كيف ترسّخ الشعور بالنمو والتطوُّر المهني لدى موظفيك، بحكم منصبك الإداري، حتى إذا كانت إمكانيات الترقية محدودة أو غير موجودة من الأساس؟ طرحتُ هذا السؤال على طلاب إدارة الموارد البشرية (كان ذلك في سياق بحثنا عن الأدلة التي تشير إلى إقدام موظفي “جيل الألفية” على مغادرة المؤسسات ما لم يروا آفاق التقدم المهني على المدى المنظور). وفي حين أن طلابي توصلوا إلى العديد من الأفكار الواعدة، فبعضهم دافع عن نهج أزعجني ويتمثل فيما يلي: يجب على الشركات زيادة المستويات الإدارية لتوفير المزيد من الترقيات.

تفهمت بالطبع سبب إيمانهم بهذا النهج، لكن كان عليّ أن أحذرهم مما يتمنون حدوثه؛ فأي شخص عمل في الهيكل التنظيمي ذي المستويات الإدارية المتعددة الذي كان معتمداً في الماضي يعرف عيوبه حق المعرفة.

ولكن أكثر ما أزعجني بشأن فكرتهم تلك هو هذا العدد المهول من الموظفين الذين يشعرون بالضياع دون وجود مؤشرات خارجية تدل على نجاحهم. يجد الموظفون الشبان، على وجه الخصوص، صعوبة في التخلي عن المؤشرات المألوفة والواضحة للنجاح الدراسي وتعلُّم كيفية إثبات نجاحهم من خلال الإشارات الأقل وضوحاً على مدى حياتهم المهنية بأكملها.  ويتطلب وضع صيغة محدَّدة للحياة المهنة الناجحة حقاً مستوى عالياً من الوعي الذاتي والقدرة على التوجيه الذاتي، وهي قدرات لا تهتم الكليات والجامعات بتعليمها للطلاب والدارسين دائماً بالجودة المطلوبة.

على سبيل المثال، اسمحوا لي بأن أعرّفكم إلى أسامة. نشأ أسامة في أسرة متماسكة في مجتمع يقدّم خدمات تعليمية ممتازة.  والده مدير مبيعات ووالدته طبيبة أطفال. كان أسامة طالباً متفوقاً دوماً، وكان مستوى تحصيله الدراسي أكثر من رائع في تخصص المحاسبة ضمن برنامج المتفوقين بإحدى أرقى الجامعات العامة في بلده، إلى أن تخرّج وحصل على وظيفة في شركة خدمات مالية. وهنا أخذت قصته منحى مختلفاً شديد الكآبة؛  فقد عانى صعوبات جمة في العمل ووجد الثقافة المؤسسية منفرة. اعتاد أسامة التفوق على أقرانه خلال دراسته الجامعية، وصُدم عند أول مراجعة لأدائه حينما أخبره مديره أن تقييمات أدائه كانت منخفضة بدرجة غير مقبولة، وأعطاه فرصة لمدة 6 أشهر لتحقيق تحسُّن ملموس.

كان أسامة يفهم دائماً قواعد الأداء الدراسي ويجيد تحقيق نتائج رائعة في إطارها، لذا شعر بأنه يسير على غير هدى لأول مرة في حياته. وبدلاً من انتظار فصله من وظيفته التي جعلته يشعر بالتعاسة يوماً بعد آخر، فضّل الاستقالة بعد 4 أشهر فقط دون أدنى فكرة عمّا يجب فعله بعد اتخاذ هذه الخطوة، وعاد إلى المنزل. وعلى الرغم من عدم اهتمامه بالعمل في مجال القانون، قدَّم أسامة طلب الالتحاق بكلية الحقوق؛ لا لشيء إلا ليتخلص من أسئلة والديه اليومية القلقة حول توجهه المهني المرتقَب بالإضافة إلى الاعتقاد المتزايد بأنه مخادع فاشل. قال لنفسه في حسرة: “على الأقل أعرف كيف أكون طالباً متفوقاً”.

قد يعاني الموظفون في أي سن من هذه الرؤى والأفكار المهنية المعرقِلة. عملت مؤخراً على تدريب سمير، وهو موظف في أواخر الثلاثينيات من عمره تعرّض لأزمة عنيفة عندما اكتشف أن مديره الجديد لم يرشحه لبرنامج الشركة المخصّص للموظفين ذوي الإمكانات العالية، حتى إنه وجد صعوبة في التركيز على أي شيء آخر. كان من المفيد أن ينظر سمير إلى النجاح المهني من زاوية أوسع، كما هي الحال مع أسامة والطلاب المشاركين في مناقشاتي في قاعات الدراسة. ومن شأن ذلك أن يمكّنهم من التعرُّف إلى مجموعة أوسع من طرق الاستجابة وتعلُّم المزيد من الدروس المستفادة واكتساب الرؤى الثاقبة من تجاربهم.

لا يتقدم الفرد في الجوانب العامة من حياته المهنية والشخصية من خلال اتخاذ خطوات منهجية والسير على خط مستقيم وإنجاز المهام المصمَّمة بعناية فائقة بطريقة تسمح له بإثبات إتقانه لأدائها، بل يتقدم من خلال التعامل مع الأحداث والظروف غير المتوقعة التي تفرضها عليه الحياة العملية وغير العملية، والاستجابة والتكيف بالطرق الملائمة له. وإذا كنت تعتمد على مؤشرات خارجية للحكم على مدى نجاحك في حياتك المهنية، فستعثر عليها، ولكن فقط في بعض المجالات ووفق محاور معينة من الإنجاز، وإذا كنت لا تهتم سوى بهذه المجموعة المحدودة من مؤشرات النجاح، فلن تكون حياتك المهنية ناجحة على الأرجح. تخيل أنك ستذهب إلى بوفيه عشاء فاخر، ولكنك لا تتذوق إلا السَلَطة فقط؛ لن تكون مرضية بكل تأكيد.

ينصبُّ تركيزنا في كثير من الأحيان على الإنجازات المرئية والقابلة للقياس بمعايير موضوعية، مثل نتائج المبيعات والرواتب والمكافآت والترقيات، وهي أشكال النجاح المهني التي نوجّه إليها اهتمامنا كله إلى درجة أننا نتجاهل أحياناً الجوانب الأخرى، على الرغم من أنها لا تقل عنها قيمة في حياتنا. من المهم أن تأخذ بعين الاعتبار مؤشرات النجاح الموضوعية والذاتية؛ إذ نتأثر بتصوراتنا ومشاعرنا حيال التجارب التي نخوضها في العمل وما نحققه فيه بقدر ما نتأثر بالمكافآت العرضيّة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يبدون ناجحين ويشغلون مناصب رفيعة ويحصلون على رواتب مذهلة، ومع ذلك لا يشعرون بالرضا عن حياتهم المهنية.

ضع في اعتبارك أيضاً أنك تستطيع إثبات “نجاحك” في عمل ما من خلال خبراتك الفردية ومن خلال التفاعل مع الآخرين. يمكنك أن تشعر بالنجاح عندما تحقق أهدافك الخاصة التي كنت تنشدها بصفتك الفردية، أو عندما تطور فهماً أدق لمشكلة تواجهها وتضع تصوراً شاملاً للحل، أو عندما تعبر عن هويتك أو قيمك من خلال عملك. يمكنك تذوق النجاح في التعاملات الشخصية عندما تصل على سبيل المثال إلى درجة عالية من التفاهم المتبادل مع مديرك وتكوِّن علاقة وطيدة معه، أو تساعد الآخرين على النمو أو تترك أثراً إيجابياً من خلال عملك في المؤسسة أو مع عملائها الخارجيين. أثبتت الأبحاث أن مثل هذه التجارب الشخصية وفي العلاقات مع الآخرين تسهم بدرجة كبيرة في تقييم النجاح المهني.

أخيراً، إذا كانت الترقيات والعلاوات التي يتحكّم بها مديرك هي الشكل الوحيد للنجاح المهني الذي تعترف به، فإنك بذلك تهيئ نفسك للإصابة بالإحباط في الأوقات التي تنضب فيها فرص الانتقال إلى مستويات وظيفية أعلى أو عندما يؤدي خفض الميزانية إلى تعليق زيادات الرواتب. ومن هنا كانت القدرة على النظر إلى مفهوم النجاح المهني من زاوية أوسع وتحديد نجاحاتك بنفسك أمراً ضرورياً لاكتساب القدرة على التحمل ومواجهة التحديات.

ومع أخذ هذه العوامل في الاعتبار، أود منك أن تخصّص بضع دقائق الآن لإعادة النظر في تجاربك في العمل وتحديد النجاحات التي ربما تجاهلتها في الماضي. لا يرتقي دخلك إلى المستوى المأمول؟ ربما اكتسبت القدرة على الإبداع من خلال العمل مع زملاء يمتلكون مواهب نادرة. هل يساورك القلق بعد مرور عدة سنوات منذ آخر ترقية نلتها؟ لا تنكر قيمة تطور مستوى أدائك إلى أن غدوتَ خبيراً معروفاً يُشار إليه بالبنان في مجال ذي قيمة استراتيجية لشركتك.

لتحفيز قدرتك على التفكير، إليك بعض المؤشرات الإضافية التي قد تساعدك على إدراك نجاحك المهني بمفهومه الأشمل، أو تساعدك على تحديد المسارات التي يجب أن تسلكها لتحقيق نجاح أكبر:

  • أداء العمل الذي تجده مثيراً للاهتمام ورائعاً
  • التغلب على التحديات
  • التمتع بالاستقلالية في كيفية أداء عملك
  • اكتساب مهارات جديدة وصقل المهارات الحالية
  • حياة مهنية وحياة شخصية تكمّل كل منهما الأخرى وتثريها
  • أداء عمل يمنحك رؤى ثاقبة جديدة عن حياتك الشخصية أو مؤسستك أو القطاع الذي تعمل فيه
  • الاعتراف بك خبيراً مختصاً
  • نيل ثقة زملائك ورؤسائك
  • بناء علاقات قيمة داخل مؤسستك وخارجها
  • الإسهام في بناء المعرفة المشتركة في مؤسستك من خلال تدريب الآخرين
  • التمتع بالاستقرار المهني والأمان الوظيفي
  • التعاون بفعالية مع فريق من الزملاء الموهوبين
  • نيل التكريم تقديراً لإنجازاتك وإسهاماتك
  • رؤية الأثر الإيجابي لعملك على المستخدمين النهائيين أو على المجتمع
  • ترك إرث تفخر به

والآن تأمّل ما يلي: من المؤكَّد أن أي موظف سيسعد بتلقي المؤشرات وشهادات الإثبات الخارجية الدالة على النجاح، لكن هل تفضل حقاً تلقيها بدلاً من أيٍّ مما سبق؟ صحيحٌ أنك تستحق كليهما، لكن عليك أن تراعي أن الحياة المهنية طويلة، ومن النادر أن يلمس المرء أشكال النجاح المهني كلها في وقت واحد.

لا بد من تطوير الوعي والقدرة على التكيف لملاحظة الفرص وتقديرها واستثمارها للاستمتاع بالنجاح المهني بمختلف أشكاله وأنواعه، حتى إذا كانت أشكال التقدير الأكثر وضوحاً وشهرة غير متوافرة حالياً. وبالممارسة والاهتمام، يمكنك جني ثمار ما زرعته عبر مجموعة واسعة من خبرات العمل، وتتمتع نتيجة لذلك بحياة مهنية أكثر ثراءً وإرضاءً.