أصدرت شركة "وي وورك" (WeWork)، المتخصصة في تأجير مساحات العمل المشتركة، والتي تعرف الآن باسم "وي كومباني" (We Company)، خلال أغسطس/ آب الماضي استمارة S-1 الخاصة بها، بغرض طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام، وهو ما أثار عدة مخاوف بشأن التقييم المبالغ فيه للشركة (47 مليار دولار في آخر تقييم)، نظراً لخسائرها الثقيلة (1.6 مليار دولار مقابل إيرادات بقيمة 1.8 مليار دولار) رغم نموها السريع (نمو الإيرادات بنسبة 86% سنوياً). كما جددت هذه الخطوة التساؤلات حول مزاعم "وي وورك" بأنها شركة تكنولوجيا (تظهر كلمة "تكنولوجيا" 110 مرات في نشرة الاكتتاب الخاصة بها)، وعما إذا كانت تستحق التقييم المرتفع لشركات التكنولوجيا. ولكم نادى النقاد بعدم اعتبارها شركة تكنولوجيا، بل شركة عقارية حديثة تشتري العقارات المؤجرة لمدد طويلة من ملاكها وتؤجرها للغير لمدد قصيرة. كما يرى كثيرون أن الشركة لا تستحق التقييم النسبي المرتفع للأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وتسديد الديون، والذي عادة ما يمنح لشركات التكنولوجيا.
اقرأ أيضاً في المفاهيم الإدارية: معنى التاجير التمويلى
شركة التكنولوجيا الحديثة الناجحة، في رأينا، هي تلك التي تستطيع إدخال تغييرات جذرية على قطاعات بأكملها، وإنجاز توسعات كبرى من حيث الحجم والنطاق بسرعة هائلة، وتحقيق أرباح طائلة دون الحاجة لاستثمارات مالية ضخمة. وعادةً ما تتمتع بمعظم، إن لم يكن كل، السمات الخمس التالية:
انخفاض التكاليف المتغيرة. فشركات مثل "جوجل" (Google)، إير بي إن بي (Airbnb)، يلب (Yelp)، "أوبر" (Uber)، "تويتر" (Twitter)، و"فيسبوك" (Facebook) تمتلك نماذج افتراضية قابلة للتطوير، يمكن مضاعفتها بين عشية وضحاها دون الحاجة إلى تكاليف إضافية ضخمة، إذ يتحقق كل دولار إضافي في الإيرادات دون مصروفات موازية على الطرف المقابل. فكم تبلغ تكلفة إنتاج نسخة جديدة من "ويندوز 10"، مثلاً، أو خدمة عميل آخر لدى "جوجل" أو "فيسبوك"؟ تكلفة قليلة نسبياً. إذ يتراوح إجمالي هوامش الأرباح لدى "فيسبوك" ما بين 80 إلى 85%.
وهذا المفهوم لا ينطبق ولو من بعيد على "وي وورك". فهي شركة تعمل في مجال تأجير المساحات المكتبية، تقدم خدمة الإنترنت المجاني والمشروبات والوجبات الخفيفة والقهوة ومساحات العمل للأفراد مقابل أجر معلوم. وحتى لو صارت أكبر وأنجح لاعب في مجالها، فسيظل عندها بند مهم لتكاليف التشغيل، ومن ثم هوامش أرباح ضئيلة. (فكر في الوضع: إيجار، خدمات، صيانة، تأمين، حراسة، مشروبات - هذه كلها تكاليف مالية!).
انخفاض استثمارات رأس المال. حتى لو أقدمت شركة التكنولوجيا الحديثة على استثمار أموال في مزارع الخوادم، فغالباً ما ستبقى أصولها محدودة بسبب عدم وجود اشتراطات معينة في الأراضي والمباني والمصانع والمخازن. إذ تبلغ قيمة الأصول المادية لشركة "فيسبوك"، مثلاً، 25 مليار دولار، ولكنها تقدر بحوالي 525 مليار دولار.
في حين تعمل شركة "وي وورك" في تأجير العقارات، ويتعين عليها تطويرها وتأثيثها بأعلى مستويات الجودة للتفوق على غيرها من مقدمي الخدمة. وبذلك تعتبر المباني المستأجرة أصولاً رأسمالية. هذه الحقائق تعني شيئين. أولاً، متطلبات رأس المال لدى "وي وورك" أعلى بكثير من شركات التكنولوجيا المتعارف عليها، مقابل تحقيق القدر نفسه من الإيرادات. وبالتالي فلن يكون بمقدور "وي وورك" تحقيق قفزات نوعية في النمو اعتماداً على سيولتها النقدية الداخلية. وستظل بحاجة إلى أسواق المال والمقرضين لتمويل خطط نموها الطموحة. والأهم من ذلك أن قدرة الشركة على توليد تدفقات نقدية حرة (المبالغ المتبقية بعد طرح رأس المال المستثمر من الأرباح) ستكون محل شك، بخلاف شركة "فيسبوك" التي يحقق نمو إيراداتها أرباحاً هائلة، ونظراً لمحدودية متطلباتها الخاصة بإعادة الاستثمار حفاظاً على نمو الشركة، تعتبر معظم هذه الأرباح سيولة مالية حرة، والتي يمكن دفعها للمستثمرين كأرباح.
ثانياً، ستتكبد شركة "وي وورك" قدراً أعلى من المصروفات المتعلقة بإهلاك الأصول واستهلاكها وتلفها، مقارنة بشركات التكنولوجيا ذات الأصول المشتركة. وسيتطلب هذا التلف في الأصول ضخ تمويلات معادلة بغرض استبدال التالف، فالعملاء ينجذبون في النهاية إلى المقرات العصرية، ويتوقعون استبدال مصابيح الإضاءة التالفة والسجاجيد البالية والكراسي المكسورة والطابعات القديمة بانتظام. وكما يقول وارن بافيت،فإن الجنّيات لا تأتي فتدفع مصروفات استبدال هذه التلفيات. وبالتالي ففي حين يكون قياس الأداء ببيان مجموع الإيرادات والمصروفات، باستخدام مقياس مثل (EBITDA) (الأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وسداد الديون)، مجدياً في تقدير قيمة شركات التكنولوجيا ذات الأصول المشتركة، فهو غير منطقي في حالة شركة "وي وورك". وهناك مقاييس أخرى تقترحها الشركة - مثل مقياس (EBITDA) المعدل مجتمعياً، والذي يتجاهل التكاليف الأساسية الداخلة في صلب توفير الخدمات، مثل قيم الإيجارات - وتعد هذه مقاييس أكثر إثارة للسخرية.
كثرة بيانات العملاء والحميمية معهم. تضطلع شركات التكنولوجيا الحديثة – مثل "أوبر"، "أمازون" (Amazon)، "آبل" (Apple)، "جوجل"، "يلب"، "تيسلا" (Tesla)، "فيسبوك" – بمهمة تجميع سنوات من بيانات العملاء وتخزينها وتنظيمها وتحليلها. لا تُمثل هذه البيانات كنوزاً افتراضية فحسب، إذ تمكنها من توجيه الإعلانات وبيع المنتجات المصممة خصيصاً بما يناسب احتياجاتهم. بل إنها تزيد أيضاً من تكاليف تغيير الشركات، لأن العملاء يستخدمون الخدمة ويحصلون في المقابل على حلول مصممة خصيصاً بما يتناسب مع احتياجاتهم. وليس من الواضح إن كانت "وي وورك" تجمع هذا النوع من البيانات، وكيف تستخدمها في تطوير حلول للفوز بحميمية العملاء، خصوصاً وأن التغول في المراقبة والتدخل من مقر مكتبي قد يُعتبر انتهاكاً لقوانين الخصوصية.
أثر الشبكة. بالنسبة لمعظم شركات التكنولوجيا، كلما كبرت الشبكة، ارتفعت قيمتها، لكن بأثر مضاعف، فكل عميل جديد يشترك في موقع "فيسبوك"، حتى لو من مكان بعيد، يضيف قيمة لعميل حالي، لأنه يوسع من شبكة الاتصال المحتملة للعميل الحالي. وأي عميل جديد ينضم إلى "أوبر" أو "أمازون" يُحسّن القيمة المقترحة للمستخدم الحالي عبر تحسين جودة التعليقات والملاحظات، وتجويد الخدمات اللوجستية، وعدد الموردين المتعاملين مع السوق. لكن من الصعب أن نعرف كيف لشخص انضم لشركة "وي وورك" - لنقل من إندونيسيا مثلاً - أن يخلق قيمة لعميل آخر يعيش في تكساس. إذ لا يحتاج العميل إلى شبكة "وي وورك" للتعاون عبرها دولياً، لأن ثمة منصات أكبر وأفضل لمثل هذا الغرض (مثل "لينكد إن").
نظم تعزز التوسع بتكلفة ضئيلة. تعمل شركات التكنولوجيا الحديثة على توطيد علاقاتها مع العملاء، وتحسين ما تعرفه عن أذواقهم وما يفضلون، حتى تتمكن من تقديم خدمات أفضل لهم. هذا كله يتم بتكلفة ضئيلة من خلال تحسين أصول شركاء المنظومة. انظر مثلاً لاستخدام "آبل" للآيفون، واستخدام "أمازون" لأجهزة إيكو لبيع التطبيقات والموسيقى والفيديوهات وخدمات الدفع بأسلوب البيع الأفقي. إذ تحصل الشركات التي تتحكم في هذه المنصات على نصيبها من كل دولار يتدفق عبر النظام. قد يكون بمقدور "وي وورك" اقتحام قطاعات عقارية أخرى مثل الشقق أو المدارس، لكن ذلك سيتطلب استثمارات هائلة والتعامل مع عملاء جدد. قارن هذا بحال "أوبر" التي يمكنها توسيع نطاق عروضها على "أوبر إيتس" بأقل التكاليف الاستثمارية.
باختصار، لا تستوفي "وي وورك "أياً من المعايير التي تمكن أي شركة تكنولوجيا من تحقيق معدلات نمو هائلة، إضافة إلى مبدأ حصول الفائز على الأرباح كلها. وعلى العكس من ذلك، تستوفي شركات مثقلة بالأصول والمخازن مثل "أمازون" و"تيسلا" و"آبل" ثلاثةً من هذه المعايير الخمسة.
تبدو "وي وورك" شركة عقارات مزعزعة، تهدف إلى تغيير "طبيعة عمل الأفراد وحياتهم وتطورهم". قد يُعجب البعض بالنمو المذهل لشركة "وي وورك". لكن هذا النمو يتطلب وسيظل يتطلب قدراً هائلاً من التكاليف والاستثمارات. والأهم من ذلك، أن هذا النمو لن يحقق أرباحاً مضاعفة كالتي تتحقق للشركات الرقمية التي يُحقق فيها أي نمو للإيرادات بعد الوصول إلى نقطة التعادل قيمةً مضافة إلى الأرباح وحصص الأرباح القابلة للدفع.
لكننا نرى أن بعض الانتقادات الأخرى الموجهة للشركة وتقييمها قابلة للمعالجة، شريطة تعديل السعر الذي سيدفعه المستثمرون مقابل أسهم الشركة.
التخوفات بشأن اختلاف دورة الأصول والالتزامات. تستحوذ "وي وورك" على العقارات بإبرام عقود طويلة الأجل (بالتزامات مالية طويلة الأجل) ثم تؤجرها بعقود قصيرة الأجل (بأصول مدرة للإيرادات قصيرة الأجل). وهذه سمة معتادة في الكثير من الشركات العقارية كالفنادق. ويعتبر اختلاف دورتي الأصول والالتزامات سلاحاً ذا حدين. فقد يُدر أرباحاً ضخمة في أوقات الرخاء، لأن الشركات تثبت تكاليف الإيجار قبل فترة طويلة، ويمكنها الآن فرض رسوم إيجارية أعلى. لكنه قد يجر الشركة إلى الإفلاس في أوقات الركود، لأن التزاماتها المالية الثابتة، التي تبلغ حالياً 34 مليار دولار، ستظل واجبة السداد في الأحوال كلها. ويستطيع المستثمرون تحديد خصم معقول على تقييمها لمعادلة المخاطر العالية.
التخوفات بشأن الاكتتاب العام لأسهم تحمل حقوق تصويت أقل من تلك الممنوحة لأسهم المؤسسين. يُعد طرح فئات متعددة من الأسهم سمة شائعة في العديد من الشركات المساهمة الحديثة. وللتخلص من المخاوف المرتبطة بشراء أسهم ليس لها حقوق تصويت، يمكن لحملة الأسهم تحديد خصم مناسب في مقابل حقوق التصويت، على النحو المعمول به في "فيسبوك"، "ألفابت" (Alphabet)، و"سبوتيفاي" (Spotify).
التخوفات بشأن التعاملات الداخلية، مثل تأجير المؤسسين لعقارات الشركة. في الوقت الذي نعارض فيه أن تكون جهات البيع المملوكة للإدارة هي جهة التوريد المفضلة للشركة المساهمة، فقد أفصحت "وي وورك" عن تعاملاتها الداخلية. ويمكن للمستثمرين تحديد خصم مناسب على الخسارة المحتملة بسبب التعاملات الداخلية.
خلاصة القول، إننا نرفض وضع شركة "وي وورك" ضمن فئة شركات التكنولوجيا مثل "آبل"، "مايكروسوفت"، "فيسبوك"، و"ألفابت"، لأنها لا تتمتع بالسمات التي تجعل تلك الشركات آلات إدرار للأرباح المالية، ومن ثم فهي لا تستحق تقييم شركات التكنولوجيا. ونأمل أن يستخدم المحللون المدراء إطار عمل أكثر شمولاً على النحو المذكور هنا، بغرض الوقف على المواصفات الحقيقية لشركات التكنولوجيا. ويجب أن يحذر المحللون من اعتبار كل شركة ناشئة، مهما كانت مزعزعة، شركة تكنولوجيا، أو أنها تستحق تقييم شركات التكنولوجيا، لأن وصف الشركة "بالتكنولوجية" ليس هو ما يحدد القيمة المضافة لحاملي الأسهم. فالقيمة تتوقف على الأرباح، والعوائد على الاستثمار، وحصص الأرباح القابلة للتوزيع.