يكشف الحجم الكبير لمزاعم التحرش الجنسي ضد الشخصيات العامة عن مدى رسوخ إساءة استغلال السلطة. لقد أجبرنا هذا على الاعتراف بأننا بحاجة إلى معرفة كيف يمكن للشركات وقف التحرش وأن العديد من الرجال في الأدوار القيادية يقومون بتهميش وتخويف الزملاء (الذين هم عادة، ولكن ليس دائماً من النساء) الأدنى رتبة لفظياً وجسدياً. يحدث التحرش الجنسي في كل مكان: في القطاعات الأعلى مردوداً كما في الوظائف ذات الأجور الدنيا، وفي المجالات الجذابة المبهرة كما في مجالات العمل الاعتيادية.
كيف يمكن للشركات وقف التحرش
بالطبع ليس هذا بالأمر المستجد. إذ جرى منذ فترة طويلة توثيق الطرق الخبيثة التي يلجأ إليها المتحرشون والتي تلحق الأذى ليس بأهداف التحرش فحسب، بل بالأماكن التي يعملون فيها كذلك. لقد خلصت عدة دراسات إلى أن التعرض للتحرش يدفع النساء إلى ترك وظائفهن، حاملات معهن أفكارهن وعلاقاتهن وإمكاناتهن فيما خلفن الحاجة المكلفة لتوظيف وتدريب موظفين جدد لملء الأدوار التي أخليَت. ناهيك عن أنهن بخروجهن يخسرن ما أنجزنه على مسار كان يمكن أن يقودهن إلى تولي دور قيادي. ومع وجود عدد قليل من النساء في مناصب إدارية عليا، يقل احتمال الاعتراف والتصدي للتحيز والتمييز، بما في ذلك التحرش. هناك أيضاً دليل على أن التحرش يمكن أن يؤذي تماسك وأداء فرق العمل، مع ما يترتب على ذلك من عواقب مالية سلبية على الإنتاجية ودوران الموظفين. ومن ثم فالشركات معرضة لخسارة رأس المال، سواء البشري وغير البشري، إذا لم تعمل على القضاء على الاستقواء الجنسي. فالتحرش الجنسي ليس مشكلة محصورة بالمرأة ولكنها تهديد لصحة الشركات نفسها. وغالباً ما يكون لدى الرجال القدرة على تحديد ما إذا كانت الشركة أو المؤسسة ستمنع ذلك وتعالجه أم ستسمح له بالانتشار.
اقرأ أيضاً: امنحوا الصلاحيات للمدراء لكي يوقفوا التحرش
ما الذي يحدث بالفعل
للقضاء على التحرش الجنسي، يجب أن نفهم أولاً أنه وسيلة لفرض وتنظيم الوضع الاجتماعي، وليس نتاج رغبة جنسية منفلتة. لقد وجد العلماء في مختبرات علم النفس وكذلك في مجموعات البيانات الكبيرة أن الرجال يمارسون الجنس مع زميلات في العمل كوسيلة لوقفهن "عند حدهن" خصوصاً عندما يشعرون أن النساء يتفوقن عليهم في مجالات تعد تقليدياً حكراً على الذكور. ووجد الباحثون أن النساء اللائي من المرجح خصوصاً أن يتعرضن للتحرش هن أولئك اللواتي ينحرفن عن المعايير التقليدية لدورهن الاجتماعي من خلال العمل في قطاعات يهيمن عليها الذكور، أو إظهار خصائص تعد تقليدياً جزءاً من الشخصية الذكورية، أو يتولين ببساطة أدواراً إشرافية.
لماذا تسمح بعض المؤسسات أو الشركات بانتشار التحرش الجنسي؟ يمكن العثور على أحد الأسباب فيما أطلق عليه الباحثون تسمية "مسابقات الذكورة" وهي مجموعات من المعايير التي تروج لعقلية عدم إظهار الضعف وتحدد النجاح على أنه استعراض للقوة والسيطرة. إذا عمل فريق أو قسم أو شركة بهذه العقلية، فقد يكون سلوك التحرش وسيلة فعالة يلجأ إليها الموظفون من أجل تقوية نفوذهم عبر تهميش الآخرين والسيطرة عليهم. في مثل هذه السياقات، قد يكون التحرش الجنسي، في الواقع، أحد الأساليب الكثيرة المستخدمة لتوكيد السلطة والحفاظ عليها. وكما كشفت بعض مزاعم التحرش الأخيرة، يمكن أن تكون اللغة أو الاتصال الجنسي جزءاً من نمط أكبر من التنمر والتخويف. ولن تكفي أفضل تدريبات التوعية في إحداث أثر حقيقي في مكان العمل حيث تُكافأ العروض المبالغ فيها لسلوكيات الذكورة النمطية.
اقرأ أيضاً: إقناع الرؤساء التنفيذيين بجعل منع التحرّش أولوية
والأهم من ذلك، أن وجود خلل في العلاقات بين الموظفين لا يخلق أجواء مناسبة لتحقيق مستوى عال من الأداء. إذ بينت الأبحاث في الواقع أن الأشخاص الذين يعملون في أماكن تسود فيها معايير مسابقات الذكورة سابقة الذكر، يبلغون عن معدلات عالية من الإنهاك وهي وصفة قلما تفيد في تحقيق نتائج للشركة. والأشخاص الذين يؤمنون بالعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع ويعملون بذهنية الفوز مهما كلف الأمر، هم في الحقيقة كموجهين أسوأ من أقرانهم الذين ينتهجون نهجاً أكثر توازناً إزاء عملهم. ومجدداً، من الصعب أن نرى كيف يبشر "الحمقى اللامعون" بالحفاظ على صحة مؤسساتهم التنظيمية على المدى الطويل.
دور القائد
إن عواقب السماح بمثل هذا السلوك خطيرة، لذلك سيكون من الحكمة أن يفعل القادة أكثر من مراجعة وتحديث سياسات التحرش والدورات التدريبية (على الرغم من أن عليهم أن يفعلوا ذلك أيضاً). ولاتخاذ تدابير وقائية حقاً، يجب على القادة التفكير فيما إذا كانت ثقافة شركتهم تردع المتحرشين أو تمكنهم من ذلك.
لقد بينت الأبحاث أن التقليل من أو تبرير التنمر الجنسي من طرف الموظفين اللامعين يؤذي المستهدفين من تحرشهم أكثر من التحرش نفسه ويوجه رسالة واضحة حول الأولويات. عندما لا يؤخذ التحرش الجنسي على محمل الجد من قِبل المدراء وغيرهم ممن يتولون مناصب إدارية عليا مع اتخاذ موقف لتأديب الجاني، يعرف الموظفون أن التحدث عن الأمر من المرجح أن ينطوي على مخاطر أكبر من أن يعود عليهم بالفائدة. ومن ثم فالنتيجة هي مكان للعمل يعرف فيه الناس أنهم يمكن أن يفلتوا من العقاب جراء إساءة معاملة زملائهم. هذا لا يحبط الضحايا فحسب، بل كذلك الشهود والمتفرجون (بمن فيهم الرجال)، وفقاً لبعض الدراسات.
يجب أن يوضح القادة أن الشركة لا توفر أي غطاء للتحرش من خلال اعتماد وتطبيق هياكل إبلاغ واضحة وذات مصداقية، وضمان شمولية التحقيقات في ادعاءات المضايقات وأن تكون العقوبة مناسبة للجريمة المرتكبة، بدلاً من أن تكون مناسبة لمنصب الجاني.
اقرأ أيضاً: ما أسباب عدم فاعلية الكثير من سياسات التحرش في المؤسسات؟
وفي نهاية الإجابة عن سؤال: كيف يمكن للشركات وقف التحرش بشكل فعال، إن التحرش الجنسي ليس قضية نسائية بل قضية قيادة. فالنساء لا يحتجن إلى "الحماية" من سوء تصرف الرجال في أماكن عملهن. وإنما يحتجن أن يعزز مدراؤهم ثقافات تعامل التنمر الجنسي باعتباره تهديداً للمؤسسة أو الشركة بحد ذاتها.
اقرأ أيضاً: كيف جعل القضاة والموارد البشرية انتصار ضحايا التحرش الجنسي في المحاكم صعباً؟