أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" في عام 2008، تقريراً جاء فيه "توفي يوم الإثنين في منزله في لويفورد كاي في الباهامس هنتنغتون هارتفورد، الذي ورث ثروة من أعمال شركة "أيه آند بي" (.A. & P)، لمتاجر البقالة وفقد معظمها في سعيه وراء أحلامه في ريادة الأعمال ورعاية الفن وحبه لمتع الحياة"، فما علاقة ذلك بموضوع التردد في اتخاذ القرار؟
بعملية حسابية سريعة، وجدت أن هارتفورد لم يكن فعلاً شخصاً فقيراً، وما زال يمتلك عشرة ملايين دولار.
تناولت أيضاً صحيفة "وول ستريت جورنال"، خبر وفاته في صفحتها الأولى "توفي عن عمر 97 عاماً هنتنغتون هارتفورد، وريث سلسلة متاجر "أيه آند بي"، الذي بدد ثروته سعياً وراء أحلامه في الباهاماس".
في ثقافتنا، "كم قيمتك؟" هو سؤال يتناول بالضرورة قيمتك المالية وفائدتك، وليس شخصيتك. أن تكون "ناجحاً" يعني أن يكون لديك في النهاية أكثر مما كان لديك في البداية. ومع أننا نردد مقولة "لن تأخذ شيئاً معك" لكننا نتصرف ونصدر أحكاماً كما لو كنت ستأخذ معك شيئاً.
بالتأكيد كان هارتفورد محظوظاً لامتلاكه ما يكفي من المال ليفعل ما يحبه. لكن هل كان فاشلاً كما نفهم من عبارات "بدد ثروة" و"فقد 80 مليون دولار"؟ لماذا لا تهنئه صحيفتا "التايمز" و"وول ستريت جورنال" على إنفاق ثروته على أحلامه؟ قال يوماً هنتنغتون هارتفورد: "بالنسبة لمعظم الأميركيين، أعظم الأخطاء هي الأخطاء المالية وأنا في هذا الصدد أشبه بشخص هوريشيو آلجر، لكن بالعكس".
اقرأ أيضاً: المزالق الخفية في اتخاذ القرارات
عملت من فترة بعيدة في عمل لم يكن يعجبني. لم يكن عملاً سيئاً، فقد كان يشعرني بالأمان وكان جيداً. ومع أنني كنت ناجحاً فيه إلا أنه لم يمنحني شعوراً بالرضا. كنت أقضي وقت فراغي أمارس المحاكاة والبحث والكتابة وهي هوايتي التي كانت تأسرني. وكان بغضي لعملي يزداد كلما تعمقت في هوايتي أكثر.
في أحد الأيام، شكوت حالي إلى صديق مقرّب، فأهداني سؤالاً "لماذا إذاً لا تترك عملك وتعمل ما تحب؟" كنت أعرف أن خيار ترك عملي هو خيار واضح، وقد خطر لي فعلاً مرات عديدة. لكن كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها ذلك الجزء من السؤال "لماذا إذاً لا..".
التردد في اتخاذ القرارات
لماذا لم أترك؟ لأنني كنت عالقاً في مجموعة من الاحتياجات. عليّ الحصول على مصدر دخل دائم. يجب أن أحافظ على ذلك الاحترام الذي يأتي من عملي في شركة رائدة. يجب عليَّ، وليس أريد. صحيح أن لا خطأ في الافتراضات والمعتقدات والعادات، لكنها ليست قوانين من الطبيعة لتجعلني أرضخ لها.
عندما انتبهت لكل تلك الواجبات التي فرضتها على نفسي بدأت أتساءل عن تأثيرها على قراري. وتركت عملي في اليوم التالي. أردت أن أعيش حلمي.
كان ذلك قبل 25 سنة، مررت خلالها بأيام يسر وعسر. كنت أسأل نفسي دوماً ما إذا كنت اتخذت القرار الصحيح، وكان الجواب دوماً وفوراً وقطعاً: نعم. أعرف أنني قايضت الأمان بالرضا، وأعترف أنني أفتقده أحياناً، وقد يكون هناك طبعاً أشخاص آخرون يفضلون الأمان على الرضا. لكنني، وإلى اليوم، أرى أن المقايضة كانت ناجحة. وفي اللحظة التي لا أعود أشعر فيها أنها ليست كذلك سأتحول لفعل شيء آخر.
لا أريد أن أبدو شخصاً سطحياً من أصحاب مقولة "افعلها ولا تلتفت خلفك". فهناك عواقب ومخاطر مرتبطة بقرارك ترك الأشياء التي هي "واجبة عليك" للسعي وراء أشياء تريدها. وحتى تلك التسعين مليون دولار التي كانت في حوزة هنتيغتون هارتفولد، والتي اشترت له كماً ضخماً من الحرية والأمان، والتي لا تتوافر لدى أغلبيتنا، لم تتمكن من إجباره تلقائياً على السعي وراء أحلامه. كان عليه اتخاذ القرار بنفسه.
اقرأ أيضاً: متى نتوقف عن تأجيل إصدار القرارات
تماماً كما قد تكون قلة المال عقبة في طريق أحلامنا، كذلك قد يقف عائقاً اعتقادنا بوجود الكثير من الوقت أمامنا لاتخاذ القرار وهو الاعتقاد المعروف بـ "مانيانا mañana": سأفعلها غداً.
أجزم أن "مانيانا" مغرية في القرارات المؤلمة. فقد حدث معي مرة أن عجزت لأشهر عن اتخاذ قرار حتى أخرجني أخيراً من حيرتي أمران: الأول، كان إعادة تشكيل القرار الذي أمامي. فقد كنت أحاول الإجابة عن سؤال "ماذا أفعل لأحصل على النتيجة التي أريد" فحولت السؤال إلى "ما أسوأ وأفضل النتائج التي يمكنني توقع حدوثها؟" وقد أجبت عن ذلك السؤال فوراً. كنت أعرف أن الجواب سيكون صحيحاً حتى لو لم يعجبني.
لكن الأمر الثاني كان فعلاً ما خلصني من حيرتي، وهو نصيحة صديق مقرب عرفته لأكثر من 40 عاماً. قال لي: "لا تُضع حياتك في اتخاذ القرار".لقد كان يعي ما يقوله. كانت تلك محادثتنا الأخير، فقد توفي بعدها بثلاثة أيام من مرض اللوكيميا.
أنت تقضي حياتك في اتخاذ قرارات. في هذه الأثناء تتغير الكثير من الأمور بسبب التردد في اتخاذ القرار. قيمك تتغير وأحلامك تتغير. ما أحزنك أو أفرحك عندما كنت في الرابعة من عمرك لا علاقة به بما سيحزنك ويفرحك في سن الأربعين. وما يحزنك أو يفرحك في الأربعين لا علاقة بما بما أحزنك وأفرحك في سن العشرين. وسوف يأتي يوم تفكر فيه أنك مستعد لترك كل شيء للحصول على ما لديك اليوم.