يُنظر إلى القيادة بعيدة النظر على أنها عنصر حيوي للتغيير الاستراتيجي. وذلك لأنها لا تحدد فقط التوجه الاستراتيجي - بل لأنها تنبئ أيضاً عن الأسباب التي تجعل التغيير يستحق السعي ورائه وتلهم الناس كي يعتنقوا هذا التغيير. وليس بالأمر الغريب أن ينظر كل من العلم النظري والتطبيقي على أرض الواقع نظرة بالغة الإيجابية للقيادة بعيدة النظر بوصفها مهارة حيوية من مهارات القيادة.
ولكن البحث الذي أجريناه قد كشف لنا أن الأثر الإيجابي للقيادة بعيدة النظر ينهار عندما تنعدم المواءمة بين كوادر الإدارة الوسطى والإدارة العليا في الرؤية الاستراتيجية. فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى إبطاء الجهود المبذولة لإحداث التغيير الاستراتيجي أو إخفاقها.
عندما نفكر في القادة ذوي النظرة البعيدة، فإن أول رد فعل لنا هو التفكير في الرؤساء التنفيذيين. ويتبادر إلى أذهاننا أناس أصحاب شهرة عريضة أمثال ستيف جوبز، والت ديزني، أوبرا وينفري. ولكن القيادة بعيدة النظر ليست مهمة فقط لكبار المدراء، بل إنها مهمة أيضاً لكوادر الإدارة الوسطى والدنيا الذين يلعبون دوراً رئيساًً في تنفيذ التغيير الاستراتيجي. تعد قدرة المدراء على إلهام فرق عملهم وخلق المواءمة الاستراتيجية -من خلال الفهم المشترك لاستراتيجية الشركة والالتزام بها- فيما بينهم عنصراً جوهرياً في تنفيذ الاستراتيجية بنجاح.
لهذا السبب عادة ما تُدرج أطر القيادة بالشركات مهارة القيادة بعيدة النظر باعتبارها إحدى المهارات الرئيسة للقيادة بالنسبة للمدراء. فعلى سبيل المثال، وجد مشروع "أوكسجين" (Oxygen) القائم على البيانات والتابع لـ "جوجل" أن القيادة بعيدة النظر ترد كواحدة من 8 خصال تتمتع بها الكوادر البارزة في الإدارة الوسطى.
ومع ذلك، يعتمد التركيز على القيادة بعيدة النظر على افتراض أن المدراء خارج الإدارة العليا دائماً ما يكونون في تواءم مع استراتيجية الشركة. فما العمل إذا لم يكونوا كذلك؟
درسنا القيادة بعيدة النظر والمواءمة الاستراتيجية عبر مؤسستي خدمات في غرب أوروبا (إحداهما تعمل في مجال الطاقة والأخرى في مجال النقل). وكانت كلتا الشركتين تمران بعمليات مشابهة من التغيير الاستراتيجي وتجعلان هدف تحقيق المواءمة الاستراتيجية عبر قطاعاتهما أولوية كبرى. وقد أجرينا دراسة مسحية على 136 مديراً وفرق عملهم لتقييم القيادة بعيدة النظر (حسب تقييمات أعضاء تلك الفرق) ومدى تحقق المواءمة الاستراتيجية ضمن الفريق (والتي تحددت من خلال حساب التطابق بين ترتيب الأولويات الاستراتيجية الذي وضعه أعضاء فريق العمل)، والمواءمة الاستراتيجية بين المدراء في الإدارة العليا (والتي تحددت من خلال حساب التطابق بين ترتيب الأولويات الاستراتيجية الذي وضعه مدير الفريق وترتيب الأولويات الاستراتيجية كما وضعه الرئيس التنفيذي للفريق). كما أجرينا أيضاً مقابلات مع العديد من المدراء ومرؤوسيهم للتوصل لفهم أعمق للعلاقات التي حددناها في الدراسة المسحية.
وتدعم نتائج دراستنا بوضوح الاستنتاج القائل بأن القيادة بعيدة النظر سلاح ذو حدين. فعندما تتوفر المواءمة بين الرؤية الاستراتيجية لكل من مدراء الإدارة الوسطى وكوادر الإدارة العليا، تؤول الأمور لما يتماشى مع النظرة الشائعة للقيادة ذات الرؤية: أي أنه كلما انشغل هؤلاء المدراء بالقيادة بعيدة النظر (عن طريق نقل رؤيتهم للمستقبل والتعبير عن التقدم الذي يودون لفرقهم تحقيقه خلال 5 سنوات)، ازداد الفهم المشترك للاستراتيجية بين أعضاء فرقهم وازداد أيضاً التزام فرقهم بتنفيذ الاستراتيجية.
ولكن بالنسبة للمدراء الذين يفتقدون المواءمة تجاه استراتيجية الشركة، فقد انكشف الجانب المظلم للقيادة بعيدة النظر. فكلما نشر هؤلاء القادة المفتقرون إلى المواءمة القيادة ذات الرؤية، قلت المواءمة الاستراتيجية وقل الالتزام بين فرق عملهم.
وقدمت نتائج المقابلات التي أجريناها مع المدراء شرحاً لنتائج دراستنا. فقد أفاد الموظفون الذين يعملون مع مدراء بعيدي النظر ولكن يفتقرون إلى المواءمة أن مدراءهم قد تسببوا لهم في شعورهم بالارتباك والريبة بشأن ما ستجلبه استراتيجية الشركة. الأمر الذي أدى إلى انفصال فرقهم عن استراتيجية الشركة. كما أوضح أحد الموظفين بأحد الفرق التي يرأسها مدير بعيد النظر ومفتقر للمواءمة قائلا ً: "حسناً إننا نتحدث كثيراً عن استراتيجية الشركة مع مديرنا. ولكنني لا أجد للشركة استراتيجية واضحة"، و"أفضل التركيز على مهماتي اليومية وتركها (أي الاستراتيجية) كما هي".
في حين كانت القيادة بعيدة النظر تشكل قوة إيجابية عندما كان هناك مواءمة بين المدراء واستراتيجية الشركة، فقد تحولت إلى قوة سلبية تقف عائقاً في طريق المواءمة الاستراتيجية وذلك عندما تحيد رؤية المدير عن رؤية الشركة.
وتكمن أهمية نتائج تلك المقابلات في أنها تحذر مما عرف شائعاً في شركات كُثُر. فالعديد من الشركات تستثمر بكثافة في تطوير الإدارة. ويكاد يُنظَر إلى القيادة بعيدة النظر دوماً باعتبارها إحدى مهارات القيادة الحيوية اللازمة للتطوير.
وفي الوقت نفسه تميل الشركات نحو تقليل الاستثمار بشكل كبير في خلق المواءمة الاستراتيجية بين مدرائها. بل يُكلَف المدراء بخلق المواءمة داخل المؤسسة وكأنه أمر مسلّم به بحكم مناصبهم. إلا أن إحدى الدراسات التي أجريت حول تنفيذ الاستراتيجية قد سجلت أن ثمة عدد من الأسباب تجعل المدراء غير متوائمين مع استراتيجية الشركة (على سبيل المثال، يركزون بشكل كبير على مصلحة أقسامهم داخل الشركة ولا يسعهم رؤية الصورة الكبرى). فلا يمكن أن تؤخذ المواءمة الاستراتيجية لدى المدراء وكأنها أمر مسلم بوجوده.
كيف لك أن تضمن توفر المواءمة حول استراتيجية الشركة بين مدرائها؟ تفيدنا خبراتنا في التعامل مع الشركات فيما يخص المواءمة الاستراتيجية، أن تبدأ بخلق المواءمة الاستراتيجية بين مدراء الإدارة الوسطى قبل البدء في بذل جهود تنفيذ الاستراتيجية. ولا ينبغي أن يتم ذلك عن طريق إعلامهم بالأمر لمرة واحدة، وإنما عن طريق إجراء حوار معهم، فالناس لن يتحملوا مسؤولية التغيير الاستراتيجي إلا إذا جرى إقناعهم بقيمته باستمرار. ويشير بحثنا إلى أن مثل تلك الجهود تكون مدروسة لضمان أن تستفيد الشركات من تطوير القيادة بعيدة النظر لدى مدرائها بدلاً من أن تعاني من الجانب المظلم لها.