كيف يمكننا بناء مؤسسة مفكّرة؟

4 دقائق
كيفية بناء مؤسسة مفكرة

من المعلوم أن المؤسسة التي لا تفكر لا تتطور، وإن تطورت يكون تطورها مؤقتاً وعشوائياً. تتطلع المؤسسات باستمرار إلى الأفكار التي تساعدها على التحسن، أو الأفكار التي تمكّنها من مجابهة التحديات الناشئة، ولكن غالباً ما ينقص هذا التطلع الاستدامة، لذلك نرى أن توليد الأفكار هو عملية متقطعة محدودة مرتبطة بعدد من الموظفين، أو أنها كذلك نتيجة أنشطة روتينية غير استباقية.

إذا أردنا بناء المؤسسة المفكرة، ينبغي الانتباه إلى عدد من الممارسات التي تجعل التفكير سمة أصيلة في المؤسسة، وتجعل التفكير ممارسة مألوفة تحقق مردوداً مباشراً وتسمح لها بالنمو.

كيفية بناء مؤسسة مفكرة

على المدراء أن يفكروا لا أن يسيّروا العمل فقط

في المؤسسة المفكرة، يستغل المدراء جزءاً من وقتهم في التفكير، حيث إنه من السهل جداً على المدير أن ينشغل طوال اليوم في المراقبة والتوجيه والتأكد من أن العمل يسير على ما يرام، لكن ليس هذا هو المطلوب، يجب على المدير أن يعتبر التفكير جزءاً أساسياً من مهام عمله، وأن يمارسه بجدية وانتظام. يتذرع العديد من المدراء بعدم توفر الوقت الكافي للتفكير، وأن مهام العمل تجعلهم مشغولين طوال اليوم، في هذه الحالة، يشخّص الأستاذ دنكان سيمستر، أستاذ علوم الإدارة في كلية سلون للإدارة "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (إم آي تي) حالتهم بأنهم لا يفوضون مهامهم على النحو الأمثل، إذ إنه من شأن تفويض المدراء العمل إلى مرؤوسيهم، إتاحة متسع من الوقت لهم للتفكير، ويمكّنهم ذلك أيضاً من تكوين رؤية أكبر وأشمل لمؤسساتهم، والبحث عن خيارات استراتيجية بطريقة أكثر واقعية.

تتنوع الطرق التي يتحايل بها المدراء التنفيذيين على المشاغل اليومية، ومن تلك الطرق ما يفعله بيل غيتس، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي السابق لشركة "مايكروسوفت" العملاقة، حيث يخصص أسبوعاً كاملاً يسميه "أسبوع التفكير" يعزل خلاله نفسه عن شؤون العمل ويبتعد عن وسائل الاتصال وغير ذلك من المشتتات ليقرأ الكتب والتقارير، ويتعرف على آخر التوجهات في عالم التكنولوجيا، كذلك التفكير العميق في مستقبل شركة "مايكروسوفت" والخيارات الاستراتيجية المتاحة، ويفعل غيتس ذلك مرتين سنوياً، وقد أكد أن هذه الممارسة تمنحه دفعاً إلى الأمام وقدرة على استيعاب المنافسة العالمية ومواكبتها.

الحكمة الجمعية في اتخاذ القرارات

لا تعتبر الهيكلية الإدارية هي الطريقة المناسبة لاتخاذ القرارات في المؤسسات المفكرة، بل لا بد من مزاوجتها مع ما ينتج عن تفاعل أكبر شريحة من الموظفين أو الجمهور، ويطلق على الآلية التي يتم فيها استخلاص الأفكار بعد مشاركة أعداد كبيرة من الناس (الحكمة الجمعية). واستخدمت هذه الطريقة مؤسسات عالمية بنجاح مثل شركة "آي بي إم" (IBM) العملاقة، التي توظف الآلاف في مختلف دول العالم، عندما أرادات الشركة إعادة النظر في قيمها المؤسسية، دعت موظفيها إلى مناقشة القيم الحالية واقتراح ما يرونه من قيم جديدة من خلال منصة إلكترونية وذلك لمدة ثلاثة أيام، وكانت النتيجة مذهلة: مساهمات وحوارات تمت ما بين أكثر من 10 آلاف موظف نتج عنها توافق على القيم المؤسسية الجديدة. بعد هذ النجاح، استخدمت "آي بي إم" هذه التقنية مرة أُخرى ولكن مع الجمهور، إذ أتاحت مجموعة من التقنيات الحديثة والتي لا تزال قيد التجريب على منصاتها الإلكترونية للعامة من أجل تجربتها وإبداء ملاحظاتهم عليها وإضافة أفكار جديدة مبتكرة، وأسمت هذه المبادرة (مجمّع الأفكار) واستطاعت الحصول على أكثر من 150 ألف مشاركة من 67 شركة ومؤسسة تابعة لأكثر من 104 دولة.

وفي سياق متصل، حاولت بعض الحكومات العربية تجميع أكبر كمٍ ممكن من الأفكار لمساعدة مؤسساتها على التطور والتحديث المستمر، مثل حكومة دبي عندما أطلقت مجلس محمد بن راشد الذكي، وهو منصة لتبادل الأفكار وإيجاد الحلول، حيث يمكن للجميع المشاركة في تعزيز ريادة مدينة دبي.

نظرة جديدة للأفكار داخل المؤسسة

تعتمد برامج استقطاب الأفكار التقليدية ضمن المؤسسات على دعوة الموظفين لعرض أفكارهم المبتكرة، ومن ثم تقييمها اعتماداً على معايير متفق عليها، وبعدها يتم تنفيذ الأفكار المتميزة وتكريم أصحابها. تفتقر هذه الطريقة إلى منح الأفكار الفرصة لتثبت نفسها، والبرهنة على جدارتها بالتطبيق العملي، وذلك لأن مصير الفكرة يكون في يد المدير المباشر أو لجنة التقييم بناءً على ما يرونه أو ما يعتقدونه عن هذه الفكرة. وللتعامل مع هذه المعضلة، يقترح غاري هامل، أستاذ الإدارة في كلية "لندن للأعمال"، تخصيص ميزانية محددة لكل موظف يمكنه إنفاقها سنوياً على دراسة واختبار فكرة أو أكثر يرى أنها مهمة، كذلك يمكن للموظف التشارك مع زملاء آخرين في اختبار أفكار مشتركة، أو طرح فكرته داخل المؤسسة ويقوم الموظفون الراغبون بتمويلها من الرصيد الخاص به، وبالتالي تقف المؤسسة على الأفكار بعد اختبارها فعلياً والنظر إلى نتائجها، وبذلك يستطيع الموظف في كثير من الأحيان تخطي المرحلة الصعبة لبدء اختبار فكرته بطريقة عملية وتوفير التكلفة المترتبة على ذلك.

يمكن وصف ذلك بالاستثمار الداخلي الذي تلجأ إليه المؤسسات لتشجيع الموظفين على تطبيق ما يفكرون فيه وضمان تدفق الأفكار داخل المؤسسة، كذلك إيجاد حالة إيجابية من التشاركية بين الموظفين.

اكتشاف التركيبة المناسبة بين التفكيرين طويل وقصير الأمد

من الشائع أن تضع المؤسسة خططاً استراتيجية ممتدة على سنوات، وكذلك وضع خطط تشغيلية ذات آجال أقصر، ولكن يجب الحذر هنا من التعميم أو أن تقنع المؤسسات نفسها بأن ممارسة واحدة هي الأنسب، وبالتالي يجب تطبيقها في جميع الأوقات، حيث تختلف حاجة المؤسسات إلى التفكير طويل وقصير الأمد باختلاف طبيعة نشاطها وحجمها وخصائص السوق الذي تعمل به، وكذلك طبيعة المنافسة، ونوعية المنتجات وغير ذلك من المتغيرات. إن ما يناسب مؤسسة ما لا يناسب بالضرورة مؤسسة أخرى وإن كانتا متشابهتين في عدة خصائص، ففي القطاعات كثيرة التقلب التي تشهد تغيرات متسارعة وجذرية، يفقد التفكير طويل المدى جزءاً من أهميته، ولا يعتبر حاجة ملحة للمؤسسة كما هو الحال بالنسبة للتفكير على المديين المتوسط والقصير. تحتاج المؤسسة إلى إرادة واعية، وثقة كبيرة بالنفس لاتخاذ القرار بتعديل دورة التخطيط فيها بما يناسب احتياجاتها دون الوقوع تحت تأثير ما تفعله المؤسسات الأًخرى، أو ما جرت العادة على تسويقه على أنه حلول جاهزة.

أخيراً، يمكننا القول إن بناء المؤسسة المفكرة لا يمكن أن يتأتى بإنشاء نظام لتلقي الأفكار، أو تكريم الموظفين أصحاب الأفكار المتميزة فقط. إنما يجب اعتماد التفكير الموجّه وممارسته خصوصاً للمدراء ومتخذي القرار، وأن تجد المؤسسة هويتها عندما يتعلق الأمر بالتخطيط على المستويين الطويل وقصير المدى، كذلك فإن المؤسسة المفكرة تجد سبلاً إبداعية لتميكن الموظفين من اختبار أفكارهم دون مرورها على مقصلة التقييم، هذا مع السعي الدائم إلى جذب الأفكار بأعداد كبيرة من خلال إشراك طيف واسع من الجمهور.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي