ينطوي إنشاء شركة جديدة على مجموعة من التحديات، وعلى رأسها معرفة على ماذا تنفق أموالك، ومقدار ما سوف تنفقه. يجب عليك أن تأخذ في الاعتبار الرواتب، وميزانية التسويق، وحجم المكاتب، والخدمات التقنية، وما إلى ذلك من أمور متعلقة بفكرة استراتيجية الإنفاق.
ماهي استراتيجية الإنفاق؟
تتطلب تلك الخيارات المتعلقة بالإنفاق تقديم تنازلات، لذا يجب على رواد الأعمال أن يضعوا أولاً استراتيجية لتخصيص موارد محدودة على نطاق طائفة واسعة من الخيارات المتاحة. ولكن في كثير من الأحيان يمكن للافتراضات، المتعلقة بالسوق المحتملة وعملائها، أن تشوش تفكيرنا، فتؤثر على قراراتنا بشأن النفقات. لنتفحص حالتين: واحدة لزميل سابق والأخرى لصديق مقرب.
صاحب الحالة الأولى يُدعى كريم. بعد إدارة صندوق تحوط ناجح في لندن لخمسة أعوام، وجني مدخرات وفيرة، أصبح كريم مستعداً لإنشاء متجره الخاص. وبناءً على خبراته السابقة، كان كريم يؤمن أن جذب العملاء الأثرياء يتطلب حيزاً مكتبياً راقياً، لذلك استأجر مكتباً في المبني المكتبي بمنطقة "ويست إند" بسعر قد يصيب كل مَن يعرفه بالذعر.
كان كريم متأكداً أن إيراداته ستفوق التكاليف في غضون عام، إلا أن العملاء الأثرياء المنتظَرين لم يظهروا قط. في الواقع بدأ كريم في ملاحظة أن العملاء المرتقبين قد يُبدوا رد فعل سلبي إزاء مظاهر التبذير في مكتبه وأثاثه. لذا لم تكن المصروفات الحالية أضعف للغاية من أن تدعم تكاليفه الثابتة فحسب، ولكن أيضاً رفض العملاء المستقبليون التعامل معه بسبب بهرجته المفرطة بشكل واضح.
لمعالجة تجاوزات التكاليف، أجّر كريم بعضاً من مساحة مكتبه، وألغى إحدى الخدمات التجارية الزائدة عن الحاجة والباهظة للغاية، وسرّح موظفاً واحداً. وبعد عامين بدأت أحواله في التغير إلى الأفضل، فالأداء القوي ساعد على جلب الأعمال، وحقق كريم أرباحاً في نهاية المطاف. وبتذكر الماضي، رأى كريم أن إسرافه كاد أن يودي بحياة الشركة.
ولنلقي نظرة على مثال آخر: حصلت سماح على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة "بيركلي" (Berkeley)، ولكن قررت أن تسعى خلف اهتمامها منذ أمد طويل بالمطبخ، وذلك عبر تحويل محل شاغر في منطقة أوكلاند، التي تسكن بها، إلى مطعم. في حين أن عملها نادلة في الكلية كان الخبرة الوحيدة التي تمتلكها سماح في مجال المطاعم، إلا أنها كانت متحمسة بما يكفي وتملك قدراً كافياً من المدخرات لتبدأ مشروعها.
ولكن سرعان ما اكتشفت أن التكاليف أكبر بكثير مما تتوقع. لذلك عيّنت مستشاراً ومقاولاً، وقد وجدا عقبات هيكلية ستتطلب معالجتها مبالغ باهظة. واستبدلت بمقاول البناء القديم مقاولاً جديداً، ولكنه أصر على عمل مزيد من التجديدات. واشترت فرناً من القرميد يُشعَل بالغاز، وهو ما كانت تحلم بشرائه، رغم أنه أغلى بكثير من ميزانيتها.
بمرور الوقت افتتحت سماح مطعمها، الذي تجاوز الميزانية المخصصة له بنسبة 100%، وأطلقت عليه اسم "كاندل بار". وقد أنفقت جميع أموالها، ولجأت إلى الاقتراض من العديد من أصدقائها. ولكنها كانت تقنع نفسها، في كل خطوة تخطوها، أن الإنفاق على حلمها أمر مجد، وأنه سيؤتي ثماره في النهاية. ولكن للأسف فشلت في تغطية التكاليف خلال العام الأول، وخسرت كبير الطهاة بسبب خلاف حول قائمة الطعام والموظفين.
اجتمعت سماح مع مستثمرين وشركاء تجاريين محتملين، في الغالب طهاة أو مالكين لحانات صغيرة أو مقاهٍ، آملة أن تجد شريكاً يمتلك كل من المال والخبرة. ولكن قدّر أصحاب المطاعم ذوي الخبرة هؤلاء "كاندل بار" بأقل بكثير مما استثمرت سماح فيه. وعندما أعربت عن دهشتها، أخبروها أن مطعمها جميل وعملي للغاية، ولكن السعر يفوق بكثير ما يمكنهم دفعه، وهي طريقة لقول "لقد تجاوزتِ حد الإنفاق على الموقع وأعمال البناء". وفي النهاية لم يكن لدى سماح أي خيار سوى بيع المطعم، متكبدة خسارة كبيرة، ولكنها تعلمت درساً لن تنساه طول العمر.
عواقب الإفراط في الإنفاق
توضح الحالتان عواقب الإفراط في الإنفاق. ولكن بالطبع ليس من السهل على الدوام أن تعرف متى ترفض أن تتجاوز الحدود، لأن نقص الإنفاق قد يؤذي أيضاً شركتك الجديدة. فالمكتب المتواضع دون عدد كاف من الموظفين قد يعطي انطباعاً بأنك لا تمتلك ما يكفي من الأعمال، أو بأنك بخيل. وكل بند من بنود التكلفة يأتي بعوائد متوقعة، فعلى سبيل المثال، زيادة عدد الموظفين يعني زيادة في كشوف الرواتب، ولكن أيضاً تسلسلاً أكثر وضوحاً في المسؤوليات، مع خفض فرص إصابة الموظفين بالإنهاك الشديد.
كان يجب على كل من كريم وسماح أن يتوقعا بدقة وحذر الإطار الزمني لتحقيق الإيرادات المتوقعة وإدارة تكاليفهما وفقاً لذلك، وهو ما كان من شأنه أن يساعد في تجنب وقوع ضائقة مالية، ولكنهما كانا ساذجين باعتقادهما أن تنفيذ عملية عالية النفقات ومتقنَة، سيعزز أعمالهما تلقائياً. ولكن في الواقع لم تؤثر هذه العملية على شيء سوى مستوى تعادل الدخل والنفقات، وهو ما يمكن أن يدمر فرصة أي مؤسسة جديدة في النجاة.
فلنتناول مثالاً أخيراً، ولكن هذه المرة لاثنين من شركائي، بدآ عملهما بوضع استراتيجية إنفاق عقلانية. قرر جمال وإيناس ترك عملهما في شركة محاسبة رفيعة المستوى، وإنشاء شركتهما الخاصة. كانا واقعيين بشأن نفقاتهما، وأعدا الميزانية بحرص. فقد استأجرا مكاناً في الطابق الثالث في حي في بوسطن، وعيّنا شخصين، وهو الحد الأدنى لعدد الأشخاص الذين يحتاجون إليهم، لتولي أمر العشرين حساباً تقريباً التي كانا يملكانهما وقت إطلاق الشركة. وفي حين أن إيناس أرادت من البداية تعيين شريك أساسي في شركة محاماة كبرى، واستئجار مكتب في برج مكاتب مشهور، إلا أن جمال اعترض على هذه الخطوات، لأنه رأى أنها باهظة التكلفة بالنسبة إلى فترة بدء إطلاق الشركة. ربما أضاعت التنازلات الممكنة فرصة أو فرصتين قد يتحققا بفضل انضمام محامٍ يمتلك علاقات جيدة، أو استئجار مكتب ذي منظر رائع للغاية، ولكنهما اتفقا على أن هذه الاحتمالات مستبعدة في الوقت الحالي.
انضم إلى جمال وإيناس العديد من العملاء، وفي غضون عام استطاعا تحمُّل تكاليف زيادة عدد الموظفين. كما تلقيا ردود فعل إيجابية من العملاء المرتقبين حول الحيز المكتبي، ومن ثمّ تأكدا أنه لم يكن مبهرجاً ولا دون المستوى المتوقع. وكانا سعداء لأنهما تمكنا من تقدير حجم استثمارهما في شركتهما الجديدة بشكل صحيح.
أسئلة هامة متعلقة بدراسة عادات الإنفاق
إذاً، كيف تعرف ما هي التنازلات التي عليك تقديمها عندما يتعلق الأمر بتخصيص موارد لإنشاء شركة جديدة؟ بالكاد يكون هذا الأمر واضحاً. ولكن هناك بعض الأسئلة التي يمكن أن تطرحها على نفسك لمساعدتك في التغلب على عاداتك في الإنفاق ودراسة افتراضاتك:
1. ما تأثير نفقاتك على عملائك المحتملين؟
إذا كان هدفك يتمثل في جذب الإيرادات وليس طردها، تخيل نفسك وأنت تتمشى في مكتبك أو تعاين موقعك الإلكتروني أو تستخدم التطبيق الخاص بشركتك لمعرفة أي الانطباعات ستأخذها عن الشركة ولكن بصفتك عميلاً، وأيضاً لمعرفة شعورك حيال جودة الخدمة التي تقدمها الشركة.
2. كيف سيتفاعل موظفوك مع أنماطك في الإنفاق؟
إذا كانت شركتك الناشئة تنفق الكثير على تصميم المكتب أو سفر المسؤولين التنفيذيين في الدرجة الأولى، خذ في اعتبارك الانطباع الذي سيأخذه موظفوك حيال هذه النفقات. وإذا كانت اللوحات المعلقة على جدران المكتب تبلغ قيمتها أكثر من رواتبهم السنوية، فقد يعتبروا أنهم أقل أولوية. وفكّر أيضاً فيما إذا كنت توفر لهم ما يحتاجون إليه من تقنيات ومزايا وبيئة مريحة للعمل.
3. هل يتفهم زملاؤك في العمل أن القصد من نفقاتك هو أن تعود بالنفع على الجميع؟
في المراحل الأولى من عمل الشركة تذكر أن تتواصل مع زملائك في العمل بشأن التكاليف الاستراتيجية الرئيسة اللازمة لازدهار الشركة، وكيف ستبرر عوائدها النفقات.
4. ما الكفاءة الأساسية لشركتك؟ وكيف يمكنك أن تركز نفقاتك على تلك الكفاءة؟
بالنسبة إلى كريم، يُعد وجود محلل بحوث خبير في غرفة المؤتمرات أكثر أهمية لشركته من امتلاك مكبرات صوت من شركة "بوز" (Bose). وسماح كانت حكيمة باختيارها شراء الفرن عندما كان عليها الاختيار بين شراء فرن أفضل أم أغطية أفضل للطاولات. وبالنسبة لجمال وإيناس، فقد اعتبرا أن الأموال التي تُنفَق لشراء برمجيات محاسبة متطورة هي أموال أُحسِن إنفاقها مقارنة بتلك التي تُنفَق لشراء مكتب ذي منظر أفضل ومطل على النهر.
5. ما الذي يمكن أن تتحمل خسارته؟
وأخيراً، عندما لا يمكنك تحقيق التعادل بين الدخل والنفقات، نقّب في تكاليفك بدقة باحثاً عما هو غير ضروري، وما يمكنك أن تعيش دونه إلى أن ترتفع الإيرادات. وافعل ذلك بينما لا يزال الوقت مناسباً لتحديد استراتيجية الإنفاق الملائمة.
اقرأ أيضاً: