تدور أحداث فيلم "ديسك سيت" (Desk Set) الذي صدر في العام 1957، حول قيام شركة بالاستعانة بآلة حاسبة عملاقة للاضطلاع بمهام بحثية. ويشعر الموظفون حينها بالقلق حيال ذلك الأمر خوفاً من أن يستولي الجهاز الجديد على عملهم. وبالفعل، يُصدر ذلك الجهاز بعد فترة قصيرة قراراً بفصل جميع الموظفين من العمل بمن فيهم رئيس الشركة! ويتضح لاحقاً أنّ ذلك كان مجرد خطأ، ويتنفس الموظفون الصعداء عندما يعلمون أنهم سوف يحتفظون بوظائفهم وسيكون عليهم فقط التكيف مع العمل إلى جانب الآلة الحاسبة الجديدة. وبالانتقال سريعاً إلى العام 2016 الذي ظهر خلاله فيلم "شخصيات مطموسة" (Hidden Figures)، حيث تكون "الحواسيب" البشرية في وكالة ناسا على وشك الاستعاضة عنها بحاسوب مركزي جديد من شركة آي بي إم. وتقوم إحدى بطلات الفيلم وهي دوروثي فون، بتعلم لغة البرمجة "فورتران" (Fortran) من أجل مواكبة التكنولوجيا الحديثة. وينتهي الأمر بتوليها قيادة فريق مهمته مراقبة أداء الحاسوب المركزي وضمان سير عمله وفقاً للخطة، وبالطبع تكون بذلك قد أنقذت الموقف وحافظت على عملها.
الحقائق في القصص الخيالية
ربما تقوم هوليوود بتنميق هذه القصص، ولكن ذلك لا يجعلها مجرد قصص خيالية. ولا يمكننا إنكار أنّ العديد من الوظائف ستقوم بتأديتها أنظمة مؤتمتة في النهاية، لاسيما تلك التي تنطوي على أعمال متكررة وروتينية. ومع ذلك، فإنّ الرسالة التي تكمن وراء كلا الفيلمين تحثّنا على عدم المبالغة بتقدير عمل أجهزة الكمبيوتر على حساب عمل البشر. وللتعمق أكثر في هذا الموضوع، نرى أنّ هنالك أربعة عناصر تدعم هذه الرسالة.
- يمكن للبشر وحدهم القيام بالمهام غير النمطية. في حين أنّ عمال خطوط الإنتاج التقليديين قد يتم استبدالهم بالأنظمة المؤتمتة، فمن غير المرجح أن يواجه موظفو خدمة الغرف في الفنادق ذات المصير في الوقت القريب. وصحيح أنّ الروبوتات جيدة في أداء المهام المتكررة، إلا أنها غير فعالة في التعامل مع الحالات المختلفة وغير النمطية. إذ يتطلب العمل في خدمة الغرف مثلاً المرونة، والقدرة على إدراك الأمور، وبعض المهارات البدنية، ومهارة تنسيق حركات الجسد وتعابير الوجه الدقيقة، وتتجاوز مثل هذه المهارات قدرات الآلات في المستقبل المنظور، حتى بالنسبة للآلات التي تُعتبر ذكية.
- تجعل الآلات من المهارات البشرية أكثر أهمية. تخيل نشاطاً معيناً، مثل القيام بمهمة فضائية أو إنتاج بعض السلع الاستهلاكية، وكيف أنّ ذلك النشاط يتألف من مجموعة من الخطوات المتداخلة، مثل الحلقات المتصلة في سلسلة. وتجتمع عدة عناصر في كل خطوة من هذه الخطوات لرفع قيمة النشاط، مثل العمالة ورأس المال، والقوة الفكرية والبدنية، والأفكار الجديدة المثيرة والتكرار المضجر، والبراعة التقنية والأحكام البديهية، والجهد المبذول والإلهام، والالتزام بالقواعد، وتقدير الاجتهاد والمبادرة. ولكي يعمل النشاط كاملاً كما هو متوقع، يجب أن يكون أداء كل خطوة من تلك الخطوات جيداً، وأن تؤدي كل حلقة عملها لكي تكون السلسلة متكاملة وذات فائدة. فإذا حدث قصور أثناء أداء أي مهمة سوف يتعطل عمل السلسلة بغض النظر عن مدى قوة الحلقات الأخرى. وخلاصة القول، أنه مع ظهور الذكاء الاصطناعي والروبوتات، أصبحت خبرتنا وقدرتنا على حل المشاكل والحكم السليم والإبداع أكثر أهمية من أي وقت مضى.
- التغيير ليس أمراً بسيطاً. كم عدد المشاريع في مجال تكنولوجيا المعلومات التي بدت واعدة وفشلت في نهاية المطاف؟ هناك الكثير، ولكن لا يُعزى ذلك الفشل غالباً إلى التكنولوجيا، بل إنّ المستخدمين هم الذين يعيقون أحياناً نجاح تلك المشاريع. فالواجهات الحاسوبية غير المألوفة، والأعمال الإضافية في إدخال البيانات، وحدوث خلل في الأعمال الروتينية، ومنحنيات التعلم القاسية غالباً ما تسبب الإحباط. ومن طبيعة البشر مقاومة استخدام التكنولوجيات الجديدة بغض النظر عن مدى أهمية الأنظمة الجديدة لهم وللشركة التي يعملون فيها على المدى الطويل.
- الجوانب الاجتماعية مهمة أيضاً. ربما يأتي أحد أهم الدروس المستفادة من التقليل من أهمية قوة التفاعل البشري من خلال النظر في المساق التعليمي الهائل المفتوح عبر الإنترنت أو ما يُعرف باسم "موك" (MOOC). فقد شاع الاعتقاد بأنّ ظهور أدوات التعليم الرقمية سيقوّض دور المعلمين البشر. ولكن، أظهر ذلك المساق أنّ المعلمين البشر أصبحوا أكثر فاعلية مع استخدام الأدوات الرقمية، كما خفضت البرامج الهجينة، التي تجمع بين الأدوات عبر الإنترنت والحضور الشخصي، عدد ساعات العمل المباشر بالنسبة للمدرسين وجعلتهم أكثر قدرة على المشاركة في تصميم المناهج الدراسية وتسجيل الفيديوهات التعليمية ووضع التقييمات. في النهاية، فإنّ هذا المزيج من التفاعل بين البشر والحاسوب يخلق قيمة فريدة.
نستنتج من ذلك، أنه على الرغم من كل الجدل الذي يدور حول تهديد الآلات للبشر بالاستيلاء على جميع وظائفهم، إلا أنّ الحقيقة هي غير ذلك؛ فحين نفقد وظائف في بعض المجالات، تُخلق وظائف غيرها في مجالات أخرى. على سبيل المثال، عندما تم طرح أجهزة الصراف الآلي (ATMs) في ستينيات القرن الماضي، كان المتوقع هو أن تُلغي تلك الأجهزة الحاجة إلى العديد من موظفي البنوك في الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يحدث، بل إنّ الموظفين لم يعودوا بحاجة إلى القيام بعدّ الأوراق النقدية ومكنهم ذلك من القيام بأعمال ذات قيمة مضافة أكبر. وأدى ذلك أيضاً إلى نمو القطاع المصرفي، ما خلق الحاجة لطلب المزيد من الموظفين وليس التخلي عنهم.
إذاً، لا يوجد مبرر للاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي والروبوتات ستقوّض عمل البشر، بل من المتوقع بحلول العام 2025، أنه سيكون هنالك 3.5 مليون فرصة عمل في القطاع الصناعي في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإنّ مليوني وظيفة ستبقى شاغرة بسبب عدم توفر العدد الكافي من العمالة الماهرة.
في النهاية، سيكون من الأفضل لنا التفكير أكثر في كيفية الارتقاء بمهاراتنا وتعلم كيفية العمل جنباً إلى جنب مع الآلات، إذ إنه لا مفر من التعايش مع هذا الواقع، ولكن لن يكون الأمر كما نتصوره من حيث إجبارنا على الاستسلام للآلات، بل سيبقى الإنسان هو الذي يقود الدفة وذلك ليس فقط في أفلام هوليوود.