من الصعب حالياً إيجاد رئيس تنفيذي لا يروج لأهمية الابتكار الحقيقي تحديداً، لكن يبدو أن الكثير منهم يشعرون بالحيرة إزاء طريقة تحقيق ذلك. وجد استبيان أجرته شركة "ماكنزي" عام 2008 أن 84% من المسؤولين التنفيذيين يعتقدون أن الابتكار أمر بالغ الأهمية لنمو شركاتهم، لكن شعر 6% منهم فقط بالرضا عن أداء شركاتهم الحالي في مجال الابتكار. وطلبت دراسة أحدث عهداً أجرتها شركة "كيه بي إم جي" (KPMG) وشركة "إنوفيشن ليدر" (Innovation Leader) من المسؤولين التنفيذيين تقييم مدى تقدم جهود الابتكار التي تبذلها شركاتهم على أساس مقياس من خمس درجات. أفاد حوالي 60% من المشاركين في الدراسة بأنهم كانوا في المراحل الأولية (مرحلة الحلول المخصصة التي حصلت على درجة واحدة أو مرحلة النشوء التي حصلت على درجتين) في حين أفاد 2% منهم فقط بتحسين أنشطة الابتكار الخاصة بهم (حصلوا على خمس درجات).
بعد دراسة الابتكار في أكثر من 40 شركة على مدى السنوات الـ 25 الماضية، أعتقد أن الانفصال بين الطموح والتنفيذ ناتج عن وجهة نظر محدودة للغاية لما ينطوي عليه الابتكار والميل إلى الخلط بين الابتكار والبحث والتطوير. عندما لا يرى قادة الأعمال نتائج خلاقة من أقسام البحث والتطوير الخاصة بهم، فإنهم يعتبرون ذلك إشارة إلى أن الاستثمارات طويلة الأجل في مجال الابتكار لا تؤتي ثمارها فيقومون بخفض الإنفاق على البحث والتطوير.
وفي الواقع، يُعد الابتكار أكبر بكثير من مجرد البحث والتطوير. إذ إنه بنطوي على ثلاث قدرات متميزة هي: الاكتشاف والاحتضان والتسارع (DIA). يمثل البحث والتطوير جزءاً واحداً فحسب من القدرة على الاكتشاف أو الاختراع. ويتعين على قادة الشركات أن يدركوا أن تطوير تطبيقات الأعمال ونماذج الإيرادات والأسواق للمنتجات الجديدة يتطلب غالباً قدراً كبيراً من الوقت والموارد ويستحق قدراً من التركيز مماثلاً لما يتطلبه ابتكار التقنيات بحد ذاتها.
ودون توافر وظيفة ابتكارات استراتيجية تتضمن عملية اكتشاف شاملة والقدرة على احتضان التقنيات الجديدة وتسريعها، ينتهي المطاف بالشركات إلى تخزين الاختراعات غير المكتملة في أقسام البحث والتطوير الخاصة بها وفقاً للبحث الذي أجريناه، ولا تشهد عائداً قوياً على الاستثمار من أعمال البحث والتطوير الاستكشافية التي تقوم بها. كما أنها تقع في فخ وجود "أفكار خلاقة تُنفذ تدريجياً" وفقاً لما قاله المدير المسؤول عن التكنولوجيا في إحدى شركات "فورتشن 500" المعروفة أثناء بحثنا.
الابتكار الحقيقي يتطلب طموحاً
لا يتمثل الحل لتعزيز الابتكار إذاً في الإنفاق على البحث والتطوير فقط، بل في إرساء قوة ابتكارية قوية. ويُستحسن أن يستفيد قادة الشركات من الدروس المستخلصة من شركة السلع المنزلية المعروفة التي درستها بشكل مكثف من عام 2010 وحتى عام 2016. في مطلع هذا القرن، فشلَت تجارب المنتجات الطموحة من قبيل سخان المياه دون خزان في أن تصبح رائجة إلى السوق. وعندما تولت قيادة جديدة الشركة عام 2007، شعرت بالقلق إزاء سنوات من الاستثمار في رهانات كبيرة وتحقيق أرباح تجارية منخفضة.
وبدلاً من التخلي عن الاكتشاف، أعادت الشركة تنظيم صفوفها. وفقاً للنائب الأول للرئيس، على الرغم من أنهم كانوا قادرين على إتقان منتجات جديدة على المستوى التقني، فقد أدركوا أنهم يعانون قصوراً كبيراً في تطوير الأسواق لهذه المنتجات. كما كانوا يختارون المشاريع التي أدت إلى توسيع نطاقهم ليشمل مجالات جديدة في التكنولوجيا وأسواقاً جديدة بصورة متزامنة، مما أبعدهم بشكل كبير عن الكفاءات الموجودة.
ومن خلال تحسين نقاط القوة الموجودة لديهم وتنمية قدراتهم على احتضان المنتجات الواعدة وتسريعها، حققوا نجاحاً باهراً. إذ أطلقت الشركة في غضون عامين صنبوراً عالي التقنية أصبح أكثر سلعهم مبيعاً منذ عقود. وتلا ذلك سلسلة من المنتجات المنزلية الثابتة التي حققت مع الصنبور حجم مبيعات يفوق الضعف في تلك الفئات وزادت الأرباح بنسبة تفوق 20%. وخلال هذه المسيرة، تعلموا درساً أساسياً هو: مهما بلغ عدد الاختراعات المدهشة التي ينتجها قسم البحث والتطوير، فهي مجرد بداية لعملية الابتكار. تُعد وظيفة الابتكار النشطة ضرورية بالنسبة لأي تقنية جديدة للوصول إلى أقصى إمكاناتها ولتتحول بنجاح إلى أعمال مكتملة.
بناء القدرة من أجل الاحتضان والتسريع
يتمتع فريق الابتكار ذو الأداء الجيد بقدرات تتجاوز ما يستطيع قسم البحث والتطوير أو وحدة الأعمال الحالية تحقيقه. فهو لا يُحسن الجوانب الفنية التي يتصف بها منتج جديد أثناء عملية الاكتشاف فحسب، بل يرسم أيضاً الخارطة الكاملة لمشهد فرص حالات استخدامه وتطبيقات أعماله. يُوسع الفريق في مرحلة الاحتضان الفرص الواعدة للغاية ويختبرها ويوضحها كما يصقل نموذج الأعمال والاستراتيجية. وهو يُسرع الفرص التي تبدأ بتحقيق النجاح ناقلاً إياها إلى حيز الاستخدام العام بمجرد بلوغها المستوى اللازم للصمود في ظل العمليات والمقاييس المعتادة.
بدلاً من تصنيف الابتكارات الواعدة في وحدات الأعمال القائمة وتطبيقاتها الأكثر وضوحاً، تُعزز وظيفة الابتكار القوية نظرة شاملة لما يمكن أن تصبح عليه التكنولوجيا ومن ثم ترعاها وصولاً إلى المسارات الأجدى. على سبيل المثال، في التسعينيات من القرن الماضي، طورت شركة "أنالوج ديفيسز" (Analog Devices) لأشباه الموصلات التي درستها مقياس تسارع جديد قادر على استشعار التغيرات في السرعة بكلفة تقارب الـ 5% من كلفة التقنيات الحالية. وأثناء تحسين هذا الابتكار لاستخدامه في الوسائد الهوائية في السيارات، ظهرت فرص أخرى لاستخدامه في ألعاب الفيديو والأقمار الصناعية والأدوات العلمية. أدت الخبرة المكتسبة في هذه الأسواق الأصغر حجماً والمتخصصة إلى مساعدة الشركة في تحسين التكنولوجيا وتعزيز مكانتها بمجرد اقتحامها سوق السيارات.
الابتكار الحقيقي يؤتي ثماره
يُشوش الميل إلى الخلط بين الابتكار والبحث والتطوير فهم الناس للقيمة طويلة الأجل التي يخلقها. قامت الشركات الأميركية منذ ثمانينات القرن الماضي بخفض الإنفاق على البحوث العلمية والهندسية الأساسية والاستكشافية، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى اعتقادها بأن السوق قد لا يُجزي هذه الاستثمارات. وكانت الفوائد مبهمة للغاية ولا يمكن أن تنتج عنها أرباح في الأجل القريب. ومع ذلك، تُظهر البحوث أن الاستثمار في ابتكار كبير بحق يؤتي ثماره - إذا كان يشمل أكثر من مجرد البحث والتطوير وإمكانات اكتشاف وحضانة وتسريع قوية.
يبدو للوهلة الأولى أن الدراسة التي أجريتها عام 2015 مع ديميتري ماركوفيتش وباميلا هاربر على 141 شركة أميركية تؤكد مخاوف الناس بشأن عائد الإنفاق على البحث والتطوير. وعلى مدار عقد من المعطيات، لم نعثر على أي علاقة ذات دلالة إحصائية بين استثمارات الشركة في البحث والتطوير الاستكشافي الأساسي (المُقاسة بعدد براءات الاختراع لكل شركة على مدى العقد الماضي، موزونة بمدى حداثتها العلمية) وقيمة الشركة في سوق الأسهم المالية. يتماشى هذا الاستنتاج مع البحوث الحالية التي تُظهر أنه إما لا يوجد أي صلة أو توجد في بعض الحالات علاقة سلبية بين البحث والتطوير الاستكشافي وأداء السوق.
لكن الرؤى الهامة التي استخلصناها من دراستنا هي أن القدرة على الابتكار الحقيقي التي تتجاوز البحث والتطوير الاستكشافي الأساسي هي القطعة المفقودة التي تُنتج القيمة السوقية. قِسنا وجود موظفي الاحتضان والابتكار داخل كل شركة (مثل القيادة العليا والفِرق الرسمية المكلفة بالابتكار والاحتضان) وكمية الاتصالات العامة للشركة بشأن الابتكار - وهما أكثر مؤشرات الاستثمار العامة المتاحة بسهولة في مجال الابتكار خارج نطاق البحث والتطوير. ووجدنا أن مستوى هذه الأنشطة يمكن أن يحول العلاقة بين البحث والتطوير وأداء السوق من علاقة سلبية قليلاً إلى علاقة إيجابية بدرجة كبيرة. (لا يتمتع النشاط الابتكاري وحده بأي تأثير على القيمة السوقية، وهذا أحد الأمور المثيرة للاهتمام التي توصلنا لها في تحليلنا الإحصائي. إذ يتمتع كل من تفاعل الأنشطة الابتكارية والبحث والتطوير الاستكشافي والأساسي فقط بتأثير إيجابي).
بشكل عام، تدعم دراستنا ما توصلتُ إليه عبر سنوات من البحث في العديد من الشركات وهو: أن الاستثمار في الابتكار يؤتي ثماره، لكن ليس إذا كان مقتصراً على البحث والتطوير.
ومن اللافت للنظر أن الابتكار الحقيقي تحديداً، وهو مبدأ مرغوب جداً في عالم الأعمال الحديث، لا يزال يُساء فهمه على نطاق واسع. ومع ازدياد الدعوات الصادرة عن رجال الأعمال للتركيز على خلق قيمة طويلة الأجل، فإنه لن يكون بإمكانهم تحقيق ذلك إلا من خلال التوسع خارج إطار البحث والتطوير لتطوير القدرات من أجل إنجاز ابتكار خلاق. يجب أن تُشكل وظيفة الابتكار القوية القاعدة لأي شركة تعمل بشكل جيد ومستدام. إذ تنهار التقنيات الرائعة دونها وتفشل في اختراق أعمال جديدة.
اقرأ أيضاً: