تعددت اختبارات ومقاييس الذكاء عند البشر منذ أن قام عالم النفس الفرنسي ألفريد بينيه بوضع مقياس العمر العقلي في عام 1908، وحذا حذوه عدد من العلماء مثل ثيودور سيمون، وويليام ستيرن، وديفيد وكسلر. ومن اليسير حصر أسس اختبارات الذكاء والمفاهيم التي تقوم عليها. لكن، هل سيساعد تطبيق هذه المفاهيم على المؤسسات في رفع نسبة الذكاء المؤسسي؟ دعونا نكتشف الإجابة معاً في هذا المقال.
كيفية اختبار الذكاء المؤسسي
القدرة على التخيل
لدى الأشخاص ذوي القدرات العقلية المتقدمة ملكة التخيل. وتتمتع المؤسسات القادرة على التخيل، بميزة فريدة في اختبار مواقف جديدة لم يسبق أن شهدتها من قبل، وهذا يشكّل ميزة تنافسية للمؤسسة من عدة جوانب، فمن جهة ستكون المؤسسة قادرة على تصوير الأفكار وجعل فهمها أكثر سهولة، كأن يقوم فريق من الموظفين بتصميم فيديو تخيلي عن بيئة العمل المتوقعة بعد عشر سنوات عندما يتم أتمتة جميع الأعمال وكيف سيتأثر المتعاملون بالطرق الجديدة لتقديم الخدمات.
كذلك سيساعد التخيل المدراء على إدارة التغيير بفعالية، فتخيل الأعمال المطلوبة للتعامل مع التغييرات المستجدة، سيجنبهم الاستمرار في تطبيق روتين العمل اليومي، كما سيتفادون عدداً لا بأس به من المشاكل المصاحبة للتغيير. ذكر كارل وايك الأستاذ في كلية روس للأعمال ضمن جامعة ميتشيغان، بأنّ المؤسسة يمكن أن تتعلم بفعالية من خلال التخيل، وذلك بالتركيز على الأهداف المؤسسية التي تم إهمالها، والقيم المؤسسية التي تم تحييدها، وكذلك من خلال طرح الأسئلة التي عادة ما كان يتجنبها الجميع.
ولا يمكننا القول أنّ فوائد ممارسة التخيل داخل المؤسسة محصورة بالأعمال المستقبلية، بل تمكّن من رؤية تحديات العمل الحالية بطرق مختلفة، ففي حالة التغيب المتكرر لأحد المدراء على سبيل المثال، سيرى المسؤول المباشر لهذا المدير بأنه تقصير في الأداء، ولكن يمكن أن يرى مساعد المدير المتغيب في هذا السلوك فرصة ليثبت كفاءته وقدارته الإدارية، ويرى موظف آخر يعمل في نفس الإدارة ذلك وقت إضافي له لتنفيذ الأعمال المطلوبة منه. ومن المفيد عند ممارسة التخيل المؤسسي أن يتم النظر من زوايا مختلفة وتقمص أدوار جميع الأطراف المعنية، فقد أطلق الاقتصادي ورجل الأعمال غاريث مورغان على هذا السلوك مصطلح (Imaginization) في كتابه "التخيل المؤسسي، عقلية جديدة لممارسة الإدارة وفهم المؤسسات" (Imagin.i.Zation New Mindsets Seeing Organizing and Managing).
ونستطيع أن نتلمس بعض تطبيقات التخيل المؤسسي في عدة ممارسات إدارية شائعة، كالتخطيط بالسيناريو الذي تنتهجه بعض المؤسسات أثناء وضع خططها الاستراتيجية، وعجلة المستقبل التي يتم استخدامها في مجال الدراسات المستقبلية الاجتماعية، والسياسية، وتحليل الأعمال.
قوة ونوعية الذاكرة
يتطلب الحصول على معدل مرتفع في اختبار الذكاء، أن يتمتع الشخص بذاكرة قوية وقدرة على استرجاع المعلومات عند الحاجة. نُفذت العديد من الأبحاث حول الذاكرة المؤسسية وأهميتها، وقام بعض الباحثين باعتبارها فرع من فروع إدارة المعرفة. بكل الأحوال، على المؤسسة أن تحتفظ بالبيانات الخام المتوفرة، وكذلك المعلومات التي يتم استخلاصها من تلك البيانات، والمعارف التي تنشأ من تحليل تلك المعلومات، عندها يمكن القول أنّ جزءاً من الذاكرة المؤسسية تم بنائه. وعادة ما تقسّم المؤسسة ذاكرتها إلى أربعة أقسام هي:
- ذاكرة المشاريع: وتتضمن توثيق للمشاريع التي تم تنفيذها في المؤسسة والدروس المستفادة منها.
- الذاكرة المهنية: وتحتوي على أدلة العمل والمنهجيات التي تستخدمها المؤسسة لأداء مهامها الحيوية.
- الذاكرة العامة: وتشمل الهياكل التنظيمية والمنتجات والخدمات.
- الذاكرة الفردية: وهي المهارات والقدرات والمعارف الضمنية المتوفرة لدى الموظفين.
لتكمل المؤسسة بناء ذاكرتها المؤسسية بشكل سليم، لابد من أن تكون قادرة على استرجاع المعلومات المطلوبة بسهولة، وفي الوقت المناسب. ولابد للمؤسسات الذكية أن تجد طريقة سريعة وفعالة لاسترجاع تلك المعلومات عند الحاجة وهذا عادة ما يكون عن طريق الأتمتة.
وتلجأ بعض المؤسسات بالإضافة إلى بناء الذاكرة المؤسسية كما تم تبيانه أعلاه، إلى محاولة توثيق الثقافة المؤسسية السائدة والتي تتضمن الأعراف والقناعات وسلوك الموظفين أثناء أداء العمل، وهذا ليس بالأمر اليسير ويحتاج إلى كثير من الجهد والوعي المستمرين.
لا ينبغي المرور على الذاكرة المؤسسية دون التنبيه من إمكانية إساءة استخدامها، إذ تُعتبر المعلومات هي الثروة الحقيقية لمؤسسات اليوم، ومن يمتلك المعلومة يتملك السلطة، ويدفع هذا بعض وحدات العمل أو القائمين عليها داخل المؤسسة إلى التحكم بمصادر الذاكرة المؤسسية، الأمر الذي يضخّم من صلاحياتهم ونفوذهم داخل المؤسسة، وبنفس الوقت يضعف القدرة على استخدامها بفعالية.
التفكير المنطقي واستخدام الأرقام
يتصف الأشخاص الأذكياء بالتفكير المنطقي، والقدرة على الانتقال بسهولة وسلاسة من حالة فكرية سابقة إلى حالة فكرية لاحقة توصف بالنتيجة. وتطبق المؤسسة الذكية مهارات التفكير المنطقي في الأعمال التي تقوم بها، وذلك يتضمن المراقبة والحصول على معلومات عن الموضوع محل التفكير، وربما يتم استدعاء هذه المعلومات من الذاكرة المؤسسية أو يتم الحصول عليها من مصادر أُخرى كالاستبانات والبحوث.
لا يمكن إدارة مؤسسة دون استخدام الأرقام، وفي المؤسسات الذكية، تصبح الأرقام أكثر أهمية وتأخذ أشكال مختلفة فقد تكون على شكل مؤشرات أداء، أو إحصائيات، أو تقارير وتحليلات. ولكن المؤسسة الذكية تستخدم الأرقام بعقلانية. يقول سكوت هيرك في كتابه "لقد حصلت على الوظيفة التي أحلم بها- ماذا الآن؟" بأنه يجب الحذر من الاعتماد على الأرقام كثيراً في الإدارة، حيث تحول الإدارة بالأرقام فقط تركيز الموظفين إلى تحقيق الرقم المطلوب دون الاكتراث للطريقة التي تم تحقيقه بها، ودون فهم الأسباب والدوافع التي أدت إلى تحقيق تلك الأرقام. ما يؤدي إلى انخفاض مستوى ذكاء المؤسسة.
يتحدث سالم أحد المدراء التشغيلين في مصنع للمواد البتروكيماوية عن تجربته في الاعتماد على الأرقام فقط لإدارة الأداء، فقد وضع مؤشر أداء للفترة الزمنية المستغرقة لاستلام المواد الأولية المستوردة وتوزيعها في مخازن المصنع. كانت نتائج مؤشر الأداء هذا دائماً متميزة وتحقق مستهدفاتها، ولكن شكاوى الموردين كانت إلى ازدياد من التأخير في استلام المواد المطلوبة. وبعد البحث، يقول سالم أنّ الموظفين المعنيين بالاستلام كانوا يتركون المواد في الشاحنات منتظرة إلى أن يقوموا بتجهيز معاملات الاستلام، وذلك لأن المؤشر يبدأ بقياس الوقت من لحظة الاستلام وليس قبل ذلك، وهذا ما أدى إلى تحسين قراءات المؤشر وفي نفس الوقت خفض مستوى الخدمة.
القدرة على التجميع والفهم
لا تكفي القدرة على التخيل، والتفكير المنطقي، والذاكرة السليمة للحكم على مستوى الذكاء، ولكن أيضاً لابد من امتلاك مهارة إدراك المعلومات وتجميعها مع بعضها البعض للحصول على الصورة الكلية. مازالت العديد من المؤسسات تفضل رؤية الأجزاء كل على حدة، وبالتالي تأتي قرارتها غير فعّالة. على سبيل المثال، تقوم بعض المؤسسات بالاعتماد على نتائج قياس رضا الموظفين لاتخاذ إجراءات تطويرية تساهم في رفع نسبة رضاهم عن المحاور ذات نسب الرضا المنخفضة، ولكنها بذلك تكون قد استعجلت الوصول إلى استنتاج ربما يكون غير موفق، فبالنظر إلى نسبة الموظفين المشاركين في الاستبيان، نجد أنها نسبة منخفضة غير ممثلة، أو يكون المشاركون في غالبيتهم ضمن شريحة واحدة من الموظفين. ولو أرادت المؤسسة تجميع الصورة وفهمها، عليها المقارنة مع مؤسسات أُخرى لترى هل هذه النتائج فعلاً منخفضة أم لا، أو أن تتنبه إلى وقت تنفيذ الاستبيان، وإذا ما كان له تأثير على رضا الموظفين من عدمه.
هناك بعض النصائح التي يمكن توجيهها للمؤسسات الراغبة برؤية الصورة الكلية للذكاء المؤسسي، ويمكن إيجازها كما يلي:
- تجنب البحث عن رؤية واضحة تماماً للوضع الحالي، إذ يساعد إبقاء مساحة لعدم اليقين المؤسسة على التنقل بين الخيارات المتاحة عندما تدعو الحاجة.
- الحرص على استخراج الدروس المستفادة من الأعمال التي تقوم المؤسسة بإنجازها، هذا أمر مهم، حيث أنّ أي مبادرة أو مشروع يتضمنان حكماً خبرات جديدة تساعد المؤسسة في تسلق سلم الذكاء.
- الحرص على اقتراح عدة طرق للتعامل مع التحديات التي تواجه المؤسسة، من شأن ذلك تنمية القدرة على استكشاف آفاق جديدة، والنظر إلى التحدي من عدة زوايا.
وأخيراً، يمكن للمؤسسات إذا ما بذلت الجهد والمثابرة المطلوبين، أن تزداد ذكاء مع مرور الوقت. فليس هناك مؤسسات وجدت ذكية، ولكن هناك مؤسسات تم إنشائها وتوفير ممكنات الذكاء المؤسسي لها، والتزم القائمون عليها بالسير على طريق النجاح.