مع تزايد مواجهة الشركات للمزيد من التزعزع الذي تسببه العولمة والتقنية الجديدة والشركات الناشئة التي تملك رأسمال أكبر من الشركات الرائدة، يستمر صراخ مستثمري "وول ستريت": "لماذا لا تستطيع الشركات أن تكون مبتكرة كالشركات الناشئة؟" وإليكم السبب: الشركات الناشئة تستطيع فعل أي شيء، أما الشركات العادية، فيمكنها فعل ما هو قانوني فقط.
الشركات الناشئة تستطيع فعل أي شيء
من الميزات المغمورة للشركات الناشئة ميزة تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت ضعفاً، وهي أن الشركة الناشئة عند إطلاقها لا يكون لديها نموذج عمل تسير وفقه ولا سوق تدافع عنها، كما أن موظفيها ومستثمريها ليس لديهم مصدر دخل قائم يعتمدون عليه. لذلك فإنهم عندما يختارون نموذج عمل يعتمد على استهداف الشركات التقليدية، لن يقلقهم التسبب بإزعاج أي زبائن أو شركاء أو قنوات توزيع موجودة مسبقاً.
هذا الضعف يمنح الشركات الناشئة ميزة ساحقة في الابتكار يجعلها قادرة على تجريب أي فكرة وأي نموذج عمل، حتى تلك غير القانونية صراحة.
أحياناً تكون القوانين والضوابط موضوعة من أجل صحة المستهلكين وسلامتهم، لكن في كثير من الأحيان تواجه الشركات الناشئة عقبات قانونية موضوعة من قبل شركات تلجأ للحكومة والمنظمّين باعتبارهم خط الدفاع الأول ضد الوافدين الجدد إلى السوق، كما تستخدم الشركات القائمة تأثيرات الاحتكارات والاحتكارات الثنائية والعمولات التي تُدفع لقنوات التوزيع وغيره من القوانين، كي تخنق المنافسة.
وكانت هذه الأدوات المضادة للابتكار في الماضي وحدها كفيلة بإبقاء الوافدين الجدد بعيداً. لكن المستثمرين اليوم يدركون أن الشركات التي تعتمد على اللوائح التنظيمية والتقييدات الوهمية للسوق لم تعد في الواقع حصينة. فالعملاء المقيّدون مع شركات تُحصّل منهم أجوراً، سيهرعون إلى شركات ناشئة لديها نماذج أعمال وتوفر خدمات أفضل وأسعاراً أقل وغيرها من الميزات حالما يظهر هذا البديل. وهذا التحدي للشركات التقليدية والمنظمين والقانون يعود على الشركات الناشئة بعوائد مالية ضخمة وهو ما يجعل المستثمرين الذين لا تزعجهم المراهنة في استثمارات تنطوي على مخاطرة لا يكفّون عن تشجيع الشركات الناشئة على استهداف الصناعات الكبيرة والراكدة التي تبدو قابلة للتزعزع.
هنا بعض أهم الأمثلة الواضحة:
تبلغ قيمة شركة "أوبر" الحالية أكثر من 70 مليار دولار أميركي، وكانت تعرف منذ البداية أن خدمة مشاركة ركوب السيارات انتهاك للقانون في معظم الدوائر القضائية. حيث إن نقل الركاب مقابل أجر يُعتبر نشاطاً تجارياً خاضعاً للتنظيمات في معظم المدن. بالإضافة إلى ذلك، تحدّ بعض المدن من عدد مشغلي سيارات الأجرة بمطالبتهم شراء تصريحات والموافقة على مجموعة من القوانين المحلية. لكن "أوبر" تجاهلت جميع هذه المتطلبات وأعادت ابتكار نظام النقل المحلي بتقديم خدمة مريحة أكثر. والنتيجة، هناك اليوم في نيويورك 13,587 سيارة أجرة صفراء حاصلة على ترخيص، مقابل أكثر من 50 ألف سيارة لشركات "أوبر" و"ليفت".
في حين تتجاوز شركة "باي بال" قيمتها البالغة 1.5 مليار بعد إنشائها بثلاثة أعوام، إذ بدأت كنظام لتحويل الأموال بين البائعين والمشترين في موقع "إي باي". ثم احتجّت المصارف بأن "باي بال" مصرف لا تحكمه أي ضوابط، بينما تخضع المصارف بالطبع للتنظيم من قبل الحكومات الفيدرالية والولايات. ومع نمو "باي بال"، أجبرتها المصارف التقليدية على التسجيل في كل ولاية. لكن المفارقة كانت أنه حالما أصبحت "باي بال" ممتثلة لضوابط الولايات عبر التسجيل في كل منها كمؤسسة تحويل أموال وبحسب متطلبات كل ولاية، خلقت عائقاً للدخول أمام الوافدين المستقبليين.
وتتجاوز شركة "إير بي إن بي" (Airbnb)، قيمتها الحالية 31 مليار دولار، إذ تسمح للناس بتأجير منازلهم أو غرفهم أو شققهم للزائرين. وليس مفاجئاً كونها تشكل خرقاً لقوانين وتنظيمات السكن المحلية في الكثير من المدن، فالمستأجرون لا يدفعون أي ضرائب سياحية أو فندقية. كما أن كل تأجير يتم عبر الشركة هو خسارة أجرة ليلة بالنسبة للفنادق. إذ توفر "إير بي إن بي" غرفاً أكثر من أي سلسلة فنادق.
أما شركة "تيسلا"، فتبلغ قيمتها الحالية 50 مليار دولار أميركي، وهي تبيع السيارات مباشرة عبر قنوات توزيع خاصة بها. لكن البيع المباشر للسيارات من المصنِّع غير قانوني في معظم الولايات الأميركية بحسب قانون يعود للعشرينيات من القرن الماضي هدفه حماية تجار بيع السيارات. وجاءت "تيسلا" بهذا الخيار البديل للشراء منها مباشرة لأنها كانت ترى أن تجار السيارات الحاليين لم يكن لديهم الحافز لبيع سياراتها الكهربائية.
الشركات التقليدية يمكنها فعل أي شيء قانوني
في القرن العشرين، كانت الشركات تقلق بشأن زيادة حصتها السوقية وهوامشها الربحية والعائد على استثماراتها والعائد على صافي أصولها. لهذا كانت تحمي أسواقها بشراسة من الشركات الأُخرى القائمة التي تستخدم نفس نموذج العمل. ونادراً ما كان يقلقها حدوث زعزعة مصدرها شركات جديدة على اعتبار أن العائق للدخول (مالياً وقانونياً وتنظيمياً) كبير جداً.
ومن المفارقات أنه حالما أصبحت الشركات محبوسة داخل مواقعها المحصنة في السوق، أصبح من الصعب عليها المنافسة بخرق نفس تلك القوانين، أو التملص من علاقاتهم بقنوات التوزيع القائمة. ومقارنة بالشركات الناشئة، فإن الشركات التقليدية مقيدة بالقوانين الفيدرالية والمحلية وقوانين الولايات. وربما ينتج عن خرقهم القانون عقوبات كبيرة ومحاكمات قانونية لحملة الأسهم، خاصة أن السلطات القضائية والمدّعين العامين للدولة يجدون في الشركات الكبيرة أهدافاً جذابة.
لهذا السبب، فإن من أهم مسؤوليات الأقسام القانونية في الشركات الكبيرة حماية الشركة من تعريض نفسها لأي خطر تنظيمي أو قانوني. على سبيل المثال، عندما وجدت "فولكس فاغن" أن سياراتها العاملة بالديزل لن تتمكن من تخطي معايير التلوث في الولايات المتحدة، زيفت الاختبارات ببرمجة السيارات لتجاوز الفحوصات، لكن السيارات ظلت تصدر في حالة القيادة العادية ملوثات من أكسيد النتروجين أكثر بـ 40 مرة مما يسمح به القانون. وبعد اكتشاف التزييف، فُرضت غرامات على "فولكس فاغن" بقيمة 18 مليار دولار أميركي ووجهت اتهامات للكثير من التنفيذيين فيها.
ومع ذلك، من خلال محاولة البقاء ضمن الضوابط القانونية، تعتبر هذه الشركات التقليدية عالقة في الزاوية وتخلق عائقها الداخلي الخاص الذي يمنعها من الابتكار. فتلجأ إلى القضاء بدلاً من الابتكار عندما تتعرض أعمالها للتزعزع.
وبهدف منافسة مبيعات شركة "تيسلا" المباشرة إلى المستهلكين، كان على "جنرال موتورز" و"فورد" وباقي شركات صناعة السيارات إما منع "تيسلا" من البيع المباشر للمستهلكين أو هجر شبكاتها الخاصة من وكلاء السيارات وبيع سياراتهم مباشرة. فهم في موقع لا يمكن الدفاع عنه وغير مستدام، خاصة أن الزبائن يرون بائعي السيارات الفئة الأقل استحقاقاً للثقة. وللدفاع عن شبكتهم من تجار السيارات، عندها قرر مصنعو السيارات اللجوء إلى القضاء بدلاً من الابتكار.
وكان على شركات سيارات الأجرة أيضاً، البدء في نسخ نموذج عمل "أوبر" لكنها بدلاً من ذلك تحولت إلى مجموعات الضغط والتشريعات لإقناع المدن التي لم تكن لديها بعد قوانين لمشاركة سيارات النقل بأن المشاركة فكرة سيئة.
وتفعل سلاسل الفنادق المُثقلة باستثماراتها الضخمة في مبانيها الشيء نفسه.
كما يوجد لدى الشركات التي تستخدم نماذج عمل قائمة، أشخاص وإجراءات وأهداف ربحية لا تستطيع تغييرها بين ليلة وضحاها. وتميل لوضع أهداف وحوافز قصيرة المدى (أسعار أسهم، مكاسب فصلية، مكافآت آخر السنة) ولا تستوعب أن بالإمكان كسب المزيد من المال عبر منصات وقنوات توزيع جديدة. وفي جميع الأحوال، يبدو أنها دوماً تفضل التوجه إلى المقاضاة على التوجه إلى الابتكار.
ما الذي بإمكان الشركة فعله؟
لطالما تسببت التقنيات الجديدة في زعزعة الأسواق القائمة، خاصة لأولئك الذين يبيعون منتجاتهم عبر قنوات توزيع تقليدية ولديهم رأسمال ضخم من المعدات والاستثمارات الثابتة. لكن اليوم، مع تسارع التزعزع وتمويله باعتباره مشروعاً، تحتاج الشركات لاكتشاف كيف تخلق محافظ ابتكارية. ويمكنها القيام بذلك، أولاً بتحديد التوجهات التقنية في المواقع الأمامية الموجودة بالمراكز التقنية، ثانياً، الاستثمار في مسببات التزعزع بمراحلها الأولى، ثالثاً، شراء مسببات التزعزع والحفاظ على ثقافة الابتكار وعلى الأفراد المبتكرين، ورابعاً، خلق ثقافة ابتكار داخلية تزعزع نموذج عملهم قبل أن يقوم الآخرون بذلك.
هذه المقالة واحدة من سلسلة تمهد لمنتدى دراكر العالمي 2017 (2017 Global Drucker Forum) في فيينا، النمسا، تحت شعار النمو والازدهار الشامل.