عندما تطور الشركات أنواعاً جديدة من التكنولوجيا، فلن تكون قادرة على التيقن أبداً من ردود أفعال السوق على هذه الخطوة. ومع ذلك، فإنّ مستقبل أي تكنولوجيا معينة ليس بهذا القدر من الغموض الذي يبدو عليه. فعندما أعمل مع شركات التكنولوجيا على بناء استراتيجية الابتكار أو تنقيح هذه الاستراتيجيات، أبدأ بتمرين يساعد هذه الشركات في توقع المجالات التي ستحصل الاختراقات الكبرى فيها، أو أين يجب أن تحصل فيها.
وثمة أمر أساسي في هذا التمرين، ألا وهو دراسة الأبعاد الأساسية التي تطورت هذه التكنولوجيا فيها مثل سرعة المعالج في عالم الحواسب، وإلى أي مدى تمت تلبية حاجات المستخدمين، لأن ذلك يعطي الشركات نظرة معمقة على المجالات التي يجب أن تركّز جهودها وأموالها فيها، كما يساعدها أيضاً في التكهن بتحركات المنافسين والتهديدات التي تفرضها الجهات الخارجية.
وعادة ما اقتبس واحداً من أمثلتي المفضلة من قطاعي الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية والتسجيلات، حيث كانت المنافسة فيهما قائمة على نقاوة الصوت لعقود من الزمن. وبحلول أواسط تسعينيات القرن العشرين، كان كلا القطاعين يتوقان إلى طرح الجيل التالي من أشكال الصوت. وفي العام 1996، شكّلت كل من "توشيبا" (Toshiba) و"هيتاشي" (Hitachi)، و"تايم وارنر" (Time Warner) وغيرها تجمعاً من الشركات لدعم تكنولوجيا جديدة تدعى "أصوات أقراص الفيديو الرقمية" (DVD Audio)، والتي توفر صوتاً نقياً ومحيطياً ممتازاً. وكانت هذه الشركات تأمل في التحايل على شركتي "سوني" (Sony) و"فيليبس" (Philips)، إذ كانتا تملكان مواصفات القرص المدمج وتتقاضيان رسم ترخيص مقابل كل قرص مدمج وجهاز تشغيل يباع.
لكن "سوني" و"فيليبس" لم تكونا على استعداد للتنازل للمنافسين دون رد الصاع صاعين، حيث وجهتا ضربة مضادة من خلال طرح شكل جديد طورتاه معاً وهو "تقنية القرص المدمج ذو الصوت الفائق" (Super Audio CD). وتسبب ذلك بحالة من التذمر الجماعي في أوساط قطاع الموسيقى شملت المصنعين، والموزعين، والمستهلكين والذين كانوا جميعاً سيتكبدون خسائر كبيرة فيما لو راهنوا على الشكل الخاطئ للصوت.
ومع كل ذلك، فقد أطلقت سوني أول أجهزة تعمل بتقنية الصوت الفائق في أواخر العام 1999، بينما طرحت الأجهزة المقابلة التي تُشغل أقراص الفيديو الرقمية (DVD-Audio) في السوق أواسط العام 2000. وظهر بأنّ اندلاع حرب مكلفة بشأن الشكل الجديد للصوت كانت أمراً حتمياً.
لعلّك تتساءل الآن لماذا لم يسبق أن سمعت قط بهذه الحرب على شكل الصوت؟ وما الذي حصل؟ لقد طُرحت تقنية (MP3). ففي وقت كانت الشركات العملاقة المتخصصة بصناعة الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية تسعى للوصول إلى قمم جديدة في مجال نقاء الصوت، كانت هناك خوارزمية تنطلق وتقوم على "خفض" نقاء الصوت قليلاً في مقابل تخفيض حجم الملفات الصوتية.
وبعد وقت قصير من إطلاق منصّة "نابستر" (Napster) لتبادل الملفات في 1999، كان المستهلكون يحمّلون ملايين الملفات الموسيقية مجاناً، بينما كانت الخدمات المشابهة لمنصة "نابستر" تظهر وتنتشر كالفطر.
ربما تميل إلى الاعتقاد بأنّ "سوني" و"فيليبس" وتجمع الشركات التي عملت على تقنية أقراص الفيديو الرقمية (DVD-Audio) كانت غير محظوظة فحسب. فمن كان يتوقع ابتكار تقنية (MP3) المزعزعة؟ وكيف كان للشركات العملاقة الصانعة للأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية العلم بأنّ شكلاً للصوت كان يسير على مسار صاعد باتجاه تحسين نقاء هذا الصوت ستطغى عليه تكنولوجيا أُخرى تتسم بنقاء صوت بنسبة "أقل"؟ في حقيقة الأمر، لو كانت هذه الشركات استعملت المنهجية المبينة أدناه، لكان بمقدورها التنبؤ بأنّ الاختراق التالي ربما لن يكون له صلة بنقاء الصوت.
خطوات بناء استراتيجية الابتكار
إلى جانب ذلك، لا يقتصر فهم المحفزات التي تؤدّي إلى حدوث التطوّرات التكنولوجية على شركات التكنولوجيا الفائقة فقط. لأنّ التكنولوجيا (وهي الطريقة التي تُحول بها المدخلات إلى نتائج، أو الطريقة التي تقدّم بها المنتجات والخدمات إلى الزبائن) تتطور في كل سوق من الأسواق. واستعملت هذا التمرين المؤلف من ثلاث خطوات والموصوف هنا مع مدراء يمثلون طيفاً واسعاً من المؤسسات، تشمل شركات تعمل على تطوير أجهزة لرصد مستوى السكر في الدم، وشركة متخصصة بإنتاج الدهان، وشركات للخدمات المالية. وهو غالباً ما يقود إلى لحظة "كشف وتجلي" تساعد المدراء في تنقيح استراتيجيتهم الخاصة بالابتكار أو إعادة توجيهها في اتجاه آخر.
الخطوة الأولى: تحديد الأبعاد الرئيسية
من الشائع الحديث عن "مسار التكنولوجيا"، كما لو أنّ الابتكار يتخذ مساراً تطورياً وحيداً. بيد أنّ التكنولوجيات تتطور على عدة أبعاد في الوقت ذاته. على سبيل المثال، تطورت الكمبيوترات لتصبح أسرع وأصغر حجماً على التوازي، حيث كانت السرعة هي جانب، فيما كان الحجم هو جانب آخر.
فالتطورات الحاصلة في أي بُعد من الأبعاد لها ثمن محدد وفوائد محددة، كما تتصف منفعتها بالنسبة للمستهلكين بأنها قابلة للقياس وهي متغيرة في الوقت نفسه. لذلك، يُعتبر تحديد الأبعاد الرئيسية في تطور تكنولوجيا معينة الخطوة الأولى للتنبؤ بمستقبل هذه التكنولوجيا.
ولكي تحدد هذه الأبعاد، حاول تحديد المسار التطوري الذي اتّخذته التكنولوجيا المعنية حتى تاريخ اليوم، مع البدء من أبعد نقطة زمنية ممكنة في الماضي. وخذ بعين الاعتبار الحاجة التي لبتها هذه التكنولوجيا أصلاً، ثم فكر في كل تغير أساسي طال شكل هذه التكنولوجيا ووظيفتها، وما هي العناصر الأساسية التي تأثرت جراء ذلك.
على سبيل التوضيح، دعونا نعود من جديد إلى تكنولوجيا تسجيل الموسيقى. فتتبع تاريخها يكشف عن ستة أبعاد كانت أساسية في تطورها وتشمل: فك التزامن (desynchronization)، والتكلفة، والنقاء، وتوفر الخيارات الموسيقية، وإمكانية الحمل والنقل (portability)، وإمكانية التعديل بناء على حاجة المستخدم (customizability). فقبل اختراع جهاز الحاكي (الفونوغراف)، لم يكن بمقدور الناس سماع الموسيقى أو الخطابات إلا أثناء عزفها وإلقائها وفي ذات المكان. وعندما بدأ توماس أديسون وألكسندر غراهام بيل في العمل على أجهزة الحاكي في أواخر القرن التاسع عشر، كان هدفهما الأساسي هو فك التزامن بين زمان العزف أو الأداء ومكانهما، بحيث يمكن سماعهما في أي وقت وأي مكان.
وكان جهاز إيديسون (وهو عبارة عن أسطوانة دوارة مغطاة بطبقة من القصدير) إنجازاً عظيماً، لكنّه كان ثقيل الوزن، وكان من الصعب صنع نسخ من التسجيلات. أما أسطوانات بيل المصنوعة من الورق المقوى (الكرتون) والمغطاة بالشمع، متبوعة بسجلات إيميلي بيرلينير المسطحة وذات الشكل الشبيه بالقرص، وفي مرحلة لاحقة تطور الأشرطة المغناطيسية، فقد سهلت كثيراً إنتاج التسجيلات على نطاق جماهيري واسع. وخفضت "تكلفتها" تخفيضاً كبيراً، وزادت من "نقاء" الصوت، ومن "الخيارات" المتاحة من الموسيقى.
ولكن لعقود طويلة، كانت أجهزة تشغيل الصوت كبيرة الحجم وغير قابلة للنقل تحديداً. واستغرق الأمر حتى ستينات القرن العشرين لتسهم الأشرطة ذات المسارات الثمانية في حصول تطور دراماتيكي في "إمكانية حمل ونقل" الموسيقى المسجلة، بما أنّ أجهزة تشغيل الموسيقى باتت متاحة في السيارات. وتزايد حضور أشرطة الكاسيت وهيمنتها على المشهد في السبعينات، ما عزز من إمكانية الحمل والنقل، ولكنها وفرت أيضاً وللمرة الأولى إمكانية تلبية خيارات كل مستهلك حسبما يريد، حيث باتت تعطي المستمع القدرة على تحديد القوائم الموسيقية التي يفضل سماعها. وفي عام 1982، طرحت شركتا "سوني" و"فيليبس" مواصفة القرص المدمج، والتي حسنت كثيراً من نقاء الصوت مقارنة مع أشرطة الكاسيت وتسارعت هيمنة هذا الشكل الجديد للتسجيلات الصوتية.
وعندما أحاول توجيه فرق المدراء التنفيذيين في معرض تطبيق الخطوة الأولى من هذا التمرين، أؤكد على الحاجة إلى التركيز الشديد على الأبعاد المهمة والرئيسية التي تطورت التكنولوجيا المعنية فيها، بخاصة الأبعاد التي تُعتبر واسعة بما يكفي لاستيعاب غيرها من الأبعاد الأضيق. فهذا الأمر يساعد الفرق على رؤية الصورة الأوسع وتحاشي الضياع في متاهة التفاصيل. ففي تكنولوجيا الصوت، على سبيل المثال، تُعتبر إمكانية تسجيل الصوت، شكلاً محدداً من أشكال القدرة على التحديد بناء على حاجة المستخدم، وبالتالي يجب على التركيز أن ينصب على هذه القدرة بالضبط، بوصفها بُعداً رفيع المستوى، وليس على إمكانية تسجيل الصوت التي تُعتبر بُعداً أضيق.
لأن التركيز على البعد الأشمل يساعد في استكشاف طرق أُخرى يرغب الناس في استعمالها لصياغة تجربتهم الموسيقية وفق الشكل الذي يريدونه. على سبيل المثال، ينظر الناس بعين الرضا إلى التكنولوجيا التي تسمح بتوليد قائمة تلقائية من الأغاني ذات الخصائص المشتركة. ولا شكّ، في أنّ شركات خدمات مثل "باندورا" (Pandora) و"سبوتيفاي" (Spotify) ظهرت لأداء هذه المهمة بالضبط.
يعتمد اختيار الأبعاد المفيدة للتكنولوجيا لكي تُدرس دراسة وافية على مدى إلمام الدارس بالقطاع الذي يعمل فيه، وعلى فطرته السليمة أيضاً.
ومن المهم تحديد هذه الأبعاد وفق "الارتفاع" المثالي، فهي لا يجب أن تكون شديدة الانخفاض أو الضيق، إلى الحد الذي يجعلها تُفوّت الصورة الأوسع. كما لا يجب أن تكون شديدة الارتفاع أو الاتساع بحيث تفشل في تقديم رأي مفصل بما يكفي بخصوص تكنولوجيا محدّدة. ففي حالة السيّارات، على سبيل المثال، يكون "التحكم بالجو العام داخل السيارة" بُعداً خاصاً بالتكنولوجيا، لكنه ضيق جداً بحيث لا يمكن اعتباره أكثر الأبعاد فائدة وجدارة بالدراسة، في حين أنّ دراسة بعد "الراحة" الرفيع المستوى والذي ينضوي "التحكم بالجو العام داخل السيارة" ضمنه يساعد في تقديم نتائج أوضح.
وعلى المنوال ذاته، فإن بُعد "الأداء" في السيارات هو بُعد شديد الشمولية وواسع زيادة عن اللزوم لأنه يشمل السرعة، والأمان، وكفاءة استعمال الوقود، وغير ذلك من الأبعاد التي يمكن إدخال تحسين هائل عليها. فحتى مُنتج بسيط مثل الفراش (المرتبة) يشمل تكنولوجيا ذات أبعاد أداء متعددة (مثل الراحة والمتانة) والتي من المفيد أن نأخذها بالحسبان بصورة منفصلة.
لا تُعتبر عملية اختيار الأبعاد التي يجب دراستها عملية علمية دقيقة. بل تعتمد اعتماداً كبيراً على إلمامك بالقطاع الذي تعمل فيه، وعلى فطرتك السليمة. فأنا عادة ما أطلب من الفرق الاتفاق على ثلاثة إلى ستة أبعاد أساسية في مجال التكنولوجيا التي يعملون فيها. وفي فقرة "تحديد عينة رفيعة المستوى من الأبعاد التكنولوجية" هناك قائمة بالأبعاد التي حددها المشاركون في ورش عمل كل في قطاعه. ومن الواضح أنّ بعض الأبعاد مثل سهولة الاستعمال والمتانة، تتردد بصورة متكررة. في حين أنّ بعض الأبعاد الأُخرى تخص تكنولوجيا محددة، مثل خاصية التكبير في المجهر. وفي حالات استثنائية، تُعتبر التكلفة بعداً هاماً في جميع التكنولوجيات.
هناك خطوة أخيرة في هذا الجزء من التمرين يمكن أن تسلط ضوء أكبر على الأبعاد المحددة. وفي بعض الحالات يمكن أن تقترح بعض الأبعاد الإضافية التي تستحق الاستكشاف، حيث أطلب من أعضاء الفرق التي أعمل معها تجاهل التكلفة وغير ذلك من العوائق، وتخيل ما يمكن للزبائن أن يرغبوا بالحصول عليه إذا كانوا يستطيعون الحصول على "أي شيء". ربّما يبدو بأنّ ذلك يطلق العنان لسيل من الأفكار المبدعة ولكن غير العملية. ولكن في حقيقة الأمر، يمكن لذلك أن يقود إلى اكتشافات مذهلة. فقد نُقل عن هنري فورد قول مأثور هو: "لو كنت سألت الناس عما يريدونه، لكانوا طالبوا بأحصنة أسرع". ولو كان أي صانع للسيارات في ذلك الوقت استكشف بحق ما الذي يريد الناس من وسيلة النقل التي يحلمون بها بأن تقدم لهم، فلربما كانوا قد قالوا "النقل الفوري".
وتشير إجابتا الزبائن كلتاهما إلى أنّ السرعة هي بُعد رفيع المستوى يحظى بتقدير كبير في قطاع النقل، لكن الإجابة الثانية منهما تساعدنا بأن نفكر بطريقة أوسع بخصوص كيفية تحقيق ذلك. فليس هناك إلا طرقاً محدودة لجعل الحصان يعدو أسرع، ولكن هناك مجموعة من الطرق لتسريع عملية النقل.
يُشير هذا التمرين في معظم الأوقات إلى أنّ الناس يرغبون في رؤية تحسينات إضافية في الأبعاد الأساسية التي حُددت. ولكن في بعض الأحيان الأُخرى، يُشير التمرين إلى أبعاد لم تكن أُخذت بالحسبان أصلاً. فهل يرغب الزبائن بجهاز صوتي قادر على الإحساس بشعورهم العاطفي والتجاوب معه؟ إذا كان هذا هو الحال، ربما يكون "توقع الحاجات" بعداً رئيسياً آخر.
الخطوة الثانية: تحديد موقعك
في حالة كل بُعد من الأبعاد المحددة، تتمثل الخطوة التالية في تحديد شكل المنحنى البياني الخاص بالمنفعة من هذ البعد، حيث أنّ هذا المنحنى البياني يُرسم بناء على القيمة التي يحصل عليها المستهلكون من التكنولوجيا المعنية بحسب أدائها، وتحديد الموقع الذي تشغله التكنولوجيا في الوقت الحاضر على هذا المنحنى البياني. فتُساعد هذه الخطوة في الكشف عن مكامن أعظم الفرص التي تسمح بإدخال التحسينات.
على سبيل المثال، يُشير تاريخ الأشكال المختلفة للصوت إلى أنّ الخيارات الموسيقية المتاحة لها منحنى بياني للمنفعة يأخذ شكل القطع المكافئ المحدب: إذ تتزايد المنفعة مع توسع الخيارات، ولكن بوتيرة متراجعة وليس إلى فترة غير محدودة. فعندما تكون كمية الموسيقى المتاحة للاختيار قليلة، فإنّ أي زيادة مهما كانت طفيفة في الخيارات المتاحة تؤدّي إلى حصول تحسن كبير في المنفعة. ولنأخذ باعتبارنا أنه عندما ظهرت أجهزة الحاكي (الفونوغراف) الأولى، كان عدد التسجيلات التي يمكن تشغليها في أجهزة الحاكي ضئيلاً. ولكن مع تزايد أعداد هذه الأجهزة، أخذ الناس يشترونها بشغف كبير، وتزايدت جاذبية اقتناء هذا النوع من أجهزة التشغيل. وبالتالي، ترك زيادة الخيارات ولو بكمية بسيطة أثراً هائلاً على المنفعة. وعلى مدار العقود المتعاقبة، طرأت زيادة هائلة على الخيارات، وبدأ المنحنى البياني للمنفعة في نهاية المطاف يتسطّح؛ فظل الناس ينظرون بعين التقدير إلى الإصدارات الجديدة، لكنّ كل تسجيل جديد أضاف قيمة إضافية أقل.
وتوفّر شركات خدمات الموسيقى الرقمية اليوم مثل "آي تيونز"، و"أمازون"، و"برايم ميوزيك" (Prime Music) و"سبوتيفي" عشرات ملايين الأغاني. ومع توفر هذه الخيارات اللامتناهية تقريباً، يجد معظم الزبائن ما يُشبع شهيتهم، وربما بتنا نقترب من قمة المنحنى البياني.
دعونا الآن نأخذ البُعد الخاص بنقاء الصوت، وهو العنصر الأساسي الذي ركّزت عليه كل من تقنية القرص المدمج ذي الصوت الفائق وتقنية أقراص الفيديو الرقمية. وعلى الأغلب أن يتّخذ المنحنى البياني للمنفعة الخاص بنقاء الصوت شكل القطع المكافئ المقعّر. فأجهزة الحاكي الأولى كانت درجة نقاء الصوت فيها مريعة، حيث كانت أصوات الموسيقى فيها رفيعة وحادة، ولكن كانت ميزة كبيرة أن يتمكن الإنسان أساساً من الإصغاء إلى الموسيقى المسجلة. ومثّلت التحسينات المبكرة التي أُدخلت على نقاء الصوت في التسجيلات تطوراً هاماً بالنسبة لتمتع الناس بالموسيقى، ما زاد من مبيعات هذه الأجهزة. وبعد ذلك جاءت الأقراص المدمجة. لكن درجة نقاء الصوت الأكبر التي وفرتها هذه الأقراص لم تحظ بذات القدر من التقدير الواسع، فقد شعر الكثير من الناس بأنّ تسجيلات أقراص الفينيل القديمة كانت جيدة بما يكفي، حتى أنّ البعض فضل "الدفء" الذي كانت تتمتع به على أي شيء آخر. وبالنسبة لمعظم الزبائن، لم تكن التحسينات الإضافية المدخلة على نقاء الصوت تزيد كثيراً من حجم المنفعة. وكان المنحنى البياني لنقاء الصوت بدأ يتسطّح عندما طرحت شركات "سوني"، و"فيليبس"، وتجمع الشركات التي عملت على "أقراص الفيديو الرقمية"، الأشكال الجديدة للصوت في مطلع الألفية الثالثة.
لقد وفر هذان الشكلان درجة أعلى من نقاء الصوت، بحسب بعض المقاييس التقنية، مقارنة مع القرص المدمج. على سبيل المثال، في حين يبلغ نطاق التردد في الأقراص المدمجة ما يصل إلى حدود 20,000 دورة في الثانية أو 20 كيلو هيرتز، وفرت الأشكال الجديدة نطاقات تصل حتى 50 ألف هيرتز. ويُعتبر ذلك بمثابة شكل راق ومثير للإعجاب، ولكن بما أنّ حدة السمع في الأذن البشرية تصل إلى الذروة عند 20 ألف هيرتز تقريباً، فإنّ كلب العائلة فقط هو من كان على الأرجح سيقدّر هذه الدرجة من النقاء الصوتي.
وفي العام 2007، أصدرت جمعية مهندسي الصوت نتائج تجربة امتدت على مدار عام كامل لتقويم مدى قدرة المشاركين في هذه التجربة (بما في ذلك مهندسو صوت محترفون) على كشف الفرق بين الأقراص المدمجة العادية والأقراص المدمجة التي تعمل بتقنية الصوت الفائق. ولم ينجح المشاركون في التجربة بكشف شكل الأقراص المدمجة التي تعمل بتقنية الصوت الفائق إلا في نصف الحالات فقط، وهي نسبة لا تختلف كثيراً عما لو كان هؤلاء المشاركون ببساطة يخمنون الأمر عشوائياً.
ولو كانت الشركات التي تطرح هذه الأشكال الجديدة من الصوت حاولت رسم منحنى بياني بسيط للمنفعة يبين نقاء الصوت، لكانت ستتمكن من رؤية أنه ليس هناك مجال لإدخال تحسينات كبيرة ستحظى بتقدير من الزبائن. لا بل حتى لو ألقت نظرة سطحية على المنحنى البياني لـ"إمكانية الحمل والنقل" لأدركت بكل وضوح الفرص المتاحة في هذا البعد. وكان يجب على "سوني" من بين جميع الشركات الأُخرى، أن تدرك أهمية "إمكانية الحمل والنقل" في تطور أشكال الصوت. وفي العام 1979، طرحت "سوني" واحداً من أنجح منتجات الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية التي تُطرح في الأسواق على الإطلاق، ألا وهو جهاز "سوني ووكمان". فهذا الجهاز الخفيف الوزن الذي كان يشغّل أشرطة الكاسيت ويمكن أن يُحمل في راحة اليد فقط، لم يحظ بالنجاح الباهر بسبب تكلفته القليلة أو توفيره لدرجة أكبر من نقاء الصوت أو عدد أكبر من الخيارات الموسيقية مقارنة بالأنماط الأُخرى من الأجهزة، وإنما لكون هذا الجهاز "قابلاً للحمل والنقل".
وعلى المنوال ذاته، فقد نجح نظام (MP3) للصوت لأنه زاد "كثيراً" من إمكانية نقل الموسيقى وحملها لأن الملفات الصوتية بصيغة (MP3) كانت صغيرة بما يكفي لكي تُخزن بسهولة في جهاز كمبيوتر ولكي يتم تبادلها مع الأصدقاء.
كلب العائلة فقط هو من كان على الأرجح سيقدّر التحسينات الرفيعة جداً التي تطرأ على نقاء الصوت.
ولكن دعونا ننتقل للحديث عما هو حاصل اليوم. بالرغم من أنّ محبي الموسيقى باتوا يعتبرون إمكانية التحميل والنقل ووفرة الخيارات المتاحة أمرين مفروغاً منهما، إلا أنّ المجال لايزال كبيراً لإدخال تحسينات على بُعد "إمكانية التعديل بناء على حاجة المستخدم (customizability)". فخدمة "باندورا" (Pandora) توفر شكلاً بدائياً من أشكال هذه الإمكانية (حيث بوسعك أن تنشأ قناة تضمّ مجموعة أغنيات تكون كلها مشابهة لأغاني تايلور سويفت نوعاً ما)، لكن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُدخل تحسيناً كبيراً في المستقبل في موقعنا على المنحنى البياني الخاص بـ"إمكانية التعديل بناء على حاجة المستخدم". فمن المعقول (لا بل من المحتمل جدّاً في واقع الأمر) أن يتمكن البرنامج من تحديد عناصر معينة تخص الأسلوب الموسيقي المفضل لديك ومن ثم يقوم بتأليف مقطوعات موسيقية خاصة بك أنت تحديداً. ولعلّه سيكون قادراً على إنتاج مقطوعة لا نهاية لها من "أغاني فرقة البيتلز" والتي لا يمكن تمييزها تقريباً عن الأغاني الحقيقية. لكنها لن تكون من كتابة أو من عزف فرقة البيتلز (أو حتى من عازف بشري). فالبرامج التي تساعد الآلات على التعلم بدأت أساساً بتأليف الموسيقى الخاصة بالإعلانات وألعاب الفيديو. وفي العام 2016 أطلقت شركة "سوني" أغنيتين من تأليف نظام للذكاء الاصطناعي يسمى (Flow Machines). المقطوعة الأولى التي تحمل اسم (Daddy’s Car)، تُعتبر شبيهة بأغاني البيتلز، في حين أنّ المقطوعة الثانية التي تحمل اسم (Mr Shadow) تُعتبر تقليداً لأساليب كل من ديوك إيلنغتون (Duke Ellington) وإيرفينغ برلين (Irving Berlin) وكول بورتر (Cole Porter). وعلى الرغم من أنّ أياً من هاتين المعزوفتين لم تحقق نجاحاً كبيراً في السوق، إلا أنّ كلتا المعزوفتين تشيران إلى ما سيأتي لاحقاً وما هي المجالات التي تستثمر شركات الموسيقى فيها منطقياً في المستقبل.
تُظهر المنحنيات البيانية للمنفعة والتي تأخذ شكل القطع المكافئ مثل المنحنى البياني لنقاء الصوت وللخيارات الموسيقية، بأنّ المنحنى البياني لبعض أبعاد الأداء التكنولوجي، يُثبت أنّ إدخال تحسينات طفيفة قادر على ترك أثر هائل على المنفعة منذ البداية.
وبطبيعة الحال، لا تسير كل التكنولوجيات وفق هذا النوع من المنحنيات البيانية. فالمنحنيات البيانية للعديد من الأبعاد تأخذ شكل حرف (S): فتحت عتبة معينة من الأداء لا تكون هناك منفعة، لكنّ المنفعة تزداد بسرعة فوق تلك العتبة ومن ثم تصل إلى درجات قصوى بعد تجاوز تلك العتبة. ولننظر إلى المنفعة من سرعة السيارة بالنسبة للمستخدم العادي. فقد كانت المركبات الآلية كتلك التي صنعها ريتشارد تريفيثيك (Richard Trevithick) عام 1801 واسماها "الشيطان النفّاث" (Puffing Devil) تعمل بقوة البخار. كانت هذه المركبات بمثابة تجسيد لمفهوم جديد، وكان محبو التكنولوجيا الجديدة هم من يقتنوها في بعض الأحيان، لكنها كانت في منتهى البطء وغير موثوقة بما يكفي لكي تستحق ثمنها بالنسبة للعائلات العادية. إذ كانت الخيول تقطع مسافات أطول وبسرعات أكبر ونادراً ما "تتعطل".
وخلال السنوات المئة التالية، سعى المستثمرون إلى تطوير سيارة ذات فائدة أكبر من العربات التي تجرها الخيول. وخلال هذه الفترة، ظل المنحنى البياني للمنفعة الخاص بالسرعة مسطحاً، فزيادة السرعة القصوى للسيارة ببضعة أميال في الساعة فقط، لم يكن يؤدي إلى زيادة المنفعة طالما أنّ السيارة أقل سرعة من الحصان، وتحديداً ما إذا كانت هذه السيارة أيضاً أقل موثوقية كما كان الحال عادة. واستغرق الأمر حتى مطلع القرن العشرين، لكي تبدأ سيارات الركاب بالسير بسرعات تفوق 15 ميلاً (25 كيلومتراً) في الساعة. ووقتها فقط بدأ الناس باقتناء هذه السيارات بأعداد كبيرة. وبحلول تسعينيات القرن الماضي، كانت معظم سيارات الركاب قادرة على السير بسرعة قصوى تبلغ 120 ميلاً (200 كم) في الساعة.
وتصل السرعة القصوى لبعض هذه السيارات اليوم إلى 150 ميلاً (250 كيلومتراً) في الساعة. ولكن ليس من الشائع أن يقود الناس بسرعة تفوق 90 ميلاً (150 كيلومتراً) في الساعة. وبالنسبة لمعظم السائقين، يتسطح المنحنى البياني للمنفعة والخاص بالسرعة عند تلك النقطة. أمّا التحسينات المدخلة على أبعاد أُخرى، مثل كفاءة استهلاك الوقود، والتسارع، والأمان، والموثوقية، فتقدم قدراً أكبر من المنفعة بالنسبة لمعظم الزبائن.
يكشف المنحنى البياني للمنفعة الخاص بالسرعة بأنّ النقطة التي تكون التحسينات المدخلة على بُعد معين عندها ذات قيمة قليلة، هي نقطة يمكن أن تتغير عند حصول تغيرات في البيئة أو في التكنولوجيا المساعدة. فالسرعة البالغة 40 ميلاً (65 كيلومتراً) كانت أكثر من كافية، مثلاً، عند طرح النموذج (Model T)، بما أنّ معظم الطرقات لم تكن معبدة في ذلك الوقت. ومع تحسن الطرق العادية والطرق السريعة، بدأت السرعات التي يرغب الزبائن في الحصول عليها تتزايد. كما أنّ الانتقال إلى المركبات الذاتية القيادة يجعل السرعات الأعلى حتى آمنة ومريحة ومرغوبة. وإذا كان هذا هو الحال، فإن الجزء الأعلى المسطح من المنحنى البياني للمنفعة الخاص بالسرعة يتخذ منحى صاعداً من جديد.
الخطوة الثالثة: تحديد ما تريد التركيز عليه
بعد الانتهاء من تحديد الأبعاد التي تحسنت في تكنولوجيات شركتك (أو التي يمكن أن تُحسن)، وبعد تحديد موقعك على المنحنيات البيانية للمنفعة الخاصة بهذه الأبعاد، سيكون واضحاً تماماً ما هي أكثر المجالات التي يمكن إدخال تحسينات عليها. ولكن لا يكفي أن تعرف بأنّ الأداء في بعد معين "يُمكن" أن يحسن، بل يجب عليك أن تقرر ما إذا كان هذا التحسن "ضرورياً". لذلك يجب عليك أن تقرر أولاً أي من الأبعاد التي حددتها أكثر أهمية بالنسبة للزبائن. بعد ذلك يجب أن تحدد تكلفة تحسين كل بُعد من هذه الأبعاد ومدى صعوبة ذلك.
على سبيل المثال، أي من بين الأبعاد الأربعة التي اعتبرت أساسية في تطوير المركبات (السرعة، التكلفة، الراحة، الأمان) هو الأهم في نظر الزبائن، وأيّها يُعتبر التعامل معه أسهل أو أكثر فعالية مقارنة بتكلفته؟ بالنسبة لبعد السرعة، يمكن القول بأنّ السيارات وصلت إلى قمة المنحنى البياني للمنفعة، ومن الصعب والمكلف نسبياً زيادة الحد الأعلى للسرعة القصوى: فتحتاج السرعة الأعلى إلى قدرة أعلى، وهذا بدوره يتطلب محركاً أكبر حجماً، ما يقلل من كفاءة استهلاك الوقود ويزيد من التكلفة. ولعلّ الراحة هي أسهل بُعد يمكن العمل عليه، ولكن بالنسبة للزبائن، هل يحظى بُعد الراحة بذات القدر من الأهمية التي يحظى بها بُعد الأمان؟ وما هي التكلفة المطلوبة لتحسين الأداء في هذه الأبعاد؟
تُعتبر تجربة شركة "تاتا موتورز" (Tata Motors) مع سيارتها من طراز "نانو" (Nano) تجربة غنية بالعبر والدروس. فقد صُممت هذه السيارة لتكون ذات تكلفة ميسرة للسائقين في الهند، لذلك كان من المفترض أن يكون سعرها زهيداً بما يكفي لكي تنافس الدراجات النارية. وعمدت الشركة إلى تخفيض التكاليف باتباع عدد من السبل: فهذه السيارة كانت تسير بمحرك له أسطوانتين فقط، وتحتوي على قدر أقل من المزايا، إذ كانت تخلو من جهاز الراديو، والنوافذ الكهربائية، والمكابح التي تعمل بنظام منع الانغلاق، والمقود الهيدروليكي، والوسادات الهوائية. كما كانت مقاعد السيارة من النوع البسيط مع إمكانية تعديلها إلى ثلاثة وضعيات. وكانت السيارة تضم مساحة واحدة للزجاج الأمامي، فضلاً عن مرآة خلفية واحدة فقط. وفي العام 2014، وبعد أن فشلت هذه المركبة من طراز "نانو" في الحصول على أي نجمة في مجال الأمان في اختبارات السلامة والتحطم، قال المحللون أنّ إضافة الوسادات الهوائية وإدخال تعديلات طفيفة على هيكل السيارة يمكن أن يسهم في إدخال تحسن كبير على درجة الأمان في السيارة مقابل أقل من 100 دولار لكل مركبة. لم تأخذ "تاتا" هذا الأمر على محمل الجد الكبير بل راهنت على الراحة. وشملت كل نماذج السيارة التي صنعت عام 2017 مكيفاً للهواء ومقوداً هيدروليكياً لكنها لم تتضمن وسادة هوائية.
وإذا ما أراد المدراء تحديد الاستثمارات التكنولوجية التي ستجلب لهم أكبر قدر من العوائد، فيجب عليهم استعمال مصفوفة شبيهة بمصفوفة مراقبة تحسّن نسبة السكر في الدم. أولاً، بالنسبة لكل تكنولوجيا تدرسها، ضع قائمة بأبعاد الأداء التي حدّدتها بوصفها الأهم (في حالة السيارات، على سبيل المثال، تكون هذه الأبعاد هي التكلفة، والأمان، والراحة). بعد ذلك، ضع علامة لكل بُعد من هذه الأبعاد على مقياس من (1) إلى (5) في ثلاثة مجالات هي:
- الأهمية بالنسبة للزبون (1 = "غير مهم" و5 = "مهم جدّاً").
- وجود مجال للتحسين (1 = "فرصة ضئيلة" و5 = "فرصة كبيرة").
- سهولة التحسين (1 = "صعب جدّاً" و5 = "سهل جدّاً).
تُبين هذه الفقرة العلامات التي أعطتها الشركة الصانعة لأربعة أبعاد خاصة بأجهزة مراقبة سكر الدم هي: الموثوقية، والراحة، والتكلفة، وسهولة الاستخدام. وحدد الفريق الموثوقية بوصفها العنصر الأهم بالنسبة للزبائن، فالحصول على قياس دقيق لمستويات السكر في الدم يمكن أن يكون مسألة حياة أو موت. لكن غالبية الأجهزة الحالية (والتي يعتمد معظمها على إحداث ثقب في الأصبع) تُعتبر موثوقة جداً، وبالتالي حصلت على علامة متدنية على مقياس "وجود مجال للتحسين". كما تُعتبر هذه الأجهزة سهلة الاستخدام نسبياً وهي ذات تكلفة منخفضة، لكنها غير مريحة. وعلى الرغم من أنّ الراحة تحظى بتقدير كبير، إلا أنّ هناك مجالاً كبيراً لإدخال تحسينات عليها.
وثمة صعوبة نوعاً ما في تحسين "الراحة" و"سهولة الاستخدام" (حيث حصل كلتاهما على علامة 3)، ولكن بما أنّ الراحة تُعتبر أهم بالنسبة للزبائن وفيها المجال أكبر للتحسين، فحصل هذا البُعد على علامة إجمالية أعلى. لذلك، باتت الراحة تحظى بالتركيز في مجال الجهود المبذولة للابتكار، وبدأت الشركة بتطوير لصاقة جلدية قادرة على كشف مستويات سكر الدم من العرق وإرسال القراءات بواسطة تقنية البلوتوث إلى الهاتف الذكي للمستخدم.
من الواضح أنّ إدخال تعديلات بسيطة يمكن أن يساعد في تعديل أوزان العلامات الواردة في المصفوفة لكي تعبّر عن حالة كل مؤسسة على حدة. على سبيل المثال، إذا كنّا أمام شركة لا تمتلك الكثير من الأموال النقدية، أو معرضة لضغوط أُخرى، ربما تختار إعطاء الأولوية للأبعاد التي يمكن تحسينها بسهولة عوضاً عن التركيز على الأبعاد التي تنطوي على طاقة كامنة أكبر لكن تطبيقها هو عملية أصعب. فإذا ما عُدل مقياس سهولة التحسين ليصبح من (1) إلى (10)، مع الإبقاء على المقاييس الأُخرى عند (1) إلى (5)، فمن المتوقع أن تتضاعف العلامات الخاصة بسهولة الاستخدام، وهذا الأمر بدوره سيكون له التأثير الأكبر على العلامات الإجمالية. ولكن ثمة بديل آخر، حيث يمكن للشركة الساعية إلى تحقيق اختراق في مجال الابتكار أن توسع المقياس الخاص بـ"الأهمية بالنسبة للزبائن"، أو المقياس الخاص بـ"وجود مجال للتحسين"، أو توسع كلا المقياسين.
وعلى المنوال ذاته، يمكن للموقع التنافسي للشركة أن يؤثر على اختيارها لأي بُعد من أبعاد التكنولوجيا لكي تؤكد عليه. على سبيل المثال، ربما يكون الأمان أو السلامة عاملاً أساسياً يميّز شركة لصناعة السيارات مثل "فولفو" عن غيرها من الشركات، في حين أنّ السرعة (أو بعبارة أوسع الأداء في مجال القيادة) ربما تكون هي العامل الأساسي لشركة "بي إم دبليو" (BMW). وبالتالي، على الرغم من أنّ هذه الشركات المختلفة تصنع التكنولوجيا ذاتها (السيارات)، إلا أنها تسوق منتجاتها لدى شرائح مختلفة من الزبائن، وبالتالي فهي تركّز على أبعاد مختلفة.
التحول في التركيز
يساعد هذا التمرين الذي اقترحه، والمكون من ثلاثة أجزاء، في توسيع زاوية نظر المدراء إلى القطاع الذي يعملون فيه، وفي تحويل تركيزهم من "هذا ما نفعله" إلى "هذا هو المكان الذي تتجه إليه أسواقنا (أو يجب أن تتجه إليه)". كما يُمكن لهذا التمرين أن يساعد في التغلب على التحيز والعطالة التي تميل عادة إلى تثبيت انتباه المؤسسة على أبعاد معينة للتكنولوجيا تكون أقل أهمية بالنسبة للمستهلكين مقارنة مع ما كان عليه الوضع من قبل. على سبيل المثال سبق لي أن عملت في شركة كبيرة للخدمات المالية، كانت في السابق تُعتبر سرعة نقل البيانات بعداً أساسياً، وكانت قيادة الشركة تتوقع دائماً رؤية تغييرات منتظمة تطرأ على هذا البعد.
فعند تأسيس هذه الشركة، طورت تكنولوجيا تسمح لها بتوفير البيانات المالية أسرع من أي جهة أُخرى. وكان هذا التفوق في السرعة على المنافسين، وظلّ، أمراً أساسياً وحاسماً في استراتيجية الشركة. كما كان مدعاة فخر بالنسبة لها. ولكن عندما استعملت هذا التمرين المقترح مع مدراء الشركة، أدركت بأنّ تركيزهم على سرعة نقل البيانات (والتي باتت الآن تُقاس بالنانو ثانية) كان يشتت انتباههم عن أبعاد تكنولوجية أُخرى كانت تتيح قدراً أكبر من الفرص لإدخال تحسينات عليها ستحظى بتقدير كبير فعلياً من الزبائن.
بالنسبة للشركة، أصبحت أهمية سرعة نقل البيانات مشابهة لأهمية نقاء الصوت بالنسبة لتقنية القرص المدمج ذي الصوت الفائق. فقد كان بالإمكان تحسينها عاماً بعد آخر، لكن المنفعة من هذا الأمر بالنسبة للمستخدمين كانت في طور التلاشي. إضافة إلى ما سبق، لم تعد هذه السرعة تعطي ميزة تنافسية، حيث أصحبت تكنولوجيا نقل البيانات بسرعة واسعة الانتشار وسلعة سهلة المنال. كما أنّ الخوارزميات الخاصة التي طورتها الشركة لتحويل البيانات الخام إلى معلومات مفيدة استراتيجياً كانت أكثر أهمية بالنسبة للمدراء لكي يُدافعوا عنها. وكشف التمرين عن وجود فرصة أكبر بكثير لتوفير هذه المعلومات المفيدة عند الطب.
وبعد ورشة العمل، وضعت مجموعة من المدراء خططاً لتحويل الموارد لتصب في صالح ضمان إيصال منتجات الشركات الأكثر استعمالاً والمعتمدة على تحليل البيانات الضخمة إلى الهواتف الذكية والحواسب اللوحية للزبائن، وخاصة أنها كانت ميزة تحسب لصالح الشركة. فماذا كانت النتيجة؟ الوصول إلى تطبيق هاتفي حصل على الجوائز وبات الآن من بين أهم ثلاثة تطبيقات عالمية في مجال الخدمات المالية.
ليس طرح أفكار تخصّ منتجات جديدة هي النتيجة الوحيدة، أو حتى الأهم، لتمرين بناء استراتيجية الابتكار. بل تكمن القيمة الأكبر للتمرين في النظرة الشاملة التي يعطيها للمدراء، لأنّها تُلقي الضوء على الديناميكية التي تحكم السوق والفرص الأبعد مدى أو الأوسع نطاقاً الماثلة أمامهم. وعندها فقط، سيكون هؤلاء المدراء قادرين على تحقيق الريادة في مجال الابتكار ضمن قطاعاتهم، عوضاً عن الاضطرار إلى التأخر في اللحاق بركب هذه الابتكارات.