوري الذي صدر من بلندا أتيس عندما نظرت إلى نفسها في المرآة.
يعدّ تجريب المكياج طقساً من طقوس الانتقال إلى مرحلة جديدة بالنسبة للكثير من الفتيات المراهقات، وهذا ما جعل الأمر أكثر إحباطاً لبلندا عندما وضعت كريم الأساس السائل للمرة الأولى ولم تجد النتائج مثيرة للإعجاب. اتضح أن شركات مستحضرات التجميل لم تصنع درجات ألوان تناسب لون بشرتها. وجدت بلندا مع أصدقائها الأميركيين الهايتيين في إيست أورانج بنيو جيرسي، أن كريمات الأساس السائلة والمجففة كان لها تأثير غير جذاب وغير لامع على بشرتها الداكنة. وكانت تلك مشكلة بغض النظر عن العلامة التجارية أو الصيغة أو المنتج، إلى أن وضعت بلندا تركيزها على حلها نهائياً وعلى نحو حاسم.
وعندما انضمت بلندا إلى شركة لوريال (L’Oréal) بصفتها عالمة كيمياء في عام 1999، كانت تعكف على إعداد مجمّل الرموش (مستحضر تجميل)، لكن مشكلة كريم الأساس كانت تشغل بالها. وفي عام 2006، عندما أطلقت الشركة خطاً جديداً من المنتجات لكريمات الأساس لمعالجة مجموعة متنوعة من ألوان البشرة، رأت بلندا أنها لا تزال دون المستوى المطلوب. وأشعل ذلك جذوة الحماس في نفسها. وأخبرت رئيسة قسم المكياج التي شجعتها على التوصل إلى حل. وبدأت بلندا العمل على حل المشكلة بصفتها مشروعاً جانبياً. والتحق بها، في وقت قصير، اثنان من المختصين للمساعدة في تحقيق مسعاها.
وعلى الرغم من أن بلندا وزملاءها لم يُخلَ سبيلهم من أداء وظائفهم اليومية، فقد أعطت الشركة الثلاثي حقّ استخدام المختبر. وأنتجوا عيّنات من كريم الأساس في الوقت المحدد واختبروها، بفضل شغفهم والغاية التي كانت تدفعهم. وفي ضوء الافتقار إلى موارد لجمع البيانات، اشترك ثلاثتهم في الحملات الميدانية التي كانت تقوم بها الشركة، وجمعوا مقاييس عن لون البشرة من آلاف النساء ذوات البشرة الملونة في جميع أنحاء البلاد. وتحققت الطفرة الكبرى عندما اكتشفت بلندا أنه يمكنهم إعادة استخدام مركّب ألوان موجود. إذ إن اللون الأزرق الفاقع نادراً ما كان يستخدم ويصعب التعامل معه، لكنه أتاح لهم استحداث درجات ألوان غنية أعمق دون اللمسة النهائية الباهتة التي كانت شائعة للغاية في كريمات الأساس الداكنة الموجودة. وتخطت بلندا وفريقها الصغير العقبات المستمرة وحلوا معضلة كانت موجودة طيلة أجيال.
بلندا هي ما أسمّيه "الهاكر المؤسسي"، وهو الموظف الريادي الدؤوب داخل المؤسسة الذي يعمل على هامش المؤسسات لحل المشكلات المستمرة التي يهتم بها الزبائن.
يعود هذا الاتجاه الآخذ في الظهور من الروح الريادية داخل المؤسسات، الذي يعد - جزئياً - نتيجة ثانوية للنُهج التي تركز على المستخدم وبراعة التنفيذ بالجهد الذاتي، إلى جيل صاعد من المدراء الذين تعززت قدراتهم بفضل التكنولوجيا الميسرة واستنهضت هممهم وسائل التواصل الاجتماعي. إذ يمثل هؤلاء فرصة غير مستغلة إلى حدّ كبير داخل الشركات القائمة. تحتاج الشركات إلى هؤلاء "المهوسين بالممارسات العملية" (Practical Hacktivists) لإيجاد سبل جديدة لتلبية احتياجات المستهلكين الذين يطلبون تكييف المنتجات حسب متطلباتهم، وللتفوق على المنافسين في عصر أضحت فيه الميزة التنافسية سريعة الزوال في الغالب. لكن الكثير من الشركات تتجاهل المشكلات ويحاول الهاكر المؤسسيون حلها. ويتطلب أن يصبح المرء "هاكر مؤسسي" ناجحاً قدراً هائلاً من الطاقة والقدرة على الإقناع.
وتشبه سارة ويندهام، كبيرة مدراء العلاقات العامة في قسم المعدات والتخزين العالمي في شركة "ستانلي بلاك آند ديكر" (Stanley Black & Decker) بلندا كثيراً، إذ كان لدى سارة فكرة لم تستطع التخلص منها: عصا تنظيف تجتذب الغبار وتعمل بالكهرباء الساكنة. وبمقدور العصا التنظيف بشكل أشمل وبقدر أقل من العمل، ودون نشر الغبار في الأرجاء. وفي حين واصلت سارة مزاولة عملها في إدارة العلاقات العامة خلال أيام العمل العادية، "أصبحت مهووسة" بفكرة العصا التي تعمل بالكهرباء الساكنة. وسيطرت الفكرة على عقلها، لذا بدأت في إجراء بحث عن المتطلبات التكنولوجية لتصنيعها. ومن خلال قوة الإرادة الشديدة (كان شغفها مؤثراً في الآخرين وكانت الأبحاث التي أجرتها قاطعة)، استعانت بعشرين خبيراً تكنولوجياً في الشركة، بما في ذلك عدد من المهندسين الذين كانوا يعملون في أوقاتهم الشخصية لمساعدتها على دفع الفكرة إلى الأمام. وبفضل سارة والمثابرة المذهلة لفريقها، أصبح لدى العلامة التجارية "بلاك آند ديكر" (BLACK+DECKER) مجموعة من النماذج الأولية المكتملة.
ولكي يتسنى للشركات دعم الهاكر المؤسسيين مثل بلندا وسارة وتعزيز الابتكار الداخلي، يتعين عليها تحديد هؤلاء الأفراد وفهم الأمور التي تحفزهم. وعلى الرغم من استحالة تحديد ملامح مثالية لهم، فإن جميع الذين قابلتهم منهم يشتركون في بعض السمات:
مهيؤون لمعالجة المعضلات الصعبة
وبشكل أكثر تحديداً، فإنهم يستخدمون مجموعة متنوعة من القدرات لحل المشكلات التي لا تتعامل معها المؤسسات كجزء من عملياتها اليومية. إذ استخدمت كل من بلندا وسارة المهارات الشخصية، بما في ذلك القدرة على تخيل حلول جديدة والاستعانة بالآخرين في هذه العملية من خلال الإقناع عن طريق الشغف والمهارات الفنية والتمتع بالخبرة التخصصية في العلوم التي تستند إليها أفكارهم.
لا يفعلون الأشياء بمفردهم
يتخطى الهاكر المؤسسيون الممرات لإشراك الآخرين والاستفادة منهم. إذ كوّنت سارة فريقاً مخصصاً بأكمله في شركة "ستانلي بلاك آند ديكر"، يشتمل على مخططي المنتجات والمدراء التنفيذيين والمهندسين. واستحدثت بلندا بيئة عمل متكاملة غنية ترتكز على فكرتها. إذ عثرت على الشركاء واجتذبت التمويل وأرست مجتمعاً من الداعمين لفكرتها داخل الشركة. وقد أثمر كل هذا التعاون: ففي عام 2014، طرحت العلامة التجارية لانكوم (Lancôme) التابعة لشركة لوريال، درجات الألوان النضرة لكريم الأساس التي قدمتها الممثلة الكينية لوبيتا نيونقو، بصفتها أول متحدثة سمراء باسم الشركة.
يمضون قدماً بأقل التكاليف
نظراً لمحدودية الموارد التي يتمتعون بها، كانت بلندا وفريقها يعدّون طاولات في المعارض الرسمية وغيرها من التجمعات الكبيرة لاختبار درجات الألوان لتحليل أنواع البشرة المختلفة بشكل أفضل. وعملوا خارج مكان العمل في الأمسيات وعطلات نهاية الأسبوع طيلة سنوات حتى توصلوا إلى الحل الذي ينشدونه. في نهاية المطاف، كانت بلندا قادرة على إعادة استخدام الموارد الحالية، وإعادة توظيف لون غير مستفاد منه بدلاً من استحداث لون جديد. وكانت سارة وزملاؤها يمضون قدماً في وقتهم الشخصي وبميزانية محدودة للغاية.
يحركهم الشغف
يبدأ هؤلاء الأفراد، بدافع افتتانهم بالفكرة نفسها ورغبتهم العميقة في حل مشكلة معينة، عند هامش المؤسسات ويثابرون إلى أن يتمكنوا من تمهيد طريق إلى مركزها. فقد كان الأمر، بالنسبة لبلندا وشركائها، عملاً نابعاً من الحب. إذ تقول: "تقاسمنا شغفاً مشتركاً". وأعربت سارة عن هذا المضمون بقولها: "كانت تحركني فكرة أن الأمر كان كل همّي إلى أن وجدنا له حلاً".
ثمة أمر واحد يميّز بين بلندا وسارة وبين العديد من الهاكر المؤسسيين الآخرين، يتمثل في أن شركة كل منهما كافأتها. حيث تدير بلندا في الوقت الحالي مختبر منتجات لوريال للنساء ذوات البشرة الملونة (L’Oréal’s Women of Color Lab)، في مدينة كلارك بولاية نيو جيرسي. وتتمثل مهمتها في التأكد من أن النساء في الدول الـ 140 التي تطرح فيها شركة لوريال منتجاتها يمكنهن العثور على مكياج يتوافق مع بنية بشرتهن ولونها. في حين فازت سارة مؤخراً بجائزة الإنجاز المبتكر التي تقدمها شركة "ستانلي بلاك آند ديكر". وتمثلت الجائزة في قيادة سيارة تيسلا طراز "إس" (S) لمدة شهر (مع موقف مخصص للسيارة في الواجهة في مكان العمل). وقالت سارة: "أنحدر من عائلة تعشق السيارات، لذا كانت سيارة تيسلا تمثل دافعاً قوياً بالنسبة لي". ويمكن لأي شخص في المؤسسة الحصول على الجائزة مقابل استحداث ابتكار، وهو ما يمثل إشارة واضحة من الشركة بأن الابتكار يمكن أن يأتي من أي مكان وسيحظى بالدعم إذا كانت له جدوى تجارية.
لكن ليس جميع المبتكرين داخل المؤسسات يتلقون هذا النوع من الدعم، إذ إن نسبة كبيرة منهم يغادرون المؤسسة لتسويق أفكارهم بمفردهم. حيث يتسم الهاكر المؤسسيون بالمرونة؛ فهم لا يستسلمون. ويتصفون بالطابع الاجتماعي؛ إذ يجذبون الآخرين لمسعاهم. وهم مقتصدون؛ حيث يستفيدون من الموارد المتاحة ويستخدمون الأساليب المرنة لتوسيع نطاق أفكارهم. ويجب على الشركات التي ترغب في إشراك هؤلاء المبتكرين، وتشجيع هذه السلوكيات لدى الآخرين، تقديم حوافز لإثارة حماسهم وتهيئتهم بصفتهم نماذج يحتذى بها لبقية المؤسسة.