سمعنا كثيراً أن الرد على المبالغة في الإدارة التفصيلية (Micromanaging) يكون بالثقة بمن نديرهم وتمكينهم من اتخاذ القرارات بأنفسهم. يبدو هذا سهلاً لكنه ليس على أرض الواقع. فعندما يحين وقت التطبيق يفشل الكثير من رؤساء المؤسسات في التفويض لأنهم لا يهيئون له بقاعدة من الممارسات والعقليات الأساسية.
عكفت خلال العقد الماضي على دراسة أعظم رؤساء المؤسسات على مستوى العالم، أولئك القادة الذين حققوا نجاحاً استثنائياً بحيث أقبل عليهم أصحاب المواهب من كل حدب وصوب. يوجد هؤلاء "الرؤساء الخارقون" كما أسميهم في عدد من الصناعات، منهم شخصيات أسطورية مثل سيد المطاعم السريعة البسيطة نورمان برينكر، وعملاق الأغذية المعلبة مايكل مايلز، ومليونير التقنية لاري إليسون، ورائد التمويل الوقائي جوليان روبرتسون، والأيقونة الإعلامية أوبرا وينفري، وغيرهم.
لدى تحليل مسارات الحياة المهنية وممارسات هؤلاء القادة وجدت أنّ الرؤساء الخارقين كانوا بارعين في التفويض. ربما تقشعر أبدان الرؤساء العاديين عند معرفتهم للكم الكبير من السلطة والتوجيه الذي يتنازل عنه هؤلاء الخارقون لمرؤوسيهم. هل تتجرأ على تسليم شخص 25 مليون دولار من رأس المال الأساسي ليذهب ويديرها بنفسه؟ جوليان روبرتسون فعل هذا. هل تتجرأ على أن توكل لمساعد شاب مهمة وضع الاستراتيجية الأساسية لتطوير عقارات جديدة قبل يومين فقط من موعد تقديم عرض كبير على المستثمرين؟ إن كنت أسطورة العقارات بيل ساندرز، فالجواب هو نعم.
احترت كيف يمكن للرؤساء الخارقين وضع هذا القدر من الثقة في يد مساعديهم. لكن بعد مراجعة آلاف الصفحات من المراجع المنشورة ومقابلة أكثر من 200 شخص توصلت إلى أنّ الثقة الفطرية والمتأصلة بالنفس لا شك لعبت دوراً كبيراً. بل أنني توصلت لاكتشاف أكبر: يتبنى الرؤساء الخارقون عدداً من السلوكيات والمعتقدات التي تعمّق ثقتهم بمرؤوسيهم وتزيد من إقدامهم على تفويض سلطة اتخاذ القرار.
يعيش الرؤساء الخارقون للتعلم والابتكار
هم يكرهون إبقاء الأمور على حالها. وكما قال الرئيس الخارق لورن مايكلز: "يجب تغيير العرض. أعرف أنّ المفترض هو الاستمرار بالعرض، لكن التغيير مهم أيضاً". لهذا يدفع الرؤساء الخارقون أنفسهم للابتكار المستمر، وهم يتوقعون من موظفيهم أن يكونوا مستقلين في عملهم ويتخذوا مخاطرات جريئة مبتكرة. يستذكر أحد مساعدي أسطورة الإعلان والرئيس الخارق جاي تشايت "كان الناشطون يحصلون على المكافآت، وكان أي شيء ممكناً. إن جئت إلى جاي بفكرة تجعل العمل أفضل، سيقول لك اذهب وقم بها".
لكن ماذا لو فشل المساعد في تجربته؟ لم يكن القادة الذين درستهم قلقين جداً حيال الفشل. يتذكر كايل كريج الذي عمل مع نورمان برينكر في برجر كنغ في الثمانينات كيف كان رئيسه الخارق يعترف جهراً بفشله في استثماره السابق ضمن مقهى برينك. "كان دوماً مستعداً للاعتراف بإخفاقاته وأخطائه، وهو ما جعل الناس حوله في حالة ارتياح كبير". إن تقبّلت فكرة أنك سوف تفشل بين الحين والآخر وأنّ الموظفين قد يفشلون أيضاً، سيكون التنازل عن مسؤولية اتخاذ القرار أسهل بكثير، وبالتالي النوم ليلاً.
الرؤساء الخارقون يعرفون موظفيهم جيداً
هم ليسوا رؤساء منزوين على أنفسهم مثل أولئك القادة التعيسين في مسلسل "المدير المتخفي" (Undercover Boss). فقد كان نورمان برينكر يظهر في المطاعم والمقاهي مع موظفيه، وكان المحرر الصحفي والمدير الخارق جين روبرتس يدعو طاقم العاملين للبقاء في بيته حتى الساعة الثانية صباحاً لمناقشة العمل. هكذا يؤدي الالتزام العميق لهؤلاء الرؤساء بالتدريب والتطوير إلى قضائهم قدراً كبيراً من الوقت في التفاعل مع الموظفين فيراقبونهم بينما يعملون ويعطونهم رأيهم الثمين.
تؤدي المداومة على التواصل مع الموظفين إلى وضع الرؤساء الخارقين في الوضع المثالي "ثق، ثم تأكد" كما يقول المثل السائد. فهم قادرون بفضل وجودهم على اتخاذ القرار وفرض المساءلة على الفور. وكما يستذكر أحد أعضاء الدائرة المقربة من برينكرر "ستعرف على الفور إن كنت تتماشى مع توقعات برينكر، وكانت المساءلة مفروضة مسبقاً بسبب طريقة تصرفه".
ينتج عن التزام الرؤساء الخارقين بالإشراف الشخصي على الموظفين ميزة أخرى تتعلق بالتفويض، حيث يصبح بمقدورهم أيضاً منح "موافقتهم المسبقة" على زيادة المسؤولية الممنوحة للموظفين. يعود السبب في هذا إلى معرفتهم المباشرة بهم. هم يعرفون قواهم وضعفهم، ويدركون التقدم الذي يحققونه والمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وقد قضوا وقتاً كافياً في تصميم وتخصيص خطط لتطوير كل منهم. على هذا الأساس يصبح التفويض خياراً متأنياً ومستنداً على معلومات لا مجرد تقليد مُتبع. فينقلب الشعار القديم في أيدي الرؤساء الخارقين إلى "راقب، درّب، ثق. وبعدها تأكد".
يفصل القادة الخارقون بين التفويض واتخاذ القرار بحدود واضحة
بدل ترك الموظفين يتخذون القرارات بعشوائية، يوضح هؤلاء القادة الرؤى التي لا تسامح حولها، ويتوقعون من الموظفين استيعابها والسير على أساسها. لهذا يتمتع الموظفون أثناء تنفيذ مهام العمل بسلطة استثنائية على كل شيء إلّا الرؤية. أضف لهذا أنه عموماً يبقى الرؤساء الخارقون بعيداً، فلا يتدخلون إلا للتأكد من أنّ القرارات التي يتخذها الموظفون تدعم رؤاهم ولا تعارضها.
في شركة لوكاس فيلم، وضع جورج لوكاس ثقته في فريقه ليقوموا بتحديد الشخصيات ووضع التصميمات والأصوات لأفلام "حرب النجوم" الأصلية. لم يمارس عليهم إدارة تفصيلية. لكنه كان في نفس الوقت يأتي شخصياً وبانتظام لاختبار مدى تماشي ابتكارات الموظفين مع رؤيته. مكّنه وضوحه حيال ما هو مهم (رؤيته) من التنازل بسهولة عن مهمة التوجيه. وهذا سبب آخر يكشف أهمية قيام كل المدراء بتصميم رؤية مناسبة لفرقهم أينما كان موقعهم في الهيكل التنظيمي.
إن كنت تعاني في نقل سلطة اتخاذ القرار إلى فريقك، فمجرد منحهم ثقة أكبر ليس حلاً. اتبع نهج الرؤساء الخارقين في خلق شروط مسبقة للثقة. تبنّى عقلية عامة تقوم على التجريب والتغيير المستمرين. ابق بقرب موظفيك وكن "ممارساً للتفويض بيديك". احم اتخاذ القرار بوضع رؤية واضحة وإبلاغ الآخرين بها. إن هيئّت الأرضية الصحيحة لن يعود تفويض القرارات مثيراً للأعصاب. سيصبح ما يجب أن يكون: طبيعياً، مثيراً، ومفيداً للمدير والموظفين على السواء.