على مدار العقود القليلة الماضية، اقتضت المرونة في قطاع التقنية إلى حد كبير التحرك أسرع وأسرع تدريجياً في مسار محدد مسبقاً، وكان الابتكار مدفوعاً إلى حد كبير بقدرتنا على تكديس عدد أكبر من الترانزستورات على رقيقة السيليكون. ومع كل جيل جديد من الرقائق، ظهرت قدرات وتطبيقات جديدة. والشركات التي طورت تلك التطبيقات بأسرع من غيرها كُتب لها النصر.
ولكن، على مدار العقود المقبلة، ستكتسب المرونة معنى جديداً، وهو القدرة على استكشاف العديد من المجالات في آن واحد والمزج بينها في بوتقة واحدة تخلق قيمة. سنحتاج إلى علماء كمبيوتر يتعاونون مع علماء متخصصين في علاج السرطان مثلاً لتحديد واسمات وراثية محددة بوسعها أن تفضي إلى علاج للمرض، ولإنجاز ذلك، سنحتاج إلى تعلم كيف نتحرك بوتيرة أبطأ كي نترك أثراً أعظم.
سيكون هذا التغيير عميقاً. وسنحتاج إلى إعادة النظر في أفكارنا القديمة حيال كيفية المنافسة والتعاون وتقديم منتجات جديدة إلى السوق. وبشكل أكثر تحديداً، سيتعين علينا إدارة 3 تحولات عميقة سترغمنا على توسعة نطاق الروابط بين الموهبة والتقنية والمعلومات وتعميقها، بدلاً من التحرك بسرعة وكسر القيود وحسب.
التحول الأول: من العصر الرقمي إلى العصر ما بعد الرقمي. من الصعب أن نتخيل أنه منذ 30 عاماً لم تملك غالبية الأسر الأميركية جهاز كمبيوتر، أو هاتفاً جوالاً. ولكن اليوم، أي مراهق يحمل هاتفاً ذكياً يستطيع الوصول إلى معلومات أكثر مما يمكن أن يصل إليه أخصائي مدرب كان يعمل في مؤسسة كبرى منذ جيل مضى.
وما دفع عجلة كل هذا التقدم هو "قانون مور" الذي يفيد بقدرتنا على مضاعفة قوة تقنياتنا الحاسوبية كل 18 شهراً تقريباً. ومع ذلك، أوشك "قانون مور" أن يصل إلى حدوده النظرية، والأرجح أنه سينتهي في العقد المقبل. تتمتع البنى الحوسبية الجديدة، كتقنيتي الحوسبة الكمية والحوسبة العصبية، بإمكانات عظيمة تعد بمزيد من التقدم، غير أنها ستكون أكثر تعقيداً بكثير من الرقائق الرقمية. ثقوا تماماً بأن هذا التحول لن يكون سلساً.
وفي الوقت نفسه، فإننا نشهد حالياً صعود نجم تقنيات وليدة، كعلم الأحياء التخليقية وعلم المواد المتقدمة والذكاء الاصطناعي. ومرة أخرى، تمثل هذه التقنيات الجديدة زيادة كبيرة في مستوى التعقيد. إننا نتحرك بسرعة من بيئة نفهم فيها التقنيات التي نستخدمها وتداعياتها فهماً وافياً جداً إلى عصر لن نفهمها فيه. إذا واصلنا التحرك بسرعة وتحطيم الأشياء من حولنا، فمن الأرجح أن نحطم شيئاً بالغ الأهمية.
التحول الثاني: من التكرار السريع إلى الاستكشاف. على مدار الثلاثين عاماً الماضية، حظينا برفاهية التعامل مع تقنيات نفهمها فهماً وافياً. فقد فتح كل جيل من الرقائق الدقيقة الباب على مصراعيه أمام إمكانات جديدة، لكنه عمل بالطريقة عينها التي عمل بها الجيل الأخير، حيث خلق الحد الأدنى من تكاليف التحويل. لقد كان التحدي الأساسي يتمثل في تصميم التطبيقات.
لذلك، لا ينبغي أن يكون من قبيل المفاجأة أن التكرار السريع ظهر بوصفه استراتيجية محورية. عندما تفهم التقنية الجوهرية التي تكمن وراء منتج أو خدمة ما، سيكون بوسعك التحرك بسرعة، مجرباً بدائل لا نهاية لها تقريباً حتى تصل إلى حل محسّن. وعادة ما يكون ذلك أكثر فعالية من النهج الأكثر تخطيطاً وتأنياً.
ولكن، على مدار العقد أو العقدين التاليين، سيتمثل التحدي في تطوير التقنية التي لا نفهمها فهماً وافياً على الإطلاق. لا تزال الحوسبة الكمية والحوسبة العصبية في مراحلهما الوليدة. وتعيد التحسينات الهائلة في علم الجينوم وعلم المواد تعريف حدود تلك المجالات. وهناك أيضاً قضايا أخلاقية خلافية تكتنف الذكاء الاصطناعي وعلم الجينوم ستقتضي منا المضي قدماً بحيطة وحذر.
وبالتالي، سنحتاج في المستقبل إلى أن نشدد بقدر أكبر على الاستكشاف. وسنحتاج إلى تكريس بعض الوقت لفهم هذه التقنيات الجديدة وعلاقتها بأعمالنا. والأهم من ذلك كله، أنه من الضروري أن نبدأ الاستكشاف في مرحلة مبكرة. بحلول الوقت الذي تقطع فيه كثير من هذه التقنيات شوطاً طويلاً، قد يفوت الأوان على مواكبتها واللحاق بها.
التحول الثالث: من المنافسة الشرسة إلى التضافر الجماعي. لقد كانت البيئة التنافسية التي تعودنا عليها بسيطة نسبياً. لكل صناعة محددة، كانت هناك بيئات عمل مميزة بناء على مجالات خبرة راسخة. وقد سارعت الشركات المتنافسة إلى تحويل مدخلات رقمية غير متمايزة نوعاً ما (رقائق وشفرات ومكونات.. إلخ) إلى منتجات وخدمات متمايزة. وكان عليك أن تسرع بالتحرك كي تحقق ميزة تتفوق بها على منافسيك.
من ناحية أخرى، فإن هذا العصر الجديد سيتسم بالتضافر الجماعي، وفيه ستقيم الحكومة شراكات مع الأوساط الأكاديمية والصناعات لاستكشاف تقنيات جديدة في مرحلة ما قبل التنافس. على سبيل المثال، يجمع "المركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة" (Joint Center for Energy Storage Research) أعمال خمسة مختبرات وطنية وعشرات المؤسسات الأكاديمية ومئات الشركات بغية تطوير بطاريات متقدمة.
أو لننظر إلى "معاهد التصنيع" (Manufacturing Institutes) التي تركز على كل شيء بداية من الأنسجة المتقدمة والمستحضرات الدوائية البيولوجية وانتهاءً بعلم الروبوتات والمواد المركبّة. تسمح هذه المراكز النشطة للشركات بالتعاون مع المختبرات الحكومية وأبرز المؤسسات الأكاديمية بغية تطوير الجيل التالي من التقنيات. كما أنها تدير عشرات المنشآت من المختبرات للمساعدة في طرح منتجات جديدة في السوق بوتيرة أسرع.
زرت بعض هذه المنشآت، وسنحت لي الفرصة للتحاور مع مسؤولين تنفيذيين من الشركات المشاركة. وما أذهلني بحق هو مدى تحمسهم لإمكانات هذا العصر الجديد. إن المرونة بالنسبة لهم لا تعني تعلم الركض أسرع في مسار مختار، وإنما توسعة نطاق العلاقات وتعميقها في شتى أرجاء بيئة العمل التقنية.
هذا اللون من التضافر الجماعي الذي ينطوي غالباً على منافسين مباشرين، كان حتى وقت ليس ببعيد يبدو غريباً، إن لم يبدو ساذجاً بشكل ميؤوس منه. ومع ذلك، فالشركات فائقة الأداء اليوم - بداية من شركات رأس مال المغامر (أو ما تسمى بشركات رأس المال الجريء) وحتى المسرعات المؤسسية - على دراية بشكل متزايد بأنها بحاجة إلى التواصل، وإلا لانتهى بها المآل إلى العزلة. ولدينا مثال واحد مفيد على وجه الخصوص. عندما قررت شركة "آي بي إم" تطوير الكمبيوتر الشخصي عام 1980، أرسلت فريقاً إلى مدينة "بوكا راتون" (Boca Raton) للعمل سراً على المشروع، وأطلقت المنتج بعدها بعام. ولكن، لتطوير الحوسبة الكميّة، صنعت الشركة شبكة كمية استوعبت العديد من المختبرات الوطنية والجامعات البحثية والمستخدمين النهائيين المحتملين كالبنوك وشركات التصنيع الكبرى، وكذلك الشركات الناشئة.
وما يزداد وضوحاً بشكل متزايد هو أن تطبيقات المستقبل الثورية لن تعتمد على تقنية منفردة كالرقيقة الرقمية. فهذه التقنيات الجديدة أكثر تعقيداً من أن يطورها أحد بمفرده. ولذلك، يمكننا التنبؤ بتحول جوهر المنافسة بعيداً عن سباقات التصميم والتكرار، والتوجه صوب بناء علاقات هادفة للتصدي للتحديات الكبرى. لن تستقر القوة في هذا العصر الجديد على قمة التدرجات الصناعية، وإنما ستنبع من قلب الشبكات وبيئات العمل.