6 مفاهيم استراتيجية تميّز الشركات العظيمة مثل فيراري وآبل

14 دقيقة
ويست إند61/ غيتي إميدجيز

أعلنت شركة تصنيع الرقائق الإلكترونية في كاليفورنيا، إنفيديا (NVIDIA)، في نهاية عام 2023 عن تحقيق رقم قياسي جديد في المبيعات في ربع آخر من العام، وهو إنجاز أتى في أعقاب انضمامها إلى نادي نخبة الشركات الأميركية التي تبلغ قيمتها السوقية تريليون دولار في وقت سابق من العام نفسه. باتت الشركة التي عزز ازدهار الذكاء الاصطناعي نجاحها تستحوذ الآن على نحو 80% من الحصة السوقية العالمية لرقائق أشباه الموصّلات الخاصة بوحدات معالجة الرسومات (GPU).

من ناحية أخرى، لم تحقق شركة إنتل (Intel) المنافسة في مجال تصنيع أشباه الموصّلات أداءً بمستوى أداء إنفيديا، وعلى الرغم من أنها شهدت بالفعل زيادة غير متوقعة في أرباحها الفصلية حتى كتابة هذه السطور في بداية عام 2024، فقد عانت سابقاً صعوبات كبيرة لسنوات، وحاولت النهوض مجدداً من خلال تعيين رئيس تنفيذي جديد في عام 2021، ولكنها سجلت في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023 أكبر خسارة فصلية في تاريخها، وأرجع مراقبو القطاع تراجعها إلى عدة عوامل، منها المنافسة الشديدة من الشركات الكبرى الأخرى التي تعمل في قطاع أشباه الموصّلات.

حتى وقت قريب نسبياً، كانت إنتل تتفوق على الشركات المنافسة لها مثل إنفيديا في قطاع أشباه الموصّلات، فوفقاً لتحليل أجراه فريقي استناداً إلى بيانات شركة الأبحاث الاستثمارية فاليو لاين (Value Line)، بلغت القيمة المؤسسية (Enterprise Value - EV) لشركة إنتل 226 مليار دولار قبل 5 سنوات، متجاوزة قيمة إنفيديا التي بلغت 76 مليار دولار آنذاك. ومنذ ذلك الحين، زادت قيمة إنفيديا 4 أضعاف لتصل إلى 315 مليار دولار، في حين انخفضت قيمة شركة إنتل إلى 218 مليار دولار؛ أي أن إنفيديا حققت نمو إيرادات سنوياً بنسبة أكبر من 20% وسطياً، في حين ظلت إيرادات إنتل ثابتة.

كيف تمكنت إنفيديا من تحقيق هذا التفوق الحاسم على نظيرتها؟ ثمة العديد من العوامل التي أسهمت في ذلك بالطبع، لكن الأبحاث تشير إلى احتمال أن يكون أحد العناصر الرئيسية لنجاح إنفيديا هو تبنيها لواحد من 6 مبادئ استراتيجية جديدة تعمل مجتمعة على إحداث تغيير جذري في طرق اكتساب الشركات ميزة تنافسية.

دليل استراتيجي جديد

تنتشر المفاهيم الاستراتيجية وتندثر مع تغير احتياجات السوق ودينامياتها، فعلى سبيل المثال، خلال فترة العشرينيات من القرن الماضي، حين شهد الاقتصاد الأميركي نمواً كبيراً أعقبه الركود العظيم، ركزت المفاهيم الاستراتيجية السائدة على التنبؤ بالدورات الاقتصادية في القطاعات والتحكم بها، ويعود الفضل في تعميم هذه المبادئ إلى أعمال الاقتصادي جوزيف شومبيتر وتقديمه مفهوم "التدمير الإبداعي". أما في الخمسينيات، فقد حوّل خبراء استراتيجيات الشركات تركيزهم إلى داخل الشركات، حيث طوروا ممارسة الاستراتيجية الكلية وأضفوا الطابع الرسمي عليها، وأدى ذلك بدوره إلى شيوع تحليل سوات (SWOT analysis) في الستينيات، حيث حوّل خبراء الاستراتيجية تركيزهم إلى ربط العوامل الداخلية (مواطن القوة والضعف) بالعوامل الخارجية (الفرص والتهديدات). مع دخولنا الثمانينيات، شاع مفهوم "الميزة التنافسية" (Competitive Advantage) بفضل عمل الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، مايكل بورتر. وبعد عقد من الزمن، حوّل أستاذ آخر في كلية هارفارد للأعمال، وهو كلايتون كريستنسن، تركيز خبراء الاستراتيجية بمجملهم إلى مفهوم الزعزعة" (Disruption).

ربما نكون على أعتاب تحوّل استراتيجي كبير جديد، حيث تزداد أهمية دور منظومة العمل وما يرتبط بها من شراكات وعمل تعاوني في تنافس المؤسسات. ونحن نعلم ذلك لأن الرؤساء التنفيذيين للاستراتيجيات في شبكتنا أفادوا بأنهم يجربون مجموعة جديدة من الأساليب الاستراتيجية. يتجلى هذا التطور في دليل استراتيجيات العمل أيضاً بوضوح في مجموعة الكتب والمقالات والمشاريع البحثية الكثيرة التي تركز كلها على تبنّي المؤسسات لعقليات منظومة العمل والهياكل التنظيمية الجديدة للنجاح في بيئة الأعمال الحالية المتقلبة والسريعة التغير.

أردنا أنا وفريقي في مركز دراسات آوت ثينكر نتووركس (Outthinker Networks) التعمق في التغييرات التي تطرأ على معايير الاستراتيجية وتحديد التطورات في دليل الاستراتيجيات الجديد بدقة. لذلك درسنا الإجراءات التي يجربها أفضل خبراء الاستراتيجية اليوم. ضمن مجموعة من 3 آلاف شركة، حددنا قائمة تضم 15 ثنائية من الشركات تفوقت في كل منها شركة على الأخرى بفارق كبير استناداً إلى 3 من أصل 4 مقاييس على الأقل، وهي هامش الربح التشغيلي الحالي ونمو الإيرادات (على مدى السنوات الخمس الماضية) وتحسين هامش الربح التشغيلي (على مدى 5 سنوات) ونمو القيمة المؤسسية (على مدى 5 سنوات أيضاً). تضمنت القائمة شركات كبرى مثل شركة إنفيديا مقابل إنتل، ومايكروسوفت مقابل أوراكل، ونتفليكس مقابل بارامونت، وتيسلا مقابل فورد، وهيبيت (Hibbett) مقابل فوت لوكر (Foot Locker).

كان هدفنا من الدراسة فهم دور الخيارات الاستراتيجية التي تتخذها المؤسسات في نجاحها، وبدأنا بتحليل بياناتها العامة مستخدمين التحليل السردي لتحديد المفاهيم الاستراتيجية التي ذكرت أنها تستخدمها. حللنا ما يزيد مجموعه على 7 آلاف صفحة و29 تقريراً سنوياً واستكملنا هذا البحث المكتبي بمقابلات مع نحو 100 رئيس تنفيذي للاستراتيجية من رؤساء الاستراتيجيات الذين نعرفهم في المؤسسات الكبيرة في مختلف القطاعات، بدءاً من الخدمات المالية والتكنولوجيا وصولاً إلى الإعلام والخدمات المهنية.

كشفت هذه البيانات الكمية والنوعية الهائلة أن ذكر الشركات المتفوقة للمفاهيم الاستراتيجية الستة التالية كان أكثر بكثير مقارنة بالشركات ذات الأداء الضعيف:

  • الاستعانة بقنوات شركاء آخرين
  • التشارك مع طرف ثالث
  • الإفصاح عن الاستراتيجية
  • الحرص على إيقاع أثر إيجابي
  • ترك المنافسة تأخذ مجراها
  • تبنّي نهج التجارب الصغيرة النطاق

الاستعانة بقنوات شركاء آخرين

كانت احتمالات ذكر الشركات المتفوقة لمفهوم الوصول إلى الأسواق من خلال شركاء قنوات التوزيع بدلاً من الوصول المباشر أعلى بنسبة 60%؛ بفضل التواصل الرقمي وانتشار الخدمات الرقمية، أصبح من الأسهل على الشركات أكثر من أي وقت مضى أن تندمج بسلاسة في قنوات الشركاء، في الواقع، شراكات القنوات ليست أسلوباً جديداً على الإطلاق، لكن طبيعة هذه القنوات تطورت إلى حد كبير.

كان بمقدور العملاء التمييز في الماضي بسهولة نسبية بين مزودي المنتجات وقنوات الطرف الثالث؛ فعلى سبيل المثال، كان من الواضح للعملاء أن مكبرات الصوت هارمان كاردون (Harman Kardon) في سيارات بي إم دبليو ليست من تصنيع شركة بي إم دبليو نفسها. أما اليوم، تندمج الخدمات والمنتجات بسلاسة إلى درجة يصعب عندها تمييز مصادر المكونات المختلفة بوضوح. على سبيل المثال، تعمل خدمة آبل باي (Apple Pay) بصفتها بوابة للعملاء للوصول إلى أنظمة الدفع الخاصة بماستركارد أو فيزا، لكن قلة من العملاء يدركون ذلك.

بالنسبة الشركات التي تهدف إلى توسيع نطاق خدماتها والدخول إلى أسواق جديدة بكفاءة، من الضروري أن تدخل إلى قنوات شركائها الرقمية بسهولة، وهي وسيلة فعالة من حيث التكلفة للتغلب على الحواجز الجغرافية واللوجستية التقليدية، وتتيح للشركات الاستجابة بسرعة لطلب العملاء وتعديل استراتيجياتها عند الحاجة حتى تتمكن من الحفاظ على قدرتها التنافسية في الأسواق السريعة التغير.

شراكة إنفيديا مع شركة آرم هولدنغز (ARM Holdings) البريطانية لتصميم البرمجيات مثال رائع على استراتيجية "الاستعانة بقنوات شركاء آخرين"، وهي عامل أسهم دون شك في نجاح إنفيديا المميز الذي أشرنا إليه سابقاً. هذه الشراكة هي علاقة ذات منفعة متبادلة تركز على دمج قدرات إنفيديا بمجال التعلم العميق والذكاء الاصطناعي في تصميمات معالجات شركة آرم الموفرة للطاقة، وهي تتيح لإنفيديا الاستفادة من الانتشار الواسع لشركة آرم في مختلف القطاعات التقنية، مثل أجهزة الحوسبة المحمولة والمركبات الذاتية القيادة، حيث نجد أن كفاءة استهلاك الطاقة وإمكانية التنقل لهما أهمية بالغة في النجاح.

يمكن للمؤسسات أيضاً أن تخلق القيمة بأن تصبح هي نفسها القنوات التي يستعين بها الآخرون. على سبيل المثال، صممت أمازون خدمة "أليكسا" لتكون قناة تستعين بها الشركات المزودة للخدمات الأخرى. يقول أستاذ الاستراتيجية موهان سوبرامانيام في مقالته "كيف تخلق المنتجات الذكية صلة بين العملاء" (How Smart Products Create Connected Customers): "مع تزايد قيمة البيانات الناتجة من تفاعلات العملاء الرقمية تزداد قيمة أن تصبح شركتك هي القناة التي يستعين بها الآخرون".

التشارك مع طرف ثالث

بلإضافة إلى استخدام شراكات قنوات التوزيع بكثافة (الاستعانة بالقنوات)، كانت احتمالات ذكر الشركات المتفوقة للتشارك مع الكيانات التكميلية أعلى بنسبة 110%، إذ تمثل هذه الشراكات عنصراً جوهرياً من استراتيجياتها حتى إن كانت هذه الكيانات منافسة قوية لها. وهذا منطقي بما أن التكنولوجيات نفسها التي تسمح للشركات بدمج منتجاتها وخدماتها في قنوات الشركاء تسهّل عليها أيضاً التنسيق مع المنتجات والخدمات المكملة. وقد يتطلب اعتماد مثل هذه الأساليب تغيير نظرة الشركة لمنافساتها.

على سبيل المثال، كان قرار مايكروسوفت في عام 2014 إتاحة منتجها أوفيس على أجهزة آبل التي تعمل بنظام آي أو إس مؤشراً أولياً صريحاً على مثل هذا التحول في تفكير الشركة. فمن خلال دمج تطبيقات أوفيس في نظام آي أو إس، لم تكتفِ مايكروسوفت بتوسيع قاعدة مستخدميها فحسب، بل قدمت أيضاً حلاً أكثر تكاملاً لهؤلاء المستخدمين.

كانت هذه الشراكة مع شركة آبل، التي كانت منافسة قوية في السابق، أكثر من مجرد عرض منتج جديد؛ لقد مثّلت تتويجاً لتحول النموذج الفكري في نهج مايكروسوفت الاستراتيجي، وهذا يعكس الاتجاهات الجديدة التي أبرزناها في تحليلنا. وصف الرئيس السابق لقسم الخوادم والأدوات في مايكروسوفت، بوب موغليا، (أحد الرؤساء الأربعة الذين كانوا يتبعون مباشرة للرئيس التنفيذي آنذاك، ستيف بالمر) هذا التغيير بأنه تحول من عقلية "التركيز على الأجهزة" إلى عقلية "التركيز على الخدمات"؛ وقد تبنّت مايكروسوفت في ظل قيادة ساتيا ناديلا عقلية "التركيز على الخدمات".

يقول موغليا: "بدأ التحول نحو التركيز على الخدمات في الشركة فعلياً في عام 2000 تقريباً. كان هناك اهتمام متزايد بالخدمات ولكن كان ثمة صراع دائر داخل الشركة، وكانت بعض القرارات تصنع بعقلية التركيز على الأجهزة". على سبيل المثال، تأخر طرح نسخة أوفيس لنظام آي أو إس حتى أصبحت قدراته الوظيفية كلها متاحة أيضاً على أجهزة الكمبيوتر الشخصية.

وقد جسّد ساتيا ناديلا، الذي حلّ في نهاية المطاف محل موغليا بعد مغادرته ثم أصبح فيما بعد الرئيس التنفيذي للشركة، هذه العقلية الجديدة. كتب ناديلا: "غالباً ما يُنظر إلى الشراكة على أنها تضم طرفاً رابحاً وطرفاً خاسراً؛ أي كل ما يكسبه أحد الشريكين يخسره الآخر. أنا لا أرى الأمر بهذه الطريقة. ففي عصر التحول الرقمي الحالي، يمكننا اعتبار كل مؤسسة وكل قطاع شريكاً محتملاً". عندما عيّن مجلس الإدارة أخيراً ناديلا رئيساً تنفيذياً للشركة، دلّ ذلك على تغيير كبير في التوجه الاستراتيجي لشركة مايكروسوفت.

تغتنم مايكروسوفت الآن فرص التعاون مع الشركات الشريكة التي تتنافس فيما بينها في مجالات معينة بحماس أكبر، مثل شركات أدوبي وسيلز فورس وجوجل، وأبرز مثال حديث على هذه العقلية هو استثمار الشركة مليارات الدولارات في شركة أوبن أيه آي.

لقد ولّدت مثل هذه الإجراءات التي اتخذتها مايكروسوفت قيمة كبيرة لها. خذ مثلاً تطبيق أوفيس الذي أصبح تطبيق الأعمال الأكثر استخداماً على منصة آي كلاود السحابية حالياً، وتتقدم الشركة على منافساتها في سباق الذكاء الاصطناعي وقد شهدت نمواً كبيراً في عائدها التشغيلي، إذ ازداد متوسط نمو إيراداتها بنسبة 17.1% على مدار 5 سنوات، وازدادت قيمتها المؤسسية من 726.36 مليار دولار إلى 2,253.4 تريليون دولار خلال الفترة نفسها استناداً إلى تحليل فريقي لبيانات شركة فاليو لاين.

الإفصاح عن الاستراتيجية

تضاعف احتمال إفصاح الشركات المتفوقة عن غاياتها الاستراتيجية وخططها بدلاً من إبقائها طي الكتمان مثلما جرت العادة خوفاً من تقليد الشركات المنافسة أو تقويضها لها، إذ أدركت المؤسسات أن فوائد الإفصاح عن رؤيتها الاستراتيجية للسوق وللشركات المنافسة يمكن أن تفوق المخاطر.

السبب في ذلك هو أن النجاح في سوق اليوم يستند في كثير من الأحيان إلى القدرة على تفعيل منظومات عمل دائمة التطور والتنسيق بينها، وإظهار الاتجاه الاستراتيجي بوضوح يجذب الشركاء المحتملين ويتيح بناء تحالفات قوية، كما تعزز الشفافية ثقة الأطراف المتعاونة وثقة العملاء والمستثمرين وأصحاب المصلحة الآخرين الذين يقدّرون التواصل المفتوح وممارسات الأعمال الشفافة. وبفضل التقدم في التكنولوجيا، أصبح من السهل اليوم أكثر من أي وقت مضى مشاركة المعلومات المفيدة للطرفين بصورة فورية وآمنة.

في خطوة حاسمة تهدف إلى تحديد مستقبل الزراعة، اتبعت شركة دير آند كو (Deere & Co) أسلوباً استراتيجياً في تطبيق مفهوم "الإفصاح عن الاستراتيجية" من خلال الاستثمار علناً في تقنيات الزراعة الدقيقة. ففي خضم الثورة التكنولوجية في القطاع الزراعي، التي ميزتها اتجاهات جديدة مثل استخدام أجهزة إنترنت الأشياء وتحليلات البيانات وواجهات برمجة التطبيقات والأتمتة، لم تكتفِ شركة دير آند كو بالتكيف فحسب بل قادت التغيير بنفسها. فقد نفذت الشركة استثمارات كبيرة في تطوير تكنولوجيا الزراعة الدقيقة والاستحواذ عليها، بل قادت حركة لترويجها وتبنيها على نطاق أوسع. تتميز دير آند كو عن الشركات المنافسة لها في الترويج بفعالية أكبر لرؤيتها للمزرعة الذكية، سواء عبر الإعلان عن شراكاتها مع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الزراعية أو مع شركة سبيس إكس لتوفير خدمات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية للمزارعين، أو من خلال إطلاق مشاريع تعاونية مع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الزراعية، أو إلقاء كلمات رئيسية في المؤتمرات الزراعية والتكنولوجية مثل معرض الإلكترونيات الاستهلاكية (CES)، أو نشر الأخبار باستمرار على صفحتها الإلكترونية المخصصة للتكنولوجيا الزراعية وفي المنصات الإعلامية بدءاً من شبكة سي إن بي سي الإخبارية وصولاً إلى مجلة بارونز (Barrons) الأسبوعية.

لا تتعلق هذه الشفافية الاستراتيجية بالابتكار فقط؛ بل كانت خطوة مدروسة من دير آند كو لتشكيل اتجاهات السوق وتوجيه توقعات العملاء والاحتفاظ بمكانة ريادية في مشهد التكنولوجيا الزراعية المتطور باستمرار.

وقد بدأت الشركات الكبيرة الأخرى في القطاع تحذو حذوها مستكشفة الإمكانات التحويلية للتكنولوجيا في الزراعة، لكن شركة دير آند كو برزت بصفتها منصة تعتمد عليها عدة شركات مبتكرة أخرى، وأظهرت نمواً وقوة مالية ملحوظين. بلغت أرباح الشركة للسنة المالية 2023 نحو 33.89 دولاراً للسهم الواحد، ما يمثل معدل نمو بنسبة 46% على مدار عام واحد، وفقاً لتحليل فريقي لبيانات شركة فاليو لاين. هذا الأداء المالي القوي يجعل الشركة خياراً جذاباً للمستثمرين الذين يسعون إلى تحقيق أرباح قوية في قطاع المعدات الزراعية.

تزداد قيمة الإفصاح عن استراتيجيتك عندما يزداد عدد أصحاب المصلحة الذين يرون فائدة في الانضمام إليك، وهذا ما يجعل المفهوم الاستراتيجي الآتي منطقياً.

الحرص على إيقاع أثر إيجابي

تزداد احتمالات أن تستشهد الشركات المتفوقة بهذا المفهوم الاستراتيجي بنسبة 85%. يتمحور نهج "الحرص على إيقاع أثر إيجابي" حول تنفيذ استراتيجية تضمن أن يعود نموك بالنفع على أصحاب المصلحة المختلفين؛ بدءاً من الموردين والموظفين وصولاً إلى المجتمعات والمؤسسات غير الحكومية والحكومات ومجموعات المصلحة الاجتماعية، وقد ينطوي ذلك على تبني ممارسات مستدامة بيئياً أو مسؤولة اجتماعياً أو تنفيذ مبادرات تفيد المجتمع.

عندما يرى أصحاب المصلحة أن نجاح الشركة يدعم نجاحهم أيضاً، فمن المرجح أن يدعموا الشركة بطرق مختلفة، مثل مواءمة استثماراتهم الاستراتيجية مع استثماراتها أو شراء منتجاتها أو الدفاع عنها، أو (في حالة الموظفين) إظهار الاندماج في العمل ورفع الإنتاجية.

يمكن لهذا النهج أيضاً أن يجذب المستثمرين الذين يزداد تركيزهم على الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG) عند تقييم الفرص الاستثمارية. تشير الأبحاث التي أجرتها شركة ماكنزي آند كومباني إلى أن الشركات ذات الأداء العالي في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات تتمتع "بنمو أسرع وتقييمات أعلى من الشركات الأخرى في قطاعها بفارق يتراوح بين 10 و20% في كل حالة".

على سبيل المثال، تجسد مبادرة ماستركارد "ما بعد الأموال النقدية" (Beyond Cash) التي أطلقتها في عام 2012 تقريباً مفهوم "الحرص على إيقاع أثر إيجابي"، حيث تمثل توجهاً استراتيجياً كبيراً نحو تعزيز التقدم الاجتماعي والاقتصادي. أنشأت ماستركارد هذه المبادرة عندما أدركت أن أكبر فرصها في السوق لم تكن الحصول على حصة سوقية من شركات الدفع الأخرى، بل من الأموال النقدية. وقد تبنى رئيسها التنفيذي في ذلك الوقت، أجاي بانجا، في البداية شعاراً استراتيجياً أطلق عليه "تخلصوا من الأموال النقدية" (Kill Cash)، الذي أعاد تسميته لاحقاً إلى "عالم ما بعد الأموال النقدية" (A World Beyond Cash)، مسلطاً الضوء على الفوائد الاجتماعية الأوسع نطاقاً لتقليل اعتماد العالم على الأموال النقدية.

أرست هذه المبادرة الأساس لتحول تجاوز تنويع الخدمات ببساطة، إذ التزمت ببناء عالم يمكن لأي شخص فيه إجراء المعاملات رقمياً، ما يقلل الاعتماد على الأموال النقدية والتكاليف الاجتماعية الناجمة عن الاقتصادات القائمة على الأموال النقدية.

هذا النهج مفيد لا سيما للسكان الذين يعانون صعوبة الوصول إلى الخدمات المصرفية أو الذين لا تشملهم هذه الخدمات، وهو يعكس فهم ماستركارد للدور المؤثر الذي يمكن أن تؤديه من خلال الاستفادة من شبكتها العالمية والتكنولوجيا التي تمتلكها لتعزيز بيئة اقتصادية مستدامة وشاملة. من خلال تبني استراتيجية "الحرص على إيقاع أثر إيجابي"، تُظهر الشركة أن نجاح الشركات يرتبط على نحو متزايد بالقدرة على إحداث أثر اجتماعي إيجابي.

عندما أجريت مقابلة مع بانجا، وهو اليوم رئيس البنك الدولي، سلّط الضوء على دور هذه الاستراتيجية المحوري في تنشيط دور المؤسسات غير الحكومية والحكومات وأصحاب المصلحة الآخرين على مستوى العالم للعمل على تحقيق الهدف المشترك المتمثل في ربط غير المشمولين بالخدمات المصرفية بالخدمات المالية رقمياً. وأشار أيضاً إلى دور هذه الاستراتيجية في زيادة اندماج موظفي ماستركارد في العمل وشعورهم بالفخر. وقد أسهم ذلك بالتأكيد في ارتفاع سهم ماستركارد الواحد من 25 دولاراً إلى نحو 350 دولاراً خلال فترة ولايته.

ترك المنافسة تأخذ مجراها

كانت احتمالات ذكر الشركات المتفوقة لهذا المفهوم الاستراتيجي، المعروف أيضاً باستراتيجية "التابع السريع" (Fast Follower)، أكبر بنسبة 80%. تقليدياً، سعت الشركات إلى تحقيق "ميزة المتحرك الأول" (First-mover Advantage) لما لها من فوائد مثل تحقيق الريادة التكنولوجية وتمييز العلامة التجارية واكتساب ولاء العملاء لها في مرحلة مبكرة والسيطرة على الموارد والقنوات، ورفع تكاليف التبديل على العملاء أو زيادة حواجز دخول الشركات المنافسة إلى السوق. لكن الحسابات تتغير؛ فبفضل توافر بيانات تبني العملاء إليها وتلاشي الولاء للعلامة التجارية وانخفاض تكاليف التبديل التي يتحملها العملاء وتقصير وقت طرح المنتج، أصبحت مزايا المتحرك الأول أقل أهمية، وأصبح السماح للآخرين باختبار السوق والتكنولوجيا مع الاستعداد لتجاوزهم عندما تسنح الفرصة نهجاً أكثر فعالية.

يوفر السماح للآخرين بتجربة الدخول إلى السوق أولاً فرصة للتعلم من أخطائهم، ما يتيح للمنافسين اللاحقين الاستفادة من هذه الدروس وتجنب المزالق المماثلة. كما أن استراتيجية التابع السريع تسمح للشركات بتبني التكنولوجيات الحديثة التي باتت تتقدم بسرعة أكبر مقارنة بالماضي، ما يؤدي إلى حلول أفضل وأكثر فعالية من حيث التكلفة.

تشير الأستاذة في كلية كولومبيا للأعمال، ريتا ماكغراث، إلى أن الأمر يتعلق بتحديد "نقاط الانعطاف الاستراتيجية" التي تتجاوز عندها تكلفة التريث في التحرك تكلفة التحرك السريع؛ بعبارة أخرى، تحديد الوقت الأفضل من الناحية الاستراتيجية لدخول سوق أو تبني تكنولوجيا ما بالموازنة بين المخاطر والفرص بناءً على جاهزية السوق ونضج التكنولوجيا وقدرة المؤسسة.

وخير مثال على ذلك الدخول الاستراتيجي لشركة فيراري إلى سوق سيارات الدفع الرباعي الرياضية المتعددة الاستخدامات "إس يو في" (SUV) الفاخرة، ظلت فيراري لزمن طويل متمسكة بإعلانها أنها لن تنتج سيارات إس يو في، وبدا هذا الموقف ثابتاً لا يتزعزع، حتى عندما شهد قطاع السيارات تزايد تفضيل المستهلكين لهذا النوع من السيارات.

من ناحية أخرى، اتخذت الشركات المنافسة التقليدية لفيراري مساراً مختلفاً؛ فقد بدأت مرسيدس بنز إنتاج سيارات إس يو في من طراز إم كلاس (M-Class) في عام 1997، حيث غامرت بدخول سوق السيارات الفاخرة هذه في بدايتها، واتخذت شركة بورش أيضاً على الرغم من التحديات المالية التي كانت تواجهها آنذاك خطوة جريئة في عام 2002 من خلال تقديم طراز كايين (Cayenne)، الذي أنقذ العلامة التجارية الألمانية في نهاية المطاف من الانهيار المالي المحتمل.

لكن ديناميات السوق تطورت، ما دفع شركة السيارات الإيطالية فيراري إلى إعادة تقييم موقفها، إذ أدركت أن سوق سيارات إس يو في الرياضية الفاخرة توفر فرصة فريدة للنمو والتنويع. علاوة على ذلك، راقبت فيراري تجارب الشركات المنافسة التي تجرأت على الدخول إلى هذه الشريحة من السوق وتعلمت منها دروساً قيّمة.

في عام 2022، قطعت فيراري أخيراً ثباتها الاستراتيجي وكشفت النقاب عن سيارة بيوروسانغويه (Purosangue)، التي دخلت بها سوق سيارات إس يو في الرياضية الفاخرة. وقد أتاح لها تأخير دخولها إلى هذه الشريحة من السوق تعلم أفضل الممارسات والابتكارات من الشركات الأخرى، بدءاً من فهم تفضيلات المشترين وشرائح السوق ومستويات الأسعار إلى تطوير تكنولوجيات الأداء والسلامة المتقدمة، والاستفادة من التكنولوجيات الأكثر نضجاً. كما استفادت أيضاً من سوق سيارات إس يو في الرياضية الفاخرة الناضجة إذ كان الطلب فيها راسخاً وتفضيلات المستهلكين معروفة.

حققت المبادرة نجاحاً باهراً؛ فحتى قبل تسليم أول سيارة من طراز بيوروسانغويه، توقفت فيراري عن تلقي الطلبات عليها في عام 2022 بسبب تراكم الطلب الهائل، وبِاعت الشركة السيارات المقرر إنتاجها مسبّقاً كلها حتى عام 2026، مع العلم أن قيمة السيارة الواحدة تبلغ 400 ألف دولار.

تبنّي نهج التجارب الصغيرة النطاق

كانت احتمالات أن تشير الشركات المتفوقة صراحة إلى استخدام تجارب الأعمال التي تهدف إلى التعلم أكبر بنسبة 70%، يعكس ذلك الاهتمام المتزايد بمنهجيات "تحرك، تعلم، ابنِ" (Act, Learn, Build) المرنة بدلاً من منهجيات "أثبِت، خطط، نفّذ" (Prove-Plan-Execute) التقليدية. وقد أدى شيوع أساليب مثل التخطيط المدفوع بالاكتشاف والشركات الناشئة الرشيقة وغيرهما من الأساليب المرنة إلى انتشار هذه الفلسفة القائمة على اتخاذ خطوات صغيرة والتعلم منها وتقييم إمكانية المضي قدماً في الاستثمار، والاستغناء عن إجراء دراسات الجدوى المحكمة.

ثمة عوامل تؤثر في توسع نطاق تبني هذا المفهوم الاستراتيجي، فقد مكّنت التطورات التكنولوجية الشركات من توليد المزيد من البيانات وتحليلها بكفاءة أكبر، وتتيح حلقة الملاحظات الفورية هذه التعلم من الإجراءات الصغيرة بفعالية أكبر وإجراء تعديلات أسرع.

كما أن التنبؤ بالأسواق يزداد صعوبة وتفضيلات العملاء تتغير بسرعة، ما يقوّض دقة التخطيط الطويل المدى. في هذا الصدد، يوفر نهج "تحرك، تعلّم، ابنِ" للشركات المرونة اللازمة للاستجابة بسرعة لتغيرات السوق وتكييف عروضها بناءً على ملاحظات العملاء. كما أن التجريب على نطاق أصغر يساعد الشركات على إدارة المخاطر بفعالية، ما يسمح لها باختبار الفرضيات وتحديد المزالق المحتملة قبل تخصيص موارد كبيرة.

نهج تيسلا في تصنيع البطاريات مثالٌ واقعي نموذجي على ذلك؛ إذ اعتمدت الشركة نهجاً تجميعياً لبناء مصنع بطاريات الليثيوم أيون الذي تبلغ تكلفته 5 مليارات دولار في ولاية نيفادا، وبدلاً من انتظار تشغيل المنشأة بالكامل بنت تيسلا المصنع العملاق من وحدات أو "كتل" وظيفية منفصلة، حيث يمكن لكل كتلة أن تبدأ الإنتاج بمجرد اكتمالها، ما يقلل الوقت اللازم لبدء توليد الإيرادات بدرجة كبيرة. لم تقتصر فائدة هذا النهج التجميعي على تسريع الجدول الزمني للإنتاج فحسب، بل مكّن تيسلا أيضاً من التعلم والتحسين بعد إنهاء كل كتلة، ما أدى إلى دورات إنتاج أسرع وأكثر كفاءة. في عام 2020، كان مصنع تيسلا العملاق في الولايات المتحدة أكبر مصنع لبطاريات الليثيوم أيون في العالم، ووفقاً للشركة، فإنه سينتج في نهاية المطاف 100 غيغا واط ساعي من خلال صنع 4,680 خلية سنوياً، ما يكفي لتشغيل مليوني سيارة كهربائية.

ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى الخبراء الاستراتيجيين؟

يرى الممارسون أصحاب الخبرة والباحثون على حد سواء أن هناك تحولاً جذرياً في طريقة عمل الشركات، وهناك قبول على نطاق واسع بأن الشركات تتنافس بصورة متزايدة ضمن منظومات محددة وتتبنى أساليب أكثر ملاءمة للتغيير السريع. لكن هذه المفاهيم الاستراتيجية الستة الجديدة تحدد الخطوط العريضة للقواعد الاستراتيجية التي اعتمدتها الشركات الناجحة للتنافس في ظل ديناميات السوق الحالية، وقد بدأت الشركات الأخرى محاكاتها بطبيعة الحال.

ستكتسب الشركات التي تتحلى بالمرونة اللازمة لإدراك المفاهيم الاستراتيجية الأكثر ملاءمة لواقع اليوم وتبنّيها أفضلية على الشركات التي تتمسك بالوضع الراهن والأساليب التقليدية. وكما يشير مارتن ريفز من مجموعة بوسطن الاستشارية، ففي بيئة الأعمال التي تتغير بوتيرة أسرع وتزداد غموضاً وتعقيداً يوماً بعد يوم بات اختيار النهج الصحيح للاستراتيجية أهم وأصعب من أي وقت مضى.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي