هذه المقالة مقسمة إلى جزأين. الجزء الأول بعنوان "الأخبار السيئة" ويَرد في بضعة أسطر. والجزء الثاني بعنوان "الأخبار الجيدة" وهو يتطلب بذل بعض الجهد ولكن ينطوي على الكثير من المتعة، وسيستمر إلى نهاية المقالة.
هل أنت مستعد؟
لنبدأ بالأخبار السيئة: إما ستفقد وظيفتك وإما ستصبح وظيفتك الحالية مختلفة للغاية في غضون 3 إلى 5 سنوات على الأكثر لدرجة أنك لن تكون قادراً على أدائها بالمهارات والخبرة التي لديك في الوقت الحالي.
الأخبار الجيدة هي أن الرحلة التي ستخوضها لتحافظ على أهميتك ومكانتك وتجد معنى لحياتك وتعيد اكتشاف نفسك وتبحث عن وظيفة جديدة هادفة هي رحلة ممتعة للغاية، ولكنها تتطلب الكثير من العمل الجاد كما ذكرت أعلاه.
العوامل التي ستؤثر على الاستمرار في وظيفتك
دعني أوضح لك سبب قولي إنك ستفقد وظيفتك، أو على الأقل لن تظل تؤديها بالطريقة التي تؤديها بها اليوم. أولاً، حدث هذا الأمر مرات عديدة من قبل. سنفقد وظائفنا وسيتم استحداث وظائف جديدة، بسبب التأثير المشترك لثلاثة عوامل: الأول هو السرعة الهائلة للتقدم التكنولوجي. هل تتذكر "قانون مور" (Moore’s law)؟ في عام 1965، توقع غوردون مور أن يتضاعف التقدم التكنولوجي كل عام. وهو لم يكن محقاً فحسب، بل كان أيضاً حذراً إلى حد ما في توقعاته. فسرعة التقدم تزداد بشكل أسي وليس بشكل تسلسلي.
العامل الثاني هو أننا انتقلنا من عصر التنوير إلى عصر التشابك؛ ما يعني أن كل ما هو مهم الآن متشابك مع جميع الأشياء الأخرى. لم تعد مشاكلنا صعبة فحسب، بل أصبحت معقدة أيضاً، لذلك نحتاج إلى الربط بين الأشياء بشكل منطقي وتنمية الذكاء السياقي والتعاون بالطبع.
العامل الثالث هو أننا نتيجة لذلك نتغير مع انتقالنا إلى مجتمع يشهد مزيجاً من التعاملات عبر الإنترنت وخارجها. فقد أصبحنا مثل أشجار المنغروف؛ وهي النباتات الوحيدة التي تنمو في المياه المالحة. فالحدود بين ما هو موجود في الحياة الفعلية وما هو موجود على الإنترنت أصبحت غير واضحة، ويتبين ذلك مما فعله أكيهيكو كوندو الذي تزوج مؤخراً مجسم "هولوغرام".
لذا، إذا كانت السرعة والتعقيد وأشجار المنغروف جزءاً من مستقبلنا وليس الوضع الطبيعي الجديد، فما الذي يمكننا فعله لنحتفظ بأهميتنا ومكانتنا ويكون لنا تأثير ونجد معنى لحياتنا؟ امتلاك وظيفة هو أكثر من مجرد الحصول على راتب في نهاية الشهر. فهو أمر يتعلق بهويتنا وقيمتنا الذاتية وغايتنا.
هل تمتلك حيواناً أليفاً؟ يعتني 98% من مالكي الحيوانات الأليفة بحيواناتهم اللطيفة من خلال القيام بما يوصي به الطبيب البيطري. هل ترعى والديك المسنين أو أصدقاء مرضى؟ في 88% من الحالات، ينتهي بنا الأمر باتباع تعليمات الأطباء. ولكن ماذا عنا؟ في 38% فقط من الحالات، ينتهي بنا الأمر فعلياً بشراء الأدوية أو اتباع نصائح الطبيب. إذاً، كيف لنا أن نعتني بحيواناتنا الأليفة أفضل من اعتنائنا بأنفسنا؟ كيف لنا أن نقلق بشأن شحن هواتفنا بقدر أكبر من إعادة شحن طاقتنا؟
ماذا تفعل عندما تفقد وظيفتك
لذا فإن أول شيء يجب أن تفعله عندما تفقد وظيفتك هو أن تعامل نفسك كشخص أنت مسؤول عن مساعدته، كما أوضح جوردان بيترسون في كتاباته بإبداع.
وبعد الاعتناء بنفسك يمكنك حينها البحث عن وظيفة جديدة. فالبحث عن وظيفة هو في حد ذاته عمل بدوام كامل يتطلب التمتع بطاقة إيجابية.
إذاً فالسؤال هو: كيف يمكنك أن تحتفظ بأهميتك ومكانتك في سوق العمل؟ كيف يمكنك أن تتأكد من أنه ليس عليك القلق من أن يتم تسريحك يوماً ما، وألا تتمكن من دخول سوق العمل مرة أخرى، ما يجعلك محبطاً لظنك أنه لن تكون هناك حاجة إليك بعد الآن؟
تبدأ هذه الرحلة بسؤال بسيط ولكنه مهم: ماذا تجيد؟
إذا كنت مدير محفظة استثمارية في أحد البنوك، فيمكن تلخيص وظيفتك في بضع كلمات "زيادة قيمة المحفظة الاستثمارية التي تتولى مسؤوليتها". على سبيل المثال، إذا كان عليك إدارة ثروة عميلك، دعنا نقول إنها "100 دولار"، فإن عميلك يأمل ويتوقع أن تصبح القيمة أعلى في المستقبل. فهل يجب أن تصل إلى 110 أم 120؟ هذا ليس مهماً على المدى الطويل؛ فالعميل يتوقع "المزيد من القيمة" فحسب.
كيف تزيد من قيمتك؟
ماذا لو أنك مدير محفظتك الاستثمارية؟ أعني، كيف ستعمل على زيادة قيمتك؟ وكيف يمكنك أن تحافظ على أهميتك؟ ما هي ثروتك الحقيقية وأصولك ورأسمالك التي ستحتاج إلى زيادتها؟ لا أقصد حسابك البنكي أو أي "ثروة" قد تكون لديك، بل أقصد زيادة قيمتك بوصفك مهنياً. هذا ليس سؤالاً نظرياً بحتاً بل جوهرياً حقاً؛ فهو الذي سيجعلك أحد الأشخاص الذين سيشكلون السياق الجديد والذين سيحافظون على أهميتهم ووظائفهم في المستقبل.
في وظيفتي السابقة بوصفي مديراً للموارد البشرية ووظيفتي الحالية بوصفي مدرباً تنفيذياً، لاحظت أن معظم الأشخاص يخلطون بين القيمة والراتب. بالتأكيد يجب أن تكون هناك علاقة ترابطية بين الاثنين، ولكن إذا ركزت حصراً على زيادة راتبك دون زيادة قيمتك، والقيمة التي تجلبها للشركة أو للعملاء الذين تعمل لخدمتهم، ستجد عاجلاً أم آجلاً أنك أصبحت مكلفاً للغاية بالنسبة إلى سوق العمل وسوف يتم استبعادك.
إذاً، كيف يمكننا زيادة قيمتنا؟ لدينا 3 أصول و3 أنواع من رأس المال ينبغي الحفاظ عليها وزيادتها وحمايتها.
هذا هو المبدأ الذي تحتاج إلى التركيز عليه بشدة. فأنت بحاجة إلى زيادة رأسمالك المعرفي.
"رأس المال المعرفي"
يتعلق الأمر بما تعرفه وما حققته. فالتعلم هو عقلية وليس دبلوماً ذا إطار جيد ولكن لم يتم استخدامه أو الاستفادة منه لفترة طويلة. لمواكبة تقنيات تعلم الآلة، نحتاج إلى أن نصبح آلات تعلُّم. كيف؟ المقصد هو أن التعلم لا يتوقف أبداً. فنحن بحاجة إلى الاستمرار في صقل مهارتنا، كما أوضح ستيفن كوفي ببراعة في كتاب "العادات السبع للأشخاص ذوي الكفاءة العالية" (7 habits of highly effective people). لكن التعلم يحتاج إلى بعض التطبيقات العملية.
نحن بحاجة إلى التمييز بين التعلم الفني والتعلم الشخصي، وكلاهما على القدر نفسه من الأهمية. يطلق الفرنسيون على التعلم الفني اسم "savoir faire"؛ ما يعني القدرة على فعل شيء ما، وعلى التعلم الشخصي اسم "savoir etre"؛ أي أن تكون شخصاً رشيداً ويتمتع بالمصداقية. يمكن أن يكون النوع الأول من التعلم معقداً، خذ على سبيل المثال تعلُّم التحدث باللغة الصينية أو العزف على البيانو، ولكن يمكننا قياس التقدم المحرز واتباع منهجيات محددة مسبقاً. وعلى النقيض من ذلك، يصعب قياس التعلم الشخصي كما أنه بطبيعته يختلف من شخص إلى آخر.
ولكن انتظر، "المعرفة" وحدها لا تكفي؛ إذ يجب ترجمتها إلى أفعال. إذا أخبرتك أنني أعرف جميع وصفات المطبخ الإيطالي تمام المعرفة، لكنني لم أطبخ أي وصفة في حياتي، فهل ستأخذ كلامي بجدية؟ لذلك يجب إقران رأس المال المعرفي بالنتائج التي حققتها أو شاركت في تحقيقها، ويجب أن تكون هذه النتائج حقيقية ومدروسة وملموسة، لا مبالغة فيها أو تزييف.
العنصر الآخر الذي تحتاج إلى التركيز عليه هو زيادة رأسمال العلاقات الذي تمتلكه.
"رأسمال العلاقات"
يتعلق "رأسمال العلاقات" بمعارفك. أسميته "رأس المال الاجتماعي"؛ أي شبكة العلاقات التي بنيناها على مر السنين. وكما ذكرت ماريسا كينغ بحكمة في كتابها "الكيمياء الاجتماعية" (Social Chemistry)، يتعلق الأمر ببناء شبكة علاقات موثوقة والحفاظ عليها، وليس قضاء وقتك في التعارف. كيف تبني شبكة علاقاتك؟ ليس من خلال وجود أكبر عدد من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فعدد "المتابعين" لا يهم. في الواقع، من المهم أن يكون لديك عدة شبكات مختلفة، ما سيسمح لك بالتعرف على وجهات نظر ورؤى مختلفة وبناء علاقات خارج إطار محيطك الشخصي. فالأمر يعني أن تكون "وسيطاً"؛ أي أن تكون شخصاً يُنشئ صلات طوال الوقت بين أشخاص مختلفين. وهذه الصلات أو العلاقات قائمة على الثقة.
يمكننا أن نقول إن بناء شبكة علاقات يعني أن تكون في خدمة الآخرين. فرأسمالك الاجتماعي يشبه إلى حد ما حسابك البنكي. إذ لا يمكنك إجراء "سحب" إلا إذا كنت قد أودعت أموالاً في حسابك من قبل؛ ما يعني أنه عليك أولاً الاستثمار في بناء علاقات قائمة على الثقة. ولا ينجح ذلك إذا تذكر الأشخاص علاقاتهم بالآخرين عند حاجتهم إليهم فقط، ثم يختفون إذا أدركوا أنه لا يمكن للآخرين منحهم أي قيمة عندما يحتاجون إليها. فأنت تبني شبكة علاقات لأنك تهتم بالآخرين، وليس لأنك تستغلهم.
الإجراء الأخير الذي تحتاج إلى التركيز عليه هو الحفاظ على سمعتك والدفاع عنها.
"السمعة"
السمعة هي ما يقوله الناس عنك في غيابك. إذا فكرت في الأمر ستجد أنه يتعلق ببصمتك الأخلاقية؛ فهو لا يتعلق بما تعرفه أو ما تحققه. تُعرّف الأخلاق من خلال ما أنت لست مستعداً لفعله لتحقيق أهدافك. مثال: نريد أن نتقدم في حياتنا المهنية، ولكن ليس بأي ثمن، ولذلك دائماً ما نتصرف باحترام.
من المهم تذكُّر الفرق بين الشفافية والمصداقية؛ فكثيراً ما يتم الخلط بينهما على الرغم من أنهما مختلفان. وتُعد السمعة والمصداقية أمرين متلازمين. فقد انتقلنا من عصر المعلومات إلى عصر السمعة، ولذلك يجب أن تتعامل مع سمعتك على أنها أثمن ما لديك من أصول.
لزيادة قيمتنا، نحتاج إلى زيادة الأنواع الثلاثة من رأس المال التي نمتلكها: المعرفة والعلاقات والسمعة. في الواقع، هناك معادلة ستساعدنا على تذكر ذلك جيداً:
قيمتك المهنية وقيمتك الشخصية= رأس المال المعرفي + رأسمال العلاقات × رأسمال السمعة= قيمتك المهنية.
لماذا نضرب في قيمة السمعة؟ لأن حاصل ضرب أي رقم في صفر هو صفر دائماً، وهذا ما يحدث إذا كان لدينا أي شك حول القيمة الحقيقية لسمعتنا.
ختاماً، يجب أن نقلق إذا كنا نتمنى الاستمرار بالوظيفة نفسها في المؤسسة نفسها. أما إذا أعدنا التفكير من منطلق مختلف، فسنرى بوضوح أن التأثير المشترك للثورة الصناعية الرابعة والتحول الرقمي والتغير المناخي والجائحة وإحصائيات السكان، قد زعزع نماذج الأعمال والمؤسسات تماماً وأعاد تصميم مستقبل الوظائف. فنحن بحاجة إلى تغيير هدفنا؛ فلا يجب أن يكون هدفنا هو الحفاظ على أساليبنا القديمة بل إعادة اكتشاف أنفسنا، لنظل مهمين ومناسبين في سوق العمل. والسبيل الوحيد الذي يجب اتباعه هو الاستثمار في رأسمال التعلم والمعرفة والعلاقات والحفاظ على سمعتنا أيضاً في الفضاء الرقمي. فقد تغيرت اللعبة وأصبحت القواعد مختلفة وأصبح اللاعبون أسرع. تعلمنا ذلك من تشارلز داروين؛ فمَن سيتأقلم هو فقط مَن سينجو ويقاوم وينجح.
والأمر يبدأ بالتغييرات التي سنجريها الآن.