ينقر ديفيد بأصابعه على المكتب بينما يتفقد رسالة البريد الإلكتروني على شاشة حاسوبه. وفي الوقت عينه، يتكلم عبر الهاتف مع موظف تنفيذي في النصف الآخر من الكرة الأرضية. وترتفع ركبته وتهبط كالثقابة. وبين الفينة والأُخرى يعض على شفته ويمد يده ليمسك بفنجان القهوة، رفيق الدرب الدائم. إنه منغمس بشدة في الاضطلاع بالعديد من المهام حتى نسي الموعد الذي ذكَّرته به روزنامة برنامج أوتلوك منذ ربع ساعة.
كما أنّ مكتبَي جين نائبة الرئيس ومايك مديرها التنفيذي متجاوران بحيث يستطيعان التواصل بسرعة، وعلى الرغم من ذلك يبدو أنّ التواصل لا يحدث أبداً. إذ تشكو جين قائلة: "كلما أقبلت إلى مكتب مايك، يرن جرس هاتفه أو ينطلق جرس هاتفي المحمول، أو يطرق أحدهم الباب أو يلتفت هو فجأة إلى شاشته ويكتب رسالة بريد إلكترونية، أو يُطلعني على مشكلة جديدة يريد أن أتعامل معها. إننا نعمل بسرعة مهولة كي نصمد لا أكثر، ولا نُنجز شيئاً مهماً. وهذا الأمر يدفعني للجنون".
ليس ديفيد وجين ومايك مجانين، لكن الظروف تدفعهم إلى حافة الجنون. وتتحول تجربتهم إلى النمط التقليدي للمدراء المُثقلين بأعباء العمل على نحو مفرط، الذين يعانون – شأنهم شأن كثير من زملائهم وربما شأنك أنت شخصياً – من ظاهرة عصبية حقيقية جداً، ولكن غير مُعترف بها، حيث أُطلق عليها اسم "سمة نقص الانتباه" (Attention Deficit Trait) أو (ADT) اختصاراً. والسبب في الإصابة بهذه الظاهرة هو فرط الأعباء على العقل، وأمست وباء في المؤسسات حالياً. والأعراض الأساسية لها هي قابلية التشتت والاضطراب الداخلي ونفاد الصبر. ويصعب على الأشخاص الذي يعانون من سمة نقص الانتباه الإبقاء على الأمور مُنظَّمة وتحديد الأولويات وإدارة الوقت. وهذه الأعراض يمكن أن تقوض من عمل المدير التنفيذي الموهوب. فإذا فهم ديفيد وجين ومايك، وملايين أمثالهم، شخصياتهم بلغة علم الأعصاب، فسيكون بوسعهم إدارة حياتهم عن وعي منهم بدلاً من الاستجابة إلى المشكلات كلما وقعت.
من واقع عملي كطبيب نفسي أشَخَّص وأعالج آلاف البشر على مدار ربع القرن الماضي من حالة طبية تُسمى "اضطراب نقص الانتباه" (Attention Deficit Disorder)، أو (ADD) اختصاراً، (وتُعرف الآن إكلينيكياً باسم اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه)، فقد لاحظت كيف أنّ شريحة متنامية نمواً سريعاً من الراشدين يصابون بهذه الحالة الجديدة الوثيقة الصلة. كما قفز عدد الأشخاص الذين صادفتهم أثناء ممارستي السريرية إلى عشرة أمثال ما كان عليه خلال العقد المنصرم. ومن سوء الطالع أنّ أغلب العلاجات المتاحة لفرط الأعباء المزمن التي اقترحها مستشارو إدارة الوقت ومدربو الموظفين التنفيذيين لا تُعالج الأسباب الكامنة وراء سمة نقص الانتباه.
وعلى العكس من اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه، الذي يُعتبر اضطراب عصبي يحمل في طياته مكوناً وراثياً يمكن أن يتفاقم تأثراً بعوامل بيئية وفيزيائية، تنشأ سمة نقص الانتباه بالكامل من البيئة المحيطة. وشأنها شأن الاختناق المروري، تعدُّ من السمات المُميِّزة للحياة الحديثة. فهي نتاج المتطلبات المفروضة على وقتنا وانتباهنا التي تضاعفت على مدار العقدين الماضيين. وبينما امتلأت عقولنا بالضجيج – وأعني الأحداث الواهية المُتشابكة التي لا تدل على شيء – يفقد العقل تدريجياً قدرته على الانتباه بالكامل وبشكل شمولي لأي شيء.
كما تظهر أعراض سمة نقص الانتباه على المرء تدريجياً. فالذي يعاني منها لا يشهد أزمة واحدة بل سلسلة من الحالات الطارئة الطفيفة، بينما يحاول بقدر أكبر مواكبة الظروف المحيطة به. وإذ يُناط بالتنفيذيين مسؤولية "تحمل المشقة" دون الشكوى بينما يزداد عبء العمل، ولا يدّخر التنفيذيون جهداً من أجل التعامل مع عبء العمل الذي ليس في مقدورهم إدارته كما يحلو لهم. ولذا، فإنّ الذي يعاني من سمة نقص الانتباه يشعر بمستوى متدن دائم من الذعر والشعور بالذنب. ويواجه التنفيذي موجة عاتية من المهام، يصبح مُتعجلاً وفظاً ودكتاتورياً ومشتتاً، بينما يتظاهر بأن كل شيء على خير ما يرام.
وللسيطرة على سمة نقص الانتباه، علينا أولاً، الإقرار بوجودها. ولا مناص من السيطرة عليها إذا شئنا كأفراد وقادة مؤسسيين أن نعمل بفعالية. سأطرح في الصفحات التالية تحليلاً لجذور سمة نقص الانتباه، وسأقدم بعض المقترحات التي ربما تساعدك في السيطرة عليها.
قرناء نقص الانتباه
لفهم طبيعة سمة نقص الانتباه وعلاجها، من المفيد التعرف على قرين تلك السمة، ألا وهو اضطراب نقص الانتباه.
حيث يصيب اضطراب نقص الانتباه، الذي عادة ما يُعد إحدى صعوبات التعلم لدى الأطفال، حوالي 5% من الكبار. واكتشف الباحثون بعد استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي أنّ المصابين باضطراب نقص الانتباه يعانون من حجم متراجع بشكل طفيف في أربع مناطق محددة بالمخ تتمتع بالعديد من الوظائف، مثل تعديل العواطف (وخاصة الغضب والإحباط) والمساعدة في التعلم. وثمة واحدة من تلك المناطق، وتتألف من الفصين الأمامي وقبل الجبهي، تُولَّد الأفكار وتتخذ القرارات وتُحدد الأولويات وتُنظم الأنشطة. وعلى الرغم من أنّ العلاجات المُستخدمة للتداوي من اضطراب نقص الانتباه لا تُغيّر تشريح المخ، فإنها تبدل كيمياء المخ، الأمر الذي يُحسّن بدوره من الوظائف في كل المناطق الأربع ويُعزز بشكل كبير أداء الذين يعانون اضطراب نقص الانتباه.
ولاضطراب نقص الانتباه ميزات ومساوئ على حد سواء. وتتضمن السمات السلبية الميل إلى المماطلة وعدم الوفاء بالمواعيد النهائية. فالذين يعانون اضطراب نقص الانتباه يكافحون الفوضى والتأخر. ويمكن أن ينسوا بسهولة ويهيموا بعقولهم في خضم حوار دائر أو أثناء القراءة. كما يمكن أن يتسم أداؤهم بالتفاوت، فتجدهم بارعين في لحظة ومقصرين في اللحظة التالية لها. ويميل الذين يعانون اضطراب نقص الانتباه أيضاً إلى نفاد الصبر وفقدان التركيز ما لم يقعوا تحت ضغوط أو يتعاملوا مع العديد من المعطيات، وهو أمر غريب جداً. (يرجع ذلك إلى أن الضغوط تؤدي إلى إفراز الأدرينالين، وهو مادة شبيهة كيميائياً بالعلاجات التي نستخدمها لعلاج اضطراب نقص الانتباه). وأخيراً، فإنّ مرضى هذا الاضطراب أحياناً يعالجون أنفسهم بالإفراط في تناول الكحوليات أو غيرها من المواد المُسكرة.
من الناحية الإيجابية، عادة ما يمتلك الذين يعانون هذا الاضطراب مواهب ومهارات نادرة. ولكن، غالباً لا يُلاحظ أحد هذه المواهب، أو أنها تظل على حالها دون صقل بسبب المشكلات المترتبة على الأعراض السلبية لتلك الحالة المرضية. ويمكن أن يكون أصحاب اضطراب نقص الانتباه مبدعين ومبتكرين. وتراهم مثابرين على غير العادة في ظل ظروف بعينها، وغالباً ما يتمتعون بموهبة المغامرة في مجال المال والأعمال. وتتجلى في شخصيتهم العبقرية، ويشجعون تلك السمة لدى الآخرين. ويميلون إلى الارتجال ببراعة تحت وطأة الضغوط. ولأن لديهم القدرة على التعامل مع العديد من المعطيات في آن واحدة، فبوسعهم أن يكونوا قادة أقوياء في فترات التغيير. وينزعون أيضاً إلى استعادة توازنهم بسرعة إثر النكسات والعثرات ويضخون طاقة جديدة في الشركة كل يوم.
وعادة ما يحقق التنفيذيون الذين يعانون اضطراب نقص الانتباه نتائج متفاوتة. فتارة يفشلون فشلاً ذريعاً لأنهم مشوشون ويقترفون الأخطاء، وتارة يأتي أداؤهم مذهلاً، فيطرحون أفكاراً واستراتيجيات مبتكرة تفضي إلى الارتقاء بالأداء إلى أعلى مستوى.
يعاني ديفيد نيليمان (David Neeleman) الرئيس التنفيذي لخطوط جيت بلو الجوية (JetBlue Airways) من اضطراب نقص الانتباه. إذ كانت المرحلة الدراسية بالنسبة له عذاباً، حيث عجز عن التركيز وكره الدراسة وسوّف إلى ما لا نهاية. حيث يقول نيليمان: "شعرت وكأنني ينبغي أن أخرج إلى العالم وأُنجز المهام وأطور الأشياء، ولكن ها أنا ذا عالق في دراسة الإحصاء التي كنت أعلم أنه ما من تطبيق عملي لها في حياتي. وكنت أعلم أنني يجب أن أحصّل تعليماً ما، ولكن عند أول فرصة لاحت لي لإنشاء شركة، تخليت عن الكلية ببساطة". وسرعان ما ارتقى نيليمان السلم الوظيفي في عالم الأعمال، مستغلاً نقاط قوته المتمثلة في التفكير الإبداعي والمجهود العظيم والقدرة على استقطاب أبرع الموظفين والتماس مساعدة الآخرين في تنظيم شؤونه وإدارة وقته.
كحال أغلب المصابين باضطراب نقص الانتباه، كان نيليمان أحياناً يسيء للآخرين بألفاظه الصادمة، لكن أفكاره كانت نيرة بما يكفي لتغيير صناعة خطوط الطيران بأسرها. على سبيل المثال، اخترع نيليمان التذكرة الإلكترونية. ويقول تعليقاً على ذلك: "عندما طرحت الفكرة، سخر الناس مني وزعموا أنه ما من أحد سيقصد المطار دون تذكرته الورقية. والآن، كل الناس يذهبون للمطارات وبحوزتهم تذاكرهم الإلكترونية. ووفرت الفكرة على صناعة الطيران ملايين الدولارات". ويبدو منطقياً بالنسبة لشخص يعاني اضطراب نقص الانتباه أن يبتكر طريقة توفر على الناس ضرورة أن يتذكروا جلب تذاكر طيرانهم الورقية. ويعتقد نيليمان أنّ اضطراب نقص الانتباه واحد من المفاتيح الأساسية لنجاحه. وبدلاً من الندم على معاناته من ذلك الاضطراب، نراه يحتفي به. لكنه يدرك أنّ عليه السيطرة على اضطراب نقص الانتباه بعناية.
إلى جانب ذلك، تمتاز سمة نقص الانتباه بالأعراض السلبية لاضطراب نقص الانتباه. ولكن، بدلاً من أن تكون لسمة نقص الانتباه جذور وراثية، نجد أنها مجرد استجابة للبيئة مفرطة النشاط التي نعيش فيها. وفي الواقع، تكاد الثقافة الحديثة تفرض علينا أن نتسم بسمة نقص الانتباه. فما من فترة طوال التاريخ البشري فُرض على العقل البشري فيها تتبع هذا الكم المهول من البيانات. ويعتمد الناس في كل مكان على هواتفهم المحمولة وبريدهم الإلكتروني ومساعداتهم الرقمية في السباق المحموم لجمع البيانات والخطط والأفكار وبثها أسرع فأسرع. وربما يحتج المرء بأنّ القيمة الأساسية للعصر الحديث هي السرعة التي وصفها الروائي ميلان كونديرا (Milan Kundera) بأنها "ضرب من النشوة التي خلعتها التقنية على الإنسان الحديث". ولمَّا أدمنا السرعة، أصبحنا نطالب بها حتى عندما لا نستطيع أن ننطلق بأسرع من ذي قبل. وقال جيمس جلايك (James Gleick) بامتعاض في كتابه المعنون "أسرع: تسريع كل شيء تقريباً" (Faster: The Acceleration of Just About Everything)، إنّ زر "إغلاق الباب" في المصاعد هو غالباً الزر الذي يبلى دهانه أسرع من غيره. وبينما يكافح العقل البشري من أجل اللحاق بكل شيء، نراه يترنح ويسقط في عالم سمة نقص الانتباه.
هذا هو عقلك
على الرغم من أنّ عمليات مسح المخ لا تُظهر الفروق التشريحية بين الأصحاء وبين الذين يعانون سمة نقص الانتباه، لكن أثبتت الدراسات أنه بينما يُطلب من العقل البشري معالجة كميات مذهلة من البيانات، فإنّ قدرته على حل المشكلات بمرونة وابتكار تتراجع ويزداد عدد زلاته وعثراته. ولكي تعرف السبب، لننطلق معاً في رحلة عصبية قصيرة.
يُعرّض أصحاب هذا العضو الذي يبلغ عدد خلاياه تريليون خلية، ووهبهم الله أكبر قشرة دماغية على الإطلاق، الفصين الأمامي وقبل الجبهي إلى ضغط فردي. وسأشير إلى هذين الفصين في هذه المقالة ببساطة باسم "الفصين الأماميين". وتسيطر هذه المنطقة على ما يُعرف بالوظائف التنفيذية، وهي تسمية مناسبة بالقدر الكافي. ذلك أنّ الوظائف التنفيذية توجه عمليات صنع القرار والتخطيط وتنظيم المعلومات والأفكار وتحديد أولوياتها وإدارة الوقت، والعديد من المهام الإدارية البشرية الأُخرى المُعقدة التي يتفرد بها الإنسان. وطالما كانت الهيمنة للفصين الأماميين، فإنّ كل شيء يسير على ما يرام.
وتكمن تحت الفصين الأماميين أجزاء المخ المخصصة لإبقاء الإنسان على قيد الحياة. هذه المراكز العميقة تتحكم في الوظائف الأساسية، كالنوم والإحساس بالجوع والرغبة الجنسية والتنفس ومعدل ضربات القلب، فضلاً عن المشاعر الإيجابية والسلبية بشكل صريح. وعندما تبلي بلاء حسناً وتصل إلى مستوى الذروة في الأداء، فإنّ المراكز العميقة ترسل رسائل إثارة وارتياح وفرح. فإنها تغذي حافزك، وتساعدك على الحفاظ على الانتباه، ولا تتداخل مع الذاكرة العاملة، وهي عدد نقاط البيانات التي يمكن أن تتبعها في آن واحد. ولكن عندما تواجه القرار السادس بعد الانقطاع الخامس في خضم البحث عن القطعة التاسعة المفقودة من المعلومات في اليوم الذي انهارت فيه الصفقة الثالثة، والطلب الثاني عشر المستحيل انقضى غير ممنوع عبر شاشة حاسوبك، يبدأ دماغك في الذعر، إذ يتفاعل تماماً كما لو كان القرار السادس نمراً من آكلي لحوم البشر متعطشاً للدماء.
ووجدت، بحكم عملي كمتخصص في صعوبات التعلم، أنّ الإعاقة الأخطر ليست أي حالة يمكن تشخيصها رسمياً، مثل عسر القراءة أو اضطراب نقص الانتباه. بل إنه الخوف. فالخوف يحول وجهتنا إلى وضع النجاة، وبالتالي يعرقل طلاقة التعلم ودقة الفهم. وبالتأكيد إذا كان هناك نمر حقيقي على وشك أن يهاجمك، فإنّ النجاة تكون هي الوضع الذي تريد أن تكون فيه. ولكن إذا كنت تحاول التعامل بذكاء مع مهمة دقيقة، فإنّ وضع النجاة يكون مزعجاً جداً ويؤدي إلى نتائج عكسية.
عندما يقترب الفصان الأماميان من طاقتهما القصوى، ونبدأ في الشعور بالخوف وعدم القدرة على الاستمرار، تأخذ العلاقة ما بين المناطق العليا والسفلى من المخ منحنى ينذر بالسوء. لقد علَّمت آلاف السنين من تطور الدماغَ العلويَ ألا يتجاهل إشارات الاستغاثة القادمة من الدماغ السفلي. وفي وضع النجاة، تضطلع المناطق العميقة من الدماغ بمهمة التحكم وتبدأ في توجيه المناطق العليا. ونتيجة لذلك، يصبح المخ كله عالقاً في مأزق عصبي لا مهرب منه. وتفسر المناطق العميقة رسائل الحمل الزائد التي تتلقاها من الفصين الأماميين بالطريقة عينها التي تفسر بها كل شيء: "الطريقة البدائية". حيث إنها تطلق بقوة إشارات الخوف أو القلق أو نفاد الصبر أو التهيج أو الغضب أو الذعر. وتلفت إشارات الإنذار هذه انتباه الفصين الأماميين، مما يضطرهما إلى إهدار كثير من طاقتهما. ولأن إشارات النجاة لا يمكن مقاومتها، فإنّ الفصين الأماميين يتعثران، ويعيدان الرسائل إلى المراكز العميقة قائلين: "تم تلقي الرسالة وجاري محاولة معالجتها ولكن بلا جدوى". إنّ هذه الرسائل تزعج المراكز العميقة أيضاً، والتي ترد بتوجيه رسائل استغاثة أقوى إلى الفصين الأماميين.
وفي الوقت نفسه، واستجابة لما يجري في الدماغ، فإنّ بقية الجسم، وخاصة الغدد الصماء والجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية والجهاز العصبي العضلي الهيكلي، تحولت إلى وضع الأزمات وغيرت وظائفها الأساسية من السلام والهدوء إلى الإنذار الشديد. ويحاصر العقل والجسم في دائرة ارتدادية، بينما يفقد الفصان الأماميان فعاليتها، وكأن الخل أضيف على الخمر. وفي هذه الحالة، فإنّ الوظائف التنفيذية تعود إلى وضع التفكير البدائي: "أسود وأبيض". ويختفي منظور اللون الرمادي وظلاله. ويخفت الذكاء. وفي محاولة غير مجدية للقيام بأكثر مما يمكن، يقلص المخ من قدرته على التفكير بصفاء.
يقع هذا الحدث العصبي عندما يحاول المدير استمالة التعامل مع معطيات أكثر مما في استطاعته. وفي وضع النجاة، يُطلق المدير أحكاماً متهورة، فيسارع بغضب إلى إنهاء المسألة التي بين يديه أياً كانت. ويشعر بأنّ واجبه السيطرة على المشكلة على الفور والقضاء على الخطر المحدق به خشية أن يدمره. إنه مسلوب المرونة وحس الدعابة والقدرة على التعامل مع المجهول. وينسى الصورة الكبيرة والأهداف والقيم التي يُمثلها ويؤيدها، وينسى إبداعه وقدرته على تغيير الخطط. وهو يود استماتة أن يقتل النمر المجازي. وفي تلك اللحظات نراه ميالاً للانهيار والإصابة بنوبة ذعر والإلقاء باللائمة على الآخرين وتدمير ذاته، أو ربما يسلك المسار المعاكس، فيسقط في هوة الإنكار والتفادي الكامل للمشكلات التي تتكالب عليه فتبتلعه. وهذه هي سمة نقص الانتباه في أسوأ أشكالها.
في وضع النجاة، نجد المدير مسلوب المرونة وحس الدعابة والقدرة على التعامل مع المجهول، ويود باستماتة أن يقتل النمر المجازي.
وعلى الرغم من أنّ سمة نقص الانتباه لا تصل دوماً إلى مثل هذه الأبعاد المتطرفة، فهي تعيث فساداً بين العاملين المنهكين. ولأنه ما من عقلين متشابهين، فإنّ بعض الناس يتعاملون مع هذه الحالة على نحو أفضل من غيرهم. وبغض الطرف عن مدى سلامة أداء التنفيذيين ظاهرياً، ما من أحد يُحكم سيطرته الكاملة على أدائه التنفيذي.
السيطرة على سمة نقص الانتباه
من سوء الطالع أنّ الإدارة العليا إلى الآن نظرت إلى أعراض سمة نقص الانتباه عبر العدسات المُشوهة للأخلاق أو الشخصية. لننظر إلى حالة التنفيذي الذي جاء لمقابلتي في الفترة التي كان فيها مثقلاً بأعباء مفرطة. حيث اقترحت عليه أن يناقش الأمر مع رئيسه في العمل ويطلب منه المساعدة. وعندما عمل بنصيحتي، قيل له إنه لو لم يكن بوسعه تحمل عبء العمل، فعليه التفكير في الاستقالة. ومع أنّ تقييمات أدائه كانت مُذهلة، ونال ثناء عظيماً لكونه أحد أكثر الموظفين إبداعاً في المؤسسة، لكن أُذن له بالرحيل. ولأن الشركة سعت إلى الحفاظ على أسطورة أنه ما من قشة ستقصم ظهور العاملين بها، فهي لم تحتمل تصريح أحد مدرائها بأنّ ظهره على وشك أن يُقصم. وبعد أن رحل عن الشركة من تلقاء ذاته، ازدهر مستقبله.
كيف لنا السيطرة على الآثار المتفشية لسمة نقص الانتباه، سواء بداخلنا أو في مؤسساتنا؟ مع أنّ اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه غالباً ما يتطلب الدواء، نجد أنّ علاج سمة نقص الانتباه لا يتطلب دواء. إذ يمكن السيطرة على سمة نقص الانتباه فقط بواسطة هندسة المرء لبيئته وصحته الوجدانية والبدنية على نحو إبداعي ومبتكر. واكتشفت أنّ الإجراءات الوقائية التالية تحقق تقدماً مبهراً فيما يتعلق بمساعدة التنفيذيين في السيطرة على أعراض سمة نقص الانتباه.
تعزيز المشاعر الإيجابية
أهم خطوة من خطوات السيطرة على سمة نقص الانتباه لا تتمثل في شراء هاتف طراز بلاك بيري فائق الأداء وتعبئته عن آخره بالمهام الواجب إنجازها، بل في خلق بيئة يستطيع فيها العقل العمل بأعلى كفاءة له على الإطلاق. وهذا يعني خلق مناخ وجداني إيجابي وخال من الخوف، لأن الوجدان هو المفتاح المسؤول عن تشغيل الأداء التنفيذي وإيقاف تشغيله.
أهم خطوة من خطوات السيطرة على سمة نقص الانتباه هي خلق بيئة يستطيع فيها العقل أن يعمل بأعلى كفاءة له على الإطلاق.
هناك أسباب عصبية تعلل حدوث سمة نقص الانتباه بقدر أقل في البيئات التي يتواصل فيها الناس مع بعضهم بعضاً تواصلاً فعلياً وجهاً لوجه، ويثق فيها المرء بأخيه ويكِّن له كل احترام. فعندما تتواصل بأريحية مع زميل لك، حتى إذا كنت تتعامل مع مشكلة عويصة، فإنّ المراكز العميقة لمخك ترسل رسائل عبر مركز المتعة إلى المنطقة التي تخصص موارد للفصين الأماميين. وحتى عندما تقع تحت وطأة ضغوط شديدة، فإنّ هذا الإحساس بالتواصل البشري يؤدي إلى تنشيط الأداء التنفيذي.
وفي المقابل، فإنّ الذين يعملون في عُزلة مادية عن الآخرين من الأرجح أن يعانوا من سمة نقص الانتباه، لأنه كلما زادت عزلتنا، أصبحنا أكثر توتراً وشعوراً بالضغوط. وشهدت مثالاً ساطعاً على خطر البيئة المنعزلة والقوة العلاجية للبيئة المفعمة بالتواصل عندما قدمت استشاراتي لواحد من أوائل أقسام الكيمياء الجامعية في العالم على الإطلاق. لقد كانت سمة نقص الانتباه متفشية في الثقافة الطموحة سابقاً للقسم، وفاقمها خُلق حَظر على أي شخص يلتمس مساعدة الآخرين أو يصرح بأن هناك أي خطب. وتسلل الشك إلى الناس فلم يثق أحد بأحد، وعمل كل واحد على مشروع وحده، ما أدى إلى المزيد من انعدام الثقة. وكان أغلبهم يعانون من آلام وجدانية، غير أنّ ثقافة القسم كانت تنص ضمناً على فكرة الألم الشديد يفضي إلى ثمار عظيمة.
وفي أواخر التسعينيات، انتحر أحد أكثر طلبة الدراسات العليا بالقسم موهبة. وألقت رسالة انتحاره صراحة باللوم على الجامعة لدفعها إياه إلى ما يتجاوز حدوده وإمكاناته. فقد كانت ثقافة القسم قاتلة حرفياً.
وبدلاً من محاولة إخفاء المأساة والتستر عليها، تصرف رئيس القسم وخلفه بجرأة وإبداع. فقد بدّلا على الفور هيكل النظام الإشرافي بحيث تم تكليف ثلاثة أشخاص بالإشراف على كل طالب من طلبة الدراسات العليا ومرحلة ما بعد الدكتوراه، بدلاً من مشرف واحد يُحكم قبضته القاتلة على مستقبل المُتدرب. وأقام القسم موائد للطعام كل أسبوعين أتاحت للناس فرصة التواصل. (حتى أكثر الكيميائيين عزلة خرج من عزلته ليتناول الطعام الذي يُعد أحد عوامل التواصل العظيمة في الحياة). وبلغ الأمر برؤساء القسم أنهم غيّروا البناء المعماري للمبنى الأساسي الخاص بالقسم، فأزالوا جدراناً وأضافوا مناطق مشتركة ومكاناً لاحتساء قهوة الإسبريسو ملحقاً به بيانو كبير. وأمدوا جميع الطلاب بالمحاضرات والمعلومات المكتوبة حول علامات خطر الإصابة بالإنهاك الذهني، وقدموا إجراءات سرية للطلاب الذي كانوا بحاجة للمساعدة. وأدت هذه الخطوات، إضافة إلى الاجتماعات الدورية التي شملت كبار مدراء الكلية والجامعة، إلى ثقافة مثمرة أكثر إنسانية شعر فيها الطلاب وهيئة التدريس بالمشاركة الكاملة. وظل أداء القسم مثالياً وازدهرت الأبحاث الإبداعية.
وخلاصة القول، إنَّ تعزيز العلاقات والحد من الخوف يشجعان القدرات العقلية. فعندما تخصص وقتاً كل أربع إلى ست ساعات على الأقل لـ "لحظة إنسانية" (تتواصل وجهاً لوجه مع شخص يروق لك) فإنك تُعطي عقلك ما يحتاج إليه.
اعتنِ بعقلك عناية بدنية
يُعتبر النوم والحمية الغذائية والتمارين الرياضية مهمة لتفادي سمة نقص الانتباه. وعلى الرغم من أنّ هذه الإجراءات تبدو بديهية، فإنّ كثيرين منا يُسيئون استخدام عقولهم بتجاهلهم المبادئ الجلية للعناية بالقدرات العقلية.
ربما تحاول التكيف مع سمة نقص الانتباه بأن تخلد إلى النوم لفترات أقل، عاقداً آمالاً واهية بقدرتك على إنجاز المزيد. وهذا نقيض ما أنت بحاجة إلى القيام به، وذلك لأن سمة نقص الانتباه تُجهز عليك عندما لا تحصل على قسط كاف من النوم. وهناك مستندات كافية تؤكد أنّ الحرمان من النوم يخلق مجموعة كبيرة من المشكلات، بداية من قصور اتخاذ القرار وتراجع الإبداع، وانتهاء بالسلوك الطائش والإصابة بجنون الارتياب. وإننا لنختلف من حيث فترات النوم التي نحتاج إليها، والقاعدة العامة المثالية هي أنك تحصل على قسط كاف من النوم إذا كان بوسعك الاستيقاظ دون منبه.
ويلعب النظام الغذائي دوراً حاسماً أيضاً في سلامة المخ. فالكثير من الناس الكادحين يستنشقون عادة الكربوهيدرات، ما يتسبب في تذبذب مستويات السكر ضمن الدم. وهذا يؤدي إلى وجود حلقة مفرغة: تزيد التقلبات السريعة في مستويات الأنسولين من الرغبة في الحصول على الكربوهيدرات. ويُترك المخ، الذي يعتمد على الجلوكوز للحصول على الطاقة، إما متخماً بالطاقة أو متعطشاً لها، ولا يسهم أي من الحالتين في تعزيز الأداء المعرفي الأمثل.
كما يؤدي المخ عمله بشكل أفضل بكثير إذا أمكن إبقاء مستوى الجلوكوز في الدم مستقراً نسبياً. ولتحقيق ذلك، تجنب الكربوهيدرات البسيطة التي تحتوي على السكر والدقيق الأبيض (كالفطائر والخبز الأبيض والمعكرونة). واعتمد على الكربوهيدرات المركبة الموجودة في الفواكه والحبوب الكاملة والخضروات. ويُعتبر البروتين من المكونات المهمة: بدلاً من أن تبدأ يومك بفنجان قهوة وفطيرة دانماركية، جرِّب تناول الشاي مع بيضة أو قطعة من سمك السلمون المدخن على قطعة من خبز القمح المحمص. وتناول كل يوم جرعة من الفيتامينات المتعددة، وكذلك أحماض أوميغا-3 الدهنية المكملة، والتي يعدُّ زيت السمك أحد مصادرها الممتازة. إذ تُعزز أحماض الأوميغا-3 وفيتامينَي "هـ" و"ب" المُركبيْن، المتوفرة في أقراص الفيتامينات المتعددة، سلامة وظائف المخ، وربما حتى تقي من مرض الزهايمر والعلل الالتهابية (التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق للأمراض الفتاكة الرئيسة، مثل أمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري والسرطان). إلى جانب ذلك، ابتعد عن المشروبات الروحية أيضاً، لأن الإفراط في تناولها يقتل خلايا المخ ويسرّع الإصابة بفقدان الذاكرة وحتى الخرف. ومع تغييرك لنظامك الغذائي لتعزيز الأداء الأمثل للمخ والصحة العامة الجيدة، سيتخلص جسمك من الوزن الزائد.
إذا كنت تعتقد أنك لا تستطيع توفير الوقت المناسب لممارسة الرياضة، فلتفكر في الأمر مجدداً. فالجلوس على مكتب لساعات سيقلل من حدّة العقل، ليس بسبب انخفاض تدفق الدم إلى الدماغ وحسب، بل لأسباب كيميائية حيوية أُخرى أيضاً. حيث تدفع ممارسة الرياضة البدنية الجسم لإنتاج مجموعة من المواد الكيميائية التي يحبها المخ، بما في ذلك الإندورفين والسيروتونين والدوبامين والإبينفرين والنوربينفرين، فضلاً عن اثنين من المركبات المكتشفة حديثاً، وهما نوعان من البروتين أحدهما يسمى "عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ" والآخر يسمى "عامل نمو الأعصاب". ويعزز كلا البروتينين صحة الخلية والنمو العصبي في المخ، ويقيان من أعراض الشيخوخة والإجهاد، ويُبقيان المخ في حالة ممتازة. إذ أنه لا شيء يحفز إنتاج بروتيني التغذية العصبية ونمو الأعصاب بقوة مثل ممارسة الرياضة البدنية، وهو ما يفسر السبب في حديث من يمارسون الرياضة بانتظام عن حالة الفتور والخمول التي يواجهونها إذا تخلفوا عن ممارسة الرياضة لبضعة أيام. سوف تعوض أضعاف الوقت الذي تستثمره على جهاز المشي إذ تتحسن الإنتاجية والكفاءة. ولتجنب أعراض سمة نقص الانتباه وأنت في العمل، انهض من مكتبك واصعد واهبط مجموعة من درج السلم بضع مرات أو امش مهرولاً عبر الرواق. فهذه الجهود السريعة البسيطة ستضغط زر إعادة تنشيط عقلك.
نظم أمورك بحيث تتفادى سمة نقص الانتباه
من المهم أن تضع لنفسك تكتيكات لتصبح منظماً، ولكن لا تجعلها من قبيل قرارات السنة الجديدة الجوفاء. وهدفك بدلاً من ذلك هو أن ترتب عملك بطريقة تناسبك، ومن ثم لا تحُول الفوضى بينك وبين الوصول إلى أهدافك.
أولاً، ضع استراتيجيات تساعد على إبقاء الفصين الأماميين تحت السيطرة. هذه الاستراتيجيات يمكن أن تشمل تقسيم المهام الكبيرة إلى مهام أصغر وإبقاء جزء من مساحة عملك أو مكتبك خالياً طوال الوقت (لست بحاجة لأن يكون لديك مكتب أنيق، بل مجرد جزء أنيق من مكتبك). وبالمثل، ربما تحاول إبقاء جزء من يومك خالياً من المواعيد والبريد الإلكتروني وغيرهما من المُلهيات، بحيث يكون لديك وقت للتفكير والتخطيط. ولأن البريد الإلكتروني وسيلة رائعة للمماطلة وتعريض نفسك لسمة نقص الانتباه في الوقت ذاته، فربما تنظر في تخصيص "ساعة للبريد الإلكتروني" تكون محددة، طالما أنه ليس من الضروري الرد على كل رسالة بريد إلكتروني مباشرة.
ثانياً، عندما تبدأ يومك، لا تسمح لنفسك بأن تستسلم لدوامات البريد الإلكتروني أو البريد الصوتي أو تنخرط في مهام طفيفة تستهلك وقتك لكن بلا جدوى تذكر. الاضطلاع بمهمة على قدر من الأهمية بدلاً من ذلك. وقبل أن تغادر في آخر اليوم، دوّن قائمة لا تزيد عن خمسة بنود ذات أولوية سوف تتطلب انتباهك غداً. حيث تُجبرك القوائم القصيرة على تحديد الأولويات وإكمال مهامك. بالإضافة إلى ذلك، اجعل مستنداتك بعيدة عنك بالقدر الكافي. إذ يستخدم أحد مرضاي، وهو تنفيذي يعاني اضطراب نقص الانتباه، قاعدة أوهيو التي تقول: "تعامل معها مرة واحدة فقط". إذا لمس مستنداً، فإنه يتعامل معه أو يحفظه أو يتخلص منه. ويقول: "أنا لا أضعه في كومة. فالأكوام هي مثل الأعشاب الضارة، إن تركتها تنمو، فسوف تستحوذ على كل شيء".
ثالثاً، انتبه لفترات اليوم التي تشعر فيها بأنك تؤدي العمل بأفضل ما لديك، وأنجز حينها أهم عمل لديك، وأرجئ الأعمال الرتيبة لأوقات أُخرى. ورتب مكتبك بطريقة تساعد على تنشيط الذهن. إذا كنت تركز بشكل أفضل مع الموسيقى، استمع للموسيقى (واستخدم سماعات الأذن، إذا لزم الأمر). وإذا كنت تفكر بشكل أفضل وأنت قائم على قدميك، مارس العمل واقفاً أو تجول في المكان مراراً. وإذا كان الرسم عبثاً أو النقر بأصابعك يساعدك، دبّر وسيلة للقيام بذلك دون أن تزعج أحداً، أو اشتر إحدى لعب التململ لتحضرها معك إلى الاجتماعات. حيث تبدو هذه الاستراتيجيات الصغيرة بديهية، لكنها تتصدى لشرّ سمة نقص الانتباه الكامن في تشتيت التفاصيل.
احمِ فصّي دماغك الأماميين
لتبقى بعيداً عن وضع النجاة وتمنع دماغك السفلي من اغتصاب عجلة القيادة، تمهَّل. وخذ ما يلزمك من الوقت لفهم ما يجري، والاستماع، وطرح الأسئلة، واستيعاب ما قيل، ومن ثم لا يختلط الأمر عليك وتلقي بعقلك في بوتقة الذعر. مكّن أحد مساعديك من أن يكون رقيباً على تصرفاتك. وألح عليه بإصرار أن يطالبك بالتوقف عن استخدام البريد الإلكتروني، أو ترك الهاتف، أو مغادرة المكتب.
وإذا بدأت بالفعل تشعر بأنك متخم بالأعباء الزائدة، فجرب الحيل التالية لتصفِّي ذهنك. قم بعمل روتيني سهل، مثل إعادة ضبط التقويم في ساعة يدك أو تدوين ملحوظة عن شيء خارج نطاق العمل. فإذا كنت تشعر بالقلق إزاء تدشين مشروع ما، اسحب ورقة أو قم بتشغيل برنامج معالج النصوص الخاص بك واكتب فقرة عن شيء لا علاقة له بالمشروع (وصف لمنزلك أو سيارتك أو حذائك مثلاً، أو أي شيء تعرفه جيداً). كما يمكنك تناول أسهل جزء من المهمة. على سبيل المثال، اكتب فقط عنوان مذكرة عنها. وافتح قاموساً واقرأ بعض التعريفات، أو اقضِ خمس دقائق في حل لغز كلمات متقاطعة. حيث تعمل كل مهمة من هذه المهام الصغيرة على تهدئة دماغك السفلي عن طريق خداعه بأن يوقف الرسائل المثيرة للقلق، ويرد فصيك الأماميين إلى وضع السيطرة الكاملة.
وأخيراً، استعدّ للهجوم التالي من سمة نقص الانتباه عن طريق وضع الشريط الجانبي الذي بعنوان "سيطر على سمة نقص الانتباه لديك" بالقرب من مكتبك بحيث يمكنك رؤيته. فمعرفة بأنك على أهبة الاستعداد يقلل من احتمال وقوع الهجوم، لأنك لن تكون عرضة للذعر.
ما يمكن أن يفعله القادة
في كثير من الأحيان، تُحفز الشركات سمة نقص الانتباه وتفاقمها في موظفيها من خلال المطالبة بالتفكير السريع بدلاً من التفكير العميق. كما تطلب الشركات من الموظفين العمل على مشاريع ومبادرات متعددة متداخلة، ما يؤدي إلى تدني مستوى التفكير. والأسوأ من ذلك، أن الشركات التي تطلب من موظفيها إنجاز أعمال كثيرة جداً في آن واحد، تميل إلى مكافأة من يَقبلون الحمل الزائد بينما تُجازي من يرفضون ويختارون التركيز.
وعلاوة على ذلك، تُخطئ المؤسسات بإجبار موظفيها على إنجاز المزيد والمزيد باستخدام القليل والقليل، عبر خفض عدد الموظفين المساعدين. وينتهي بهذه الشركات المطاف أنها تخسر المال على المدى الطويل، لأنه كلما زاد الوقت الذي يضطر المدير لإنفاقه وهو يؤدي عمل المساعد الإداري لنفسه، وقلَّت قدرته على التفويض، فسيكون أقل فعالية في القيام بالعمل المهم لدفع عجلة المؤسسة إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشركات التي تتجاهل أعراض نقص الانتباه في موظفيها تعاني من آثارها السيئة: تتدنى معدلات إنجاز الموظفين، ويخلقون ضرباً من الفوضى، ويختصرون طرق إنجاز المهام، ويرتكبون الأخطاء بلا مبالاة، ويهدرون قدراتهم العقلية. ومع استمرار تزايد المطالب، تؤدي البيئة السامة مرتفعة الضغوط إلى معدلات مرتفعة من أمراض الموظفين ودورانهم.
ومن أجل التصدي لسمة نقص الانتباه وتسخير القدرات العقلية للموظفين، ينبغي أن تستثمر الشركات في وسائل الراحة والرفاهية التي تسهم في خلق مناخ إيجابي. ومن بين الشركات التي قامت بعمل ممتاز في هذا الصدد شركة "ساس"، وهي شركة برمجيات كبرى في ولاية كارولينا الشمالية. حيث تقدم الشركة لموظفيها، على نحو أكسبها شهرة، قائمة طويلة من الامتيازات: صالة ألعاب رياضية في موقع العمل على مساحة 36,000 قدم مربع، ويوم عمل مدته سبع ساعات ينتهي في الخامسة مساء، وأكبر منشأة للرعاية النهارية في الموقع للأطفال في ولاية كارولينا الشمالية، ومقهى يوفر مقاعد للأطفال وكراسي مرتفعة حتى يتمكن الآباء من تناول الغداء مع أطفالهم، وإجازات مرضية غير محدودة، والكثير جداً غير ذلك. إذ يُعتبر الجو في "ساس" دافئ ومترابط ويبعث على الاسترخاء. وتأثير ذلك على النتيجة النهائية إيجابي للغاية، فنسبة دوران الموظفين داخل الشركة لا تتعدى قط 5٪. وبالتالي فإنّ الشركة توفر الملايين التي تنفقها شركات البرمجيات الأُخرى على التوظيف والتدريب، ومكافآت نهاية الخدمة (والتي تقدر بما لا يقل عن 1,5 ضعف الراتب في صناعة البرمجيات). ويقابل الموظفون تلك المزايا بالإنتاجية العالية. ومنه نستنتج، أن قوى سمة نقص الانتباه التي تقصم ظهر المؤسسات الأُخرى لا تكتسب زخماً أبداً في "ساس".
في غضون ذلك، يمكن للقادة أيضاً أن يساعدوا على منع حدوث سمة نقص الانتباه من خلال التوفيق ما بين مهارات الموظفين ومهامهم. ذلك أنّ التوتر ينشأ عندما يحدد المدراء للموظفين أهدافاً بعيدة المنال أو يطلبون منهم التركيز على أشياء لا يجيدونها، بدلاً من التركيز على ما يجيدون. وعلى النقيض من ذلك، يمكن للمدراء الذين يدركون مخاطر سمة نقص الانتباه أن يجدوا سبلاً لإبقاء أنفسهم ومؤسساتهم على المسار الصحيح. فعلى سبيل المثال، حدَّد ديفيد نيليمان، من شركة جيتبلو، علانية وبلا خجل الأشياء التي لا يجيدها، ووجد طرقاً للتعامل مع نقاط ضعفه، إما عن طريق التفويض أو بتمكين مساعده من توجيهه. ويقدم نيليمان هذا السلوك كنموذج أيضاً لغيره من جميع العاملين بالمؤسسة. إذ تمنح صراحته بالنسبة لتحديات اضطراب نقص الانتباه لديه الآخرين الإذن للتحدث عن صعوبات نقص الانتباه الخاصة بهم والحصول على الدعم الذي يحتاجونه. كما أنه يشجع مدراءه على التوفيق ما بين الموظفين والمهام التي تناسب أنماطهم المعرفية والعاطفية، مدركين أنه لا يوجد أسلوب وحيد هو الأفضل. ويعتقد نيليمان أنّ مساعدة الناس على العمل استناداً إلى نقاط قوتهم ليست مجرد علامة على الإدارة المتطورة وحسب، بل إنها وسيلة ممتازة أيضاً لتعزيز إنتاجية العمال ورفع معنوياتهم.
أخيراً، يُعتبر سمة نقص الانتباه تهديداً حقيقياً لنا جميعاً. وإذا لم نسيطر عليها، ستسيطر هي علينا. لكن فهم سمة نقص الانتباه وآثارها يسمح لنا بتطبيق أساليب عملية لتحسين أوضاع عملنا وحياتنا. وفي النهاية، فإنّ الخطوة الأهم التي يمكن أن يتخذها القائد المستنير لمعالجة مشكلة سمة نقص الانتباه هي أن يحدد ماهيتها. حيث يزيل إخراج سمة نقص الانتباه من مكمنها ووصف أعراضها وصمة العار ويحد من الإدانة الأخلاقية، واللتين لطالما ألصقتهما الشركات عن طريق الخطأ بالموظفين المثقلين بالمهام. ومن خلال منح الناس الإذن ليطلبوا المساعدة ويظلوا منتبهين لعلامات الإجهاد، ستقطع المؤسسات شوطاً طويلاً نحو تعزيز بيئات عمل ذكية ومتوازنة وأكثر إنتاجية.
ظهرت نسخة من هذه المقالة في عدد يناير/ كانون الثاني 2005 من هارفارد بزنس ريفيو.