"الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى"؛ هي إحدى المقولات الأكثر تردداً على ألسن المحللين والخبراء عند اندلاع صراع عسكري واسع النطاق، وقد أوردها الجنرال والمنظّر العسكري البروسي "فون كلاوزفيتز" في كتابه الشهير "عن الحرب" (Vom Krieg) عام 1832، وهو كتاب يُدرّس في الأكاديميات العسكرية إلى غاية اليوم نظراً لقيمته المتميزة وفعالية مبادئه العسكرية على أرض الواقع، لكن الكتاب "المقدس" للخطط العسكرية، حسب النُّقاد والمؤرخين، هو بدون منازع "فن الحرب" لمؤلفه الصيني "صن تزو" الذي يصنفه الخبراء ضمن أعظم مائة كتاب أُلّف في تاريخ البشرية وأكثرها تأثيراً في الاستراتيجية، وتكمن أهميته في حقيقة أنّ معظم مبادئه لا تزال صالحة للتطبيق حتى يومنا هذا وفي العديد من المجالات، مثل الأعمال التجارية والسياسة والتسويق وحتى الرياضة، هذا على الرغم من تأليفه منذ نحو 25 قرناً، أي سنة 500 قبل الميلاد تقريباً، ويحتوي الكتاب على 13 فصلاً، فيها مجموعة من المبادئ العسكرية مرتبة في سطر أو سطرين تقود لإجبار العدو على التخلي عن المقاومة والاستسلام بفضل استعمال الاستراتيجية القائمة على التمويه، والتجسس على العدو، والحرب المعنوية، والحركية الكبيرة للجيش، واستهداف تموين العدو ومركز اتصالاته، ثم تجنب الاشتباك في معارك حاسمة قدر الإمكان، ويلخص صن تزو ذلك بقول "خوض 100 معركة والانتصار فيها جميعاً ليس هو قمة المهارة، وإنما يكمن التفوق الأعظم في إخضاع العدو دون قتال"، وهو مبدأ يشبه في مضمونه استراتيجية المحيط الأزرق من مجال الأعمال، التي تقوم بدورها على مبدأ "أفضل طريقة للتغلب على المنافسين هي التوقف عن منافستهم".
يتفق "صن تزو" مع "كلاوزفيتز" في الكثير من المبادئ، لكن الأخير يعتبر أنّ الحرب صراع قائم على إخضاع العدو لسيطرتنا بالقوة إذ يقول: "الحرب هي فعل عنيف نهدف من خلاله لإجبار العدّو على الخضوع لإرادتنا"، وبالتالي هو يعتبِر أن القتال والعنف أمران حتميان ضمن تطور البشرية، أي إنّ الحرب الدائرة حالياً بين روسيا وأوكرانيا يمكن أن تُصنف ضمن منطق "كلاوزفيتز"، حتى أن الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين صرح عام 2015 "إن كانت المواجهة حتمية، فبادر بتوجيه الضربة الأولى"، غير أن التحركات العسكرية على أرض الواقع تظهر تطبيق مبادئ عسكرية من "فن الحرب" أيضاً.
لماذا التشابه بين المجال العسكري والأعمال الربحية؟
انتقل مصطلح الاستراتيجية من الميدان العسكري إلى ميدان الاقتصاد والأعمال خلال خمسينيات القرن الماضي، واستُخدم على نطاق واسع بسبب التشابه الموجود بين منطقيْ الحرب والأعمال التجارية، فكلاهما قائم على منطق المنافسة، وهو ما يبرر انتشار مصطلحات مثل الحرب الاقتصادية، وجوانب القوة، وجوانب الضعف، إلاّ أنّ التشابه ينحصر هنا لوجود اختلاف جوهري بين منطقيْ الحرب والأعمال، فالاستراتيجية في مجال الأعمال تقوم على منطق المنافسة المقننة، بينما تقوم الاستراتيجية العسكرية على منطق الصراع والقضاء على الآخر أو على الأقل إلحاق الضرر به.
أمثلة من ميدان الأعمال عن المبادئ العسكرية المطبقة في الحرب الحالية
فيما يلي بعض المبادئ من كتابيْ "فن الحرب" و"عن الحرب" مع سرد أمثلة واقعية عن تطبيقاتها في عالم الأعمال:
1- "ستعرض نفسك لهزيمة محتملة إن لم تحدد (أنت) مكان المعركة ووقتها"
اختارت روسيا توقيت بدء المعركة (24 فبراير/شباط 2022) ومكانها، حيث رأينا الحشود العسكرية على الحدود الأوكرانية تتجهز منذ أشهر غير أن تحديد التاريخ نفسه يكون بناء على عدة حسابات سياسية وعسكرية وجغرافية مثل حالة الطقس. على سبيل المثال، الطقس خلال هذه الفترة من العام يتميز بالبرد القارس والجليد ما يسمح بتنقل الدبابات والمركبات الثقيلة براً، عكس فصل الربيع الذي يكثر فيه الوحل وتهترئ فيه الطرق البرية غير المعبدة، إضافة لحسابات الطقس التي أسهمت بتوقيت التدخل الروسي في عز الشتاء وحاجة أوروبا للغاز.
في ميدان الأعمال، تكبدت شركة "إيلي ليلي" خسائر بقيمة 300 مليون دولار بعد اقتحامها المبكر جداً لمجال التكنولوجيا الحيوية واستحواذها على شركة "هايبر تك" عام 1986، وطرحت "جنرال موتورز" أول سيارة كهربائية بأعداد كبيرة "إي في 1" (EV1) في أواخر التسعينيات، لكنها توقفت عن إنتاجها في مطلع الألفية الجديدة بعد إنفاق ما يقرب من مليار دولار. واقتحمت شركة "بي بي" مجال مصادر الطاقة المتجددة في مرحلة مبكرة، لكنها ما لبثت أن أوصدت أبواب وحداتها العاملة في مجال الطاقة البديلة عام 2011، ويعود هذا إلى عدم جهوزية السوق بعد لهذه المنتجات المبتكرة؛ أما الأمثلة عن الدخول متأخراً، فهي كثيرة على غرار "كوداك" في مجال تكنولوجيا التصوير الرقمي، و"نوكيا" و"بلاكبيري" في مجال الهواتف الذكية.
2- "لا تدخل ميدان المعركة إلا إذا كنت متفوقاً من حيث العدة بنسبة ثلاثة مقابل واحد"
واضح أن حجم القوات التي خصصتها روسيا للهجوم العسكري أكبر بكثير من هذه النسبة، مع هدف محدد هو تطويق المدن المستهدفة، ولعل ما يبرز هذا المبدأ هو الهجوم من ثلاثة محاور رئيسية: من الشرق عبر إقليم دونباس ومن الجنوب عبر شبه جزيرة القرم ومن الشمال من ناحية بيلاروسيا، أضف إلى ذلك الإنزالات الجوية التي لم تكن معروفة أيام "فون كلاوزوفيتز" و"صن تزو".
في ميدان الأعمال، يقابل هذا المبدأ "استراتيجية التطويق" (Encirclement Strategy) التي تلجأ إليها الشركات لتحقيق تفوق على المدى البعيد، وتقضي بتخصيص موارد مالية وبشرية وتكنولوجية تفوق موارد المنافس المباشر بمقدار كبير، أو إطلاق حملات تسويقية لمنتجات متمايزة على نحو متزامن، كما يحصل عادة في مجال السلع الاستهلاكية سريعة الدوران (FMCG). على سبيل المثال، عندما دخلت الشركة العملاقة "دانون" الجزائر عام 2001، استخدمت تشكيلة واسعة ومتمايزة من حيث الأذواق والأحجام والأشكال لمحاصرة الشركات الرائدة آنذاك في منتج "الزبادي" (Yoghourt)، حيث كانت الخيارات الموجودة أمام المستهلك محدودة جداً نظراً للطابع المحلي الذي كان يميّز الشركات الرائدة آنذاك.
3- "عندما لا يكون التفوق المطلق ممكناً، يجب عليك حشد مواردك لتحقيق التفوق النسبي على مستوى نقطة حاسمة"
يبرز هذا المبدأ في تركيز أوكرانيا على حماية العاصمة كييف أطول فترة ممكنة، نظراً لأنها الهدف الرئيس للحملة العسكرية، وذلك من خلال حشد أكبر قدر من القوات حتى لو اقتضى الأمر سحب الجنود والمعدات العسكرية من مدن أخرى.
في ميدان الأعمال، وفي ظل الهيمنة العالمية لماكدونالدز على صناعة الوجبات السريعة بأكثر من 36 ألف مطعم وحضور في نحو 100 بلد حول العالم، اختارت "كويك" (Quick) البلجيكية تركيز قوتها على خدمة 8 بلدان رئيسة من ضمنها فرنسا وبلجيكا، وإعداد وصفات ملائمة لأذواق الأسواق المستهدفة، على غرار استخدام الزيوت الطبيعية في القلي، وخرجت في الوقت ذاته من نحو 11 سوقاً آخر (أغلقت نحو 60 مطعماً).
توجد العديد من المبادئ العسكرية الأخرى من الكتابين المذكورين مطبقة في ميدان الأعمال بمختلف فروعه الحديثة، على غرار التجارة الإلكترونية والأمن السيبراني، لكننا ركزنا حصراً على 3 مبادئ بارزة من الحرب الدائرة حالياً بين روسيا وأوكرانيا.