ملخص: تواصل مؤسسات الرعاية الصحية كفاحها لوقف موجة الاستقالات التي تفشّت بين مقدّمي الرعاية بمختلف فئاتهم وتعيين موظفين جدد لشغل الوظائف الشاغرة. صحيحٌ أن الأجور التنافسية وغيرها من خيارات الدعم تمثل عناصر ضرورية لتوظيف مقدمي الرعاية، لكن الثقافة المؤسسية، بما فيها الالتزام بالتميز، هي ما يحفزهم على البقاء، وفقاً لبيانات شركة برس غاني (Press Ganey). فما الذي يعزز الشعور بالولاء والقدرة على التحمل بين مقدمي الرعاية؟ كما هي الحال في القطاعات الأخرى خلال هذه الحقبة العصيبة، فإن العودة إلى الأساسيات أمرٌ بالغ الأهمية، وهو ما يعني في قطاع الرعاية الصحية تركيز الثقافة المؤسسية على الغاية النبيلة المتمثلة في تقليل معاناة المرضى، ومن ثم دعم مقدمي الرعاية لتحقيق هذه الغاية.
اسأل قادة مؤسسات الرعاية الصحية عن أهم 3 تحديات يتوقعون مواجهتها خلال العام المقبل، وسيجيب الكثيرون منهم قائلين: "قوة العمل، ثم قوة العمل، ثم قوة العمل". يستطرد هؤلاء القادة مضيفين أنهم يجدون صعوبة حقيقية في تعيين مقدمي الرعاية بمختلف فئاتهم واستبقائهم، ويشيرون إلى أن التكاليف تضغط بقوة على ميزانياتهم وأن المعنويات تدهورت بشدة لتصل إلى أدنى مستوياتها التاريخية. ونتيجة لذلك فإن أداء مؤسساتهم يتراجع على مختلف الأصعدة المالية، وعلى صعيد السلامة والجودة الشاملة، بما فيها تجربة المريض.
وفي ظل هذا المناخ المشبَع بحالة من اليأس والإحباط، لجأت المؤسسات إلى تجربة العديد من الأساليب، بما فيها منح مكافآت مالية على الحضور والبقاء على رأس العمل والتوصية بموظفين جدد، كما تعمل على تنفيذ برامج تهدف إلى الحد من الإصابة بالاحتراق الوظيفي، مثل برامج التدريب على اليقظة الذهنية والاستثمار في الذكاء الاصطناعي وغيرها من التكنولوجيات التي تسهم في تقليل الأعباء الإدارية. تتصف هذه الأساليب الرامية إلى تحسين التعويضات والتخفيف من حدة جوانب العمل الإدارية بالكثير من المزايا، ولكن يجب على المؤسسات ألا تعوّل عليها لكسب ولاء الكوادر البشرية وتعزيز القدرة على التحمل اللازمين لتحقيق التميُّز في مجال الرعاية الصحية.
تحسين الثقافة المؤسسية
فقد أثبتت بياناتنا عن مئات الآلاف من الأطباء والممرضين وغيرهم من مقدمي الرعاية في الولايات المتحدة أن شعورهم بالفخر بعملهم وإحساسهم بالولاء تجاه زملائهم هما أقوى رابطين يعززان استعدادهم للبقاء في مؤسساتهم ومواصلة الحضور إلى مقرات العمل. ولا شك في أن الأجور التنافسية وغيرها من خيارات الدعم تمثل عناصر ضرورية لتوظيف مقدمي الرعاية، لكن الثقافة المؤسسية، بما فيها الالتزام بالتميز، هي ما يحفزهم على البقاء.
تحسين الثقافة المؤسسية هو تحدّ صعب يواجه الكوادر القيادية، وهو معقد أكثر من توفير الأموال اللازمة لزيادة التعويضات أو تصحيح المشكلات التي تسبب التعاسة، وذلك لأن السعادة في الحياة عموماً تتجاوز غياب التعاسة فحسب. وتنطبق القاعدة نفسها على مجال الرعاية الصحية. على سبيل المثال، يمكن تنفيذ برامج "إصلاح الخدمة" التي تعالج شكاوى المرضى بسرعة لتخفيف حنقهم، لكن غياب الحنق لا يعني الولاء. وبالمثل، فقد تُثبت الاستجابات المؤسسية لمعاناة مقدمي الرعاية أن قادة المؤسسات يولون موظفيهم العناية اللازمة، ولكن هذا لا يعني أن مقدمي الرعاية سيواصلون الحضور إلى مقرات العمل ويفعلون كل ما يلزم لتلبية احتياجات مرضاهم.
فما الذي يعزز الشعور بالولاء والقدرة على التحمل بين مقدمي الرعاية؟ كما هي الحال في القطاعات الأخرى خلال هذه الحقبة العصيبة، العودة إلى الأساسيات لها أهمية بالغة، ما يعني في قطاع الرعاية الصحية تركيز الثقافة المؤسسية على الغاية النبيلة المتمثلة في تقليل معاناة المرضى، ومن ثم دعم مقدمي الرعاية لتحقيق هذه الغاية. لقد أثبتت بياناتنا أن هذا ليس نوعاً من التفكير الحالم، بل ضرورة تشغيلية.
على سبيل المثال، حلّلنا دوافع الولاء لدى 410,000 من موظفي الرعاية الصحية خلال جائحة فيروس كورونا المستجد، عملنا فيها على دراسة العوامل التي ترتبط بتعبير الموظفين عن اتفاقهم القوي مع هاتين العبارتين: "سأبقى في هذه المؤسسة إذا عُرِض عليّ منصب مشابه في مكان آخر" و"أود أن أعمل في هذه المؤسسة بعد 3 سنوات من الآن". شهد هذان المقياسان تراجعاً ملحوظاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة بين عامي 2020 و2022 (من 4.15 إلى 4.00 للعبارة الأولى ومن 3.93 إلى 3.78 للعبارة الأخيرة على مقياس من 1 إلى 5).
أنماط التغيُّر
لكن أنماط التغيُّر لم تكن هي نفسها في كل مؤسسة وفي كل أنواع الوظائف، فقد تباينت النتائج بدرجة تفوق ما كان عليه الأمر في الماضي فيما يخص مقاييس اندماج قوة العمل بين المؤسسات ذات الأداء الجيد والمؤسسات ذات الأداء الضعيف. تشير البيانات إلى أن المهارات القيادية باتت أهم من أي وقت مضى، ليس فقط على مستوى المناصب التنفيذية العليا، ولكن أيضاً في الخطوط الأمامية حيث يحدد المدراء حقاً أثر الثقافة المؤسسية على الموظفين. على سبيل المثال، قد تكون هناك اختلافات كبيرة في تأثير معنويات مقدمي الرعاية في وحدتين متجاورتين لرعاية المرضى ولكنهما تعملان تحت إشراف مديرين مختلفين للممرضين؛
أياً كانت أوجه الاختلاف بين المديرين، يبدو أن ثمة اتساقاً ملحوظاً في اهتمامات من يعملون تحت إشرافهما. لاحظنا من خلال تحليلاتنا التي شملت العاملين في قطاع الرعاية الصحية بمختلف فئاتهم أن التزام مؤسساتهم بالجودة والرعاية التي تتمحور حول المريض هو من الدوافع الرئيسية التي تحفّزهم على البقاء. وعندما أعطى الموظفون مؤسساتهم تقييمات منخفضة بشأن هذه المسائل، كانت احتمالات استعدادهم للمغادرة تزداد بمقدار 6 أضعاف. كانت هذه المسائل مهمة لحراس الأمن وعمّال الصيانة والموظفين الإداريين وكذلك للأطباء المعالجين.
قد تبدو هذه النتيجة مفاجئة للوهلة الأولى، ولكن كما قال لنا أحد المسؤولين التنفيذيين بأحد المستشفيات، "إنها منطقية تماماً. فعندما يشعر المرضى بسوء المعاملة، فإنهم لا يصرخون في وجه الطبيب في أغلب الأحيان؛ بل يصبون جام غضبهم على الموظفين وحرّاس الأمن. ولكن عندما يحظى المرضى بتجربة رائعة، فإن هذا سينعكس إيجاباً على الموظفين الإداريين وحرّاس الأمن، ما سيشجعهم على البقاء بكل تأكيد".
حب العمل
وفيما يخص الأطباء، فقد كان أهم العوامل التي ارتبطت باحتمالية بقائهم هو مقدار حبهم لعملهم وشعورهم بأن المؤسسة تستفيد من مهاراتهم وثقافتهم المؤسسية. على سبيل المثال، إذا شعر الأطباء بأن المؤسسة ليست لديها ثقافة شاملة، فستزداد مخاطر تفكيرهم في ترك العمل بنسبة 5.5 أضعاف. يُفترض أن حزم التعويضات التنافسية حاسمة في تعيين الأطباء، لكن الثقافة المؤسسية ضرورية لاستبقائهم.
تتوافق بيانات شركة برس غاني تماماً مع نتائج دراسة أُجريت على 20,627 طبيباً، ما بين طبيب متخصص وطبيب معالج، في 120 مؤسسة أميركية كبيرة للرعاية الصحية عن طريق مارك لينزر وزملائه ونُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في منتدى مجلة الجمعية الطبية الأميركية الصحي. توصّلت نتائج هذه الدراسة إلى أن الرغبة في المغادرة قد زادت من 24% في عام 2019 إلى أكثر من 40% في عام 2021، لكنها حدّدت عدة عوامل خففت من خطر الإصابة بالاحتراق الوظيفي. وتضمنت العوامل الإيجابية في تحليلات الانحدار المتعدد المتغيرات كلاً من الشعور بالتقدير وحُسن سير العمل الجماعي وامتلاك قيم تتلاءم مع قيم القادة.
تشير بياناتنا حول الأطباء والممرضين والموظفين بمختلف فئاتهم إلى وجود هالة من التأثيرات الإيجابية المصاحبة لهذه المصادر الباعثة على شعور مقدمي الرعاية بالفخر، على سبيل المثال، ترتبط مقاييس "الاندماج" العامة مع المؤسسة أيضاً ارتباطاً وثيقاً بمقاييس ثقافة السلامة، مثل ثقتهم في التزام المؤسسة بمنع الأحداث السلبية والإبلاغ عنها، وترتبط مقاييس ثقافة السلامة هذه بانخفاض معدلات الحوادث المرتبطة بالسلامة. باختصار، تؤكد البيانات أن عوامل التميز في جميع مجالات الأداء التي تعزز فرص نجاح المؤسسات متشابكة: تجربة المريض والجودة والسلامة واندماج قوة العمل.
تشير تداعيات هذه النتائج إلى أنه يتعين على قائد المؤسسة العاملة في مجال الرعاية الصحية أن ينصت بعناية لفهم المشكلات التي تسبب معاناة الموظفين ومخاوفهم ومحاولة معالجتها، ولكن يجب عليه أيضاً الإنصات لفهم آمالهم بشأن ما يعنيه عملهم لهم وتعزيز التطلعات التي دفعتهم إلى العمل في مجال الرعاية الصحية في المقام الأول.
ولتحقيق هذه الغاية يجب أن يتوخى القادة أقصى درجات الوضوح بشأن قيمهم والتزامهم بمراعاة تدابير السلامة وتقليل المعاناة وثقافة الاحترام والشمول، ويجب عليهم إثبات مصداقيتهم من خلال الالتزام بقياس كيفية سير الأمور في هذه القضايا والشفافية في النتائج واستخدامها لإدخال تحسينات مستمرة. وستكون النتيجة زيادة ولاء قوة العمل وتعزيز قدرتها على التحمل، وهو ما سيترجم إلى تحسُّن مستوى الأداء على مختلف الأصعدة.