لنفترض أننا قدمنا لك عرضاً طلبنا منك فيه أن تتوقف عن استخدام محرك البحث "جوجل" لمدة شهر واحد، وفي المقابل سندفع لك 10 دولارات. غير موافق؟ ما رأيك بـ 100 دولار؟ 1,000؟ كم نحتاج أن ندفع لك كي تمتنع عن الدخول إلى موقع "ويكيبيديا"؟ يمكن أن تساعدنا إجابتك في فهم قيمة الاقتصاد الرقمي.
في عام 2018، قضى الأميركيون 6.3 ساعات في المتوسط يومياً على الوسائط الرقمية – ليس فقط "جوجل" و"ويكيبيديا"، ولكن أيضاً الشبكات الاجتماعية والدورات التعليمية الإلكترونية والخرائط ومنصات التراسل والمؤتمرات المرئية والموسيقى وتطبيقات الهواتف الذكية، وغيرها الكثير. تستحوذ الوسائط الرقمية على جانب كبير ومتنامٍ من حياتنا الواعية، بيد أن هذه السلع والخدمات لا تُحسب في أغلب الأحيان ضمن المقاييس الرسمية للنشاط الاقتصادي، مثل: إجمالي الناتج المحلي والإنتاجية (وهي ببساطة إجمالي الناتج المحلي لكل ساعة عمل). لقد صرنا نستمع إلى الموسيقى بشكل أكثر وأفضل، ونعرف طريقنا بسهولة، ونتواصل مع زملائنا وأصدقائنا بطرق شديدة التنوع، ونستمتع بمزايا أخرى هائلة لم نكن نتخيلها منذ 40 عاماً مضت. لكنك لو اكتفيت بالنظر إلى أرقام إجمالي الناتج المحلي فقط، ستعتقد أن الثورة الرقمية لم تحدث قط. فبالكاد ارتفعت مساهمة قطاع المعلومات كحصة من إجمالي الناتج المحلي الكلي منذ ثمانينيات القرن العشرين، حيث تراوحت بين 4% و5% سنوياً، وبلغ أقصى ارتفاع لها 5.5% فقط في عام 2018. وإذا أعدنا صياغة ما قاله الخبير الاقتصادي "روبرت سولو"، فإننا نرى العصر الرقمي في كل مكان، باستثناء في إحصاءات إجمالي الناتج المحلي.
يكمن السبب وراء نقص تمثيل قيمة العروض الرقمية في أن إجمالي الناتج المحلي يعتمد على ما يدفعه المستهلكون مقابل السلع والخدمات. وباستثناء حالات قليلة، إذا كان سعر شيء ما يساوي صفراً، فإنه يساهم بصفر في إجمالي الناتج المحلي. إلا أن أغلبنا يحصل على قيمة أكبر من السلع الرقمية المجانية مثل: "ويكيبيديا" والخرائط الإلكترونية، مقارنةً بما كنا نحصل عليه من نظيرتها الورقية سابقاً الأغلى ثمناً.
يستعين واضعو السياسات ببيانات إجمالي الناتج المحلي لاتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية الاستثمار في كل شيء، بدءاً من البنية التحتية والبحث والتطوير، وصولاً إلى التعليم والدفاع السيبراني. كما تستعين به الجهات التنظيمية لوضع السياسات التي تؤثر على الشركات التكنولوجية وغيرها من المؤسسات. ونظراً لأن مزايا الرقمنة مُستهان بها إلى حدٍّ كبير، تُتخذ تلك القرارات والسياسات في ظل فهم ضعيف للواقع.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
على الرغم من قضائنا قدراً كبيراً ومتنامياً من حياتنا الواعية على الإنترنت، فإن السلع والخدمات الرقمية لا تُحتسب في أغلب الأحيان في إجمالي الناتج المحلي. هذا لأن المقياس يعتمد على ما يدفعه المستهلكون مقابل السلع والخدمات. فإذا كان سعر شيء ما يساوي صفراً، إذاً فمساهمته في إجمالي الناتج المحلي عادةً ما تساوي صفراً.
الأثر
يستعين واضعو السياسات ببيانات إجمالي الناتج المحلي لاتخاذ القرارات المتعلقة بكيفية الاستثمار في كل شيء، بدءاً من البنية التحتية والبحث والتطوير، وصولاً إلى التعليم وأمن الفضاء الإلكتروني ( الأمن السيبراني). كما تستعين به الجهات التنظيمية لوضع السياسات التي تؤثر على الشركات التكنولوجية وغيرها من المؤسسات. ونظراً لأن مزايا الرقمنة مُستهان بها إلى حدٍّ كبير، تُتخذ تلك القرارات والسياسات في ظل فهم ضعيف للواقع.
منهج جديد
إجمالي الناتج المحلي للمنافع هو مقياس بديل يكمِّل الإطار التقليدي لمقياس إجمالي الناتج المحلي عن طريق قياس مساهمات السلع المجانية في رفاهية المستهلك.
تعتمد الإدارة الفعالة للاقتصاد الرقمي على قدرتنا على إجراء تقييم دقيق لقيمة السلع والخدمات الرقمية المجانية. لهذا ابتكرنا أسلوباً جديداً ليس فقط لقياس مقدار ما يدفعه المستهلكون مقابل المنتجات الرقمية، وإنما أيضاً لقياس حجم استفادتهم منها. وتلك الاستفادة غير المحسوبة كبيرة. على سبيل المثال: اكتشفنا من خلال بحثنا مع "فيليكس إغرز" من "جامعة جرونينغن"، أن موقع "فيسبوك" وحده قد حقق ما يربو عن 225 مليار دولار كقيمة استهلاكية غير محتسبة منذ عام 2004.
قياس المنفعة غير المحتسبة للسلع المجانية ليس بالمشكلة الجديدة. تذكر الموجات السابقة من الابتكار التي أنتجت عروضاً مجانية وشبه مجانية مثل المضادات الحيوية والراديو والتلفاز، وقدمت قيمة كبيرة للمستهلك. لكن بالنظر إلى النمو السريع والاستثنائي للسلع والخدمات الرقمية في اقتصادنا، فقد حان الوقت لحل هذه المشكلة.
وافق نحو 20% من مستخدمي موقع "فيسبوك" على التوقف عن استخدام الخدمة مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى دولاراً واحداً، بينما رفضت نسبة مماثلة التوقف عن استخدامه بأقل من 1,000 دولار.
ما لا يقيسه إجمالي الناتج المحلي
غالباً ما يُستخدم إجمالي الناتج المحلي كمقياس للأداء الاقتصادي، فهو رقم دقيق نسبياً يبين كل ثلاثة أشهر ما إذا كان الاقتصاد ينمو أم ينكمش. ومع ذلك، فإن إجمالي الناتج المحلي لا يقيس إلا القيمة النقدية لجميع السلع النهائية التي تم إنتاجها في الاقتصاد. ونظراً لأنه يقيس مقدار ما ندفعه فحسب مقابل السلع والخدمات، ولا يقيس حجم استفادتنا منها، فإن الرفاهية الاقتصادية للمستهلك قد لا تكون مرتبطة بإجمالي الناتج المحلي. في الحقيقة، أحياناً ما تنخفض مع ارتفاع إجمالي الناتج المحلي، والعكس صحيح.
الخبر السار أن علم الاقتصاد يقترح حلاً، على الأقل من الناحية النظرية، لقياس رفاهية المستهلك. يسمى ذلك المقياس الفائض الاستهلاكي، وهو الفرق بين الحد الأقصى للسعر الذي يكون المستهلك على استعداد لدفعه مقابل خدمة أو سلعة ما وبين سعرها السوقي الفعلي. إذا كان بإمكانك إنفاق ما يصل إلى 100 دولار مقابل شراء قميص، ولكنك دفعت 40 دولاراً فقط، فعندئذٍ يكون لديك فائض استهلاكي مقداره 60 دولاراً.
لكي تفهم لماذا يمكن أن يكون إجمالي الناتج المحلي مقياساً مضللاً للرفاهية الاقتصادية، فكر في الفارق بين الموسوعة البريطانية الورقية وموقع "ويكيبيديا". اعتادت الموسوعة البريطانية أن تكلف مشتريها بضعة آلاف من الدولارات، ما يعني أن عملاءها كانوا يرون أنها تستحق هذا المبلغ على الأقل. أما موقع "ويكيبيديا" الموسوعي المجاني، فيحتوي على مقالات أكثر بكثير مما احتوت عليه الموسوعة البريطانية على الإطلاق، وبجودة مماثلة. قياساً إلى معدل الإنفاق الاستهلاكي، تشهد هذه الصناعة انكماشاً متزايداً (فقد توقف إصدار الموسوعة المطبوعة عام 2012 بعد عزوف المستهلكين عن شرائها). لكن قياساً إلى المنافع، لم يكن المستهلكون في حال أفضل من اليوم. فقد توصلت أبحاثنا إلى أن متوسط القيمة التي يثمِّن بها المستهلكون الأميركيون موقع "ويكيبيديا" تبلغ نحو 150 دولاراً في العام، لكن التكلفة تساوي صفراً. يُترجم ذلك إلى نحو 42 مليار دولار كفائض استهلاكي لا ينعكس في إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة.
يمكن حساب الإنفاق الاستهلاكي – الذي يعتبر أساس إجمالي الناتج المحلي – عند ماكينة الدفع، ويظهر في بيان إيرادات الشركات. على النقيض من ذلك، لا يمكن ملاحظة الفائض الاستهلاكي بشكل مباشر، وهذا أحد أسباب عدم استخدامه كثيراً لقياس الأداء الاقتصادي. لحسن الحظ، لم تطرح الثورة الرقمية تحديات قياس صعبة فحسب، ولكنها طرحت أيضاً أدوات قياس جديدة في منتهى الكفاءة. خلال أبحاثنا، نستخدم تقنيات استبيان رقمية لإجراء تجارب اختيار إلكترونية واسعة النطاق تحلِّل تفضيلات مئات الآلاف من المستهلكين. تتيح لنا النتائج تقدير الفائض الاستهلاكي لمجموعة كبيرة ومتنوعة من السلع، بما في ذلك السلع المجانية الغائبة عن إحصاءات إجمالي الناتج المحلي. نبدأ التجارب بأن نطلب من المستهلكين اتخاذ خيارات. في بعض الحالات، نطلب منهم الاختيار بين سلع متنوعة (مثلاً: "هل تفضل التوقف عن استخدام ويكيبيديا أم فيسبوك لمدة شهر واحد؟"). وفي حالات أخرى، يكون عليهم الاختيار بين مواصلة استخدام سلعة رقمية أو التخلي عنها في مقابل تعويض مالي ("هل يمكنك أن تتخلى عن ويكيبيديا لمدة شهر مقابل 10 دولارات؟") وللتأكد أن المشاركين قد عبَّروا عن تفضيلاتهم الحقيقية، نتبع ذلك بتجارب يجب على المشاركين فيها أن يتوقفوا فعلياً عن استخدام خدمة ما قبل أن يحصلوا على التعويض.
إليكم مثال لكيفية عمل هذا الأسلوب. لقياس الفائض الاستهلاكي الناتج عن فيسبوك، استعنا بعينة ممثلة لمستخدمي الموقع من الولايات المتحدة، وعرضنا عليهم مبالغ مالية متنوعة ليتوقفوا عن استخدامه لمدة شهر. وللتحقق من مصداقية الإجابات، اُختير بعض المشاركين عشوائياً للحصول على المبالغ فعلياً والتوقف عن استخدام الخدمة لمدة شهر، وقمنا بإضافتهم مؤقتاً كأصدقاء على "فيسبوك" – بعد موافقتهم طبعاً – للتأكد من أنهم لم يدخلوا الموقع طوال ذلك الشهر.
وافق نحو 20% من المستخدمين على التوقف عن استخدام الخدمة مقابل مبلغ زهيد لا يتعدى دولاراً واحداً، بينما رفضت نسبة مماثلة التوقف عن استخدامه بأقل من 1,000 دولار. وبلغ متوسط التعويض الذي كان مستخدمو "فيسبوك" في تجربتنا مستعدين لقبوله مقابل التوقف عن استخدام الخدمة لمدة شهر 48 دولاراً. بناءً على الاستبيان وتجربة المتابعة، قدَّرنا أن مستهلكي الولايات المتحدة قد حصلوا على قيمة تعادل 231 مليار دولار من موقع "فيسبوك" منذ تأسيسه في عام 2004.
أجرينا دراسة مماثلة في أوروبا، واكتشفنا ارتفاع متوسط التعويض الذي طالب به المشاركون مقابل التوقف عن استخدام "فيسبوك" لمدة شهر واحد، حيث بلغ نحو 97 يورو. كما اكتشفنا أن المستخدمين الذين يملكون عدداً أكبر من الأصدقاء يرون قيمة أكبر في الموقع، وهو ما يعكس حقيقة أن التأثيرات الشبكية تعتبر عاملاً أساسياً في التقييم الاستهلاكي. كما أن المستهلكين الذين يستخدمون "إنستغرام" و"يوتيوب" أيضاً يرون قيمة أقل في "فيسبوك"، ما يشير إلى أن هذين الموقعين بديلين لموقع "فيسبوك". تقدِّر النساء – في المتوسط – "فيسبوك" أكثر من الرجال، والأشخاص الأكبر سناً يقدِّرونه أكثر من المراهقين الأصغر سناً، ربما لأن المستخدمين الأكبر سناً يقل احتمال انتقالهم إلى منصات التواصل الاجتماعي البديلة (مثل: "سناب شات" و"إنستغرام").
مقاييس بديلة للرفاهية الاقتصادية
بما أن إجمالي الناتج المحلي يعتبر مقياساً منقوصاً لرفاهية المستهلك، طُورت مقاييس بديلة عديدة لتوفير فهم أكثر شمولاً. يتكون مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية من متوسط العمر المتوقع ومستوى التعليم ونصيب الفرد من الدخل. كما طور "تشاد جونز" و"بيت كلينو" من جامعة "ستانفورد" مقياساً مختصراً لرفاهية المستهلك يتكون من معدل الاستهلاك والترفيه والوفيات وعدم المساواة. تقوم دول عديدة كالمملكة المتحدة وبوتان بقياس الرفاهية الشخصية عن طريق استطلاع رأي مواطنيها في مسائل تتعلق بالسعادة والرضا عن الحياة. ويعتبر مؤشر "حياة أفضل" الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أداة تفاعلية تتيح للمستخدمين المقارنة بين الدول عبر أحد عشر بُعداً للرفاهية، بما في ذلك البيئة والصحة والرضا عن الحياة. أما مؤشر التقدم الاجتماعي الذي طوره "مايكل بورتر" و"سكوت ستيرن" فيتكون من 54 مؤشراً لقياس مدى تلبية الدول لاحتياجات مواطنيها (بما في ذلك الاحتياجات الإنسانية الأساسية والاحتياجات المرتبطة بالرفاهية والفرص).
قد يعتقد المرء أن القيمة الناتجة عن "فيسبوك" تُحتسب في إجمالي الناتج المحلي من خلال عائدات إعلاناته. ومع ذلك، تشير تقديراتنا إلى أن المنصة تنتج متوسط فائض استهلاكي يبلغ نحو 500 دولار لكل شخص سنوياً في الولايات المتحدة، وما لا يقل عن نفس المقدار بالنسبة للمستخدمين في أوروبا. على النقيض من ذلك، يبلغ متوسط عائد الإعلانات لكل مستخدم نحو 140 دولاراً فقط سنوياً في الولايات المتحدة، و44 دولاراً سنوياً في أوروبا. بعبارة أخرى: تدير شركة "فيسبوك" إحدى أكثر المنصات الإعلانية تطوراً، ومع ذلك لا تمثل عائدات إعلاناتها إلا نسبة ضئيلة من إجمالي الفائض الاستهلاكي الذي تنتجه. وهذا يدعم أبحاث "مايكل سبينس" من كلية "ستيرن" بجامعة نيويورك، و"بروس أوين" من جامعة "ستانفورد"، التي تثبت أن عائدات الإعلانات والفائض الاستهلاكي ليسا دوماً مرتبطين: إذ يمكن أن يحصل المستهلكون على قيمة كبيرة من محتوى لا يعرض الكثير من الإعلانات، مثل "ويكيبيديا" أو البريد الإلكتروني. لذا من الخطأ أن نستخدم عائدات الإعلانات كبديل للفائض الاستهلاكي.
الأمر مشابه بالنسبة للسلع الرقمية التي تحقق عائداً من رسوم الاستخدام والاشتراكات. فمثلاً: يدفع المستخدمون ما بين 120 و240 دولاراً سنوياً لخدمات البث التلفزيوني مثل "نتفليكس" و"هولو" (Hulu) و"آتش بي أو" (HBO). ومع ذلك، تشير استطلاعاتنا إلى أن الفائض الاستهلاكي الناتج عن تلك الخدمات يتراوح ما بين خمسة وعشرة أضعاف ما يدفعه المستهلكون للحصول عليها.
تاريخ مختصر لإجمالي الناتج المحلي
ذاع صيت إجمالي الناتج المحلي الذي طُور في ثلاثينيات القرن الماضي باعتباره أحد أعظم ابتكارات القرن العشرين عن استحقاق. فهو يقيس القيمة النقدية لإجمالي السلع النهائية التي يتم إنتاجها في اقتصاد ما. وهو يُستخدم على نطاق واسع كمقياس للرفاهية، إلا أن "سيمون كوزنيتس" – قائد الفريق الذي ابتكره – حذر أن "رفاهية الأمم لا يمكن الاستدلال عليها" من إجمالي الناتج المحلي، ولم يكن ذلك الهدف منه وقت طرحه.
من بين مواطن ضعفه أنه يفشل في قياس الآثار السلبية المرتبطة بالنمو، مثل التلوث أو الاختناقات المرورية. علاوة على ذلك، فإن الأنشطة غير السوقية – مثل الإنتاج المنزلي (عندما يقوم الأفراد بمهام غير مدفوعة الأجر لأجل أنفسهم في منازلهم) – غير محسوبة في إجمالي الناتج المحلي.
خضع إجمالي الناتج المحلي منذ بداية ظهوره للتحديث والمراجعة والتطوير عدة مرات. على سبيل المثال: ظهرت مقاييس أفضل لأسعار الحواسيب واستثمارات البرمجيات عام 1999. وظهرت الحسابات "التابعة" عام 1993 لتتبع جوانب معينة من النشاط الاقتصادي، كالإنتاج المنزلي والبحث والتطوير. يعتبر المقياس الجديد الذي نقترحه والمسمى إجمالي الناتج المحلي للمنافع خطوة نحو تقديم لوحة متابعة أكثر اكتمالاً للمؤشرات الاقتصادية.
يكون تأثير الفائض الاستهلاكي أكبر بكثير عند النظر بعين الاعتبار إلى فئات السلع الرقمية. وقد أجرينا دراسات لقياسه بالنسبة للفئات الأكثر شيوعاً في الولايات المتحدة (انظر الشكل التوضيحي: "الفائض الاستهلاكي بحسب الفئة الرقمية)، واكتشفنا أن محركات البحث هي الفئة الأعلى قيمة (بمتوسط قيمة يتخطى 17 ألف دولار سنوياً)، متبوعة بالبريد الإلكتروني والخرائط. هذه الفئات ليس لها بدائل مماثلة غير إلكترونية، وكثير من الناس يعتبرونها ضرورية في عملهم وحياتهم اليومية. حين سألنا المشاركين في الدراسة عن التعويض المادي الذي يمكن أن يقبلوا به مقابل التوقف عن استخدام فئة كاملة من السلع الرقمية، وجدنا أن المبلغ كان أكبر من مجموع قيمة التطبيقات الفردية في تلك الفئة. وهذا منطقي، بما أن السلع الموجودة ضمن فئة ما غالباً ما تكون بديلاً لبعضها البعض.
الحصول على أرقام دقيقة
كي ندرك أهمية المساهمات الاقتصادية للسلع الرقمية، وجدنا أن تضمين قيمة الفائض الاستهلاكي لسلعة رقمية واحدة – "فيسبوك" – في إجمالي الناتج المحلي كان يمكن أن يضيف في المتوسط 0.11 نقطة مئوية سنوياً إلى نمو إجمالي الناتج المحلي الأميركي منذ عام 2004 وحتى 2017. خلال هذه الفترة، ارتفع إجمالي الناتج المحلي إلى 1.83% في المتوسط سنوياً. من الواضح أن إجمالي الناتج المحلي كان مستهاناً به إلى حدٍّ كبير خلال تلك الفترة.
بالتعاون مع الخبير الاقتصادي الكندي "إروين ديورت"، و"فيليكس إغرز"، و"كيفين فوكس" من جامعة "كولومبيا" البريطانية، طورنا طريقة لقياس المنافع المرتبطة بالاقتصاد الرقمي. يعتبر إجمالي الناتج المحلي للمنافع مقياساً بديلاً يكمِّل الإطار التقليدي لمقياس إجمالي الناتج المحلي، وذلك عن طريق قياس مساهمات السلع المجانية في رفاهية المستهلك. يستطيع واضعو السياسات والمدراء ورجال الاقتصاد تقدير هذه المساهمات باستخدام الطريقة غير المكلفة نسبياً التي وصفناها سابقاً: وهي إجراء استطلاعات رأي واسعة النطاق يُسأل فيها المشاركون عن مقدار التعويض المادي الذي يمكن أن يقبلوا به مقابل التوقف عن استخدام سلعة معينة لمدة محددة، ثم التحقق من صحة تلك النتائج عن طريق إجراء دراسات ضيقة النطاق بحوافز مالية حقيقية. ومن خلال بذل مجهود إضافي لجمع البيانات، يمكن تقدير التغيرات الحادثة في إجمالي الناتج المحلي للمنافع بانتظام وتقديمها جنباً إلى جنب مع تحديثات إجمالي الناتج المحلي السنوية أو ربع السنوية.
يعوق نجاح طريقتنا عقبتان مهمتان. العقبة الأولى أن تقديرات إجمالي الناتج المحلي للمنافع لا تزال بعيدة كل البعد عن الشمولية، كما أنها ليست بنفس دقة مقياس إجمالي الناتج المحلي التقليدي. سوف نحتاج إلى تضمين المزيد من السلع وإجراء المزيد من تجارب الاختيار الإلكترونية لكل سلعة منها للحصول على تقييم أكثر دقة لإجمالي المساهمات التي تقدمها السلع المجانية للاقتصاد.
العقبة الثانية أن مقياسنا – مثله كمثل المقياس التقليدي لإجمالي الناتج المحلي – لا يقيس بعض الآثار السلبية المحتملة المرتبطة باستخدام السلع والخدمات، بما في ذلك المنصات الإلكترونية. تشير دراسات عديدة إلى أن منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى الإدمان، وأن استخدام الإنترنت والهواتف الذكية قد يكون له أثر سلبي على السعادة والصحة العقلية. كما جادل آخرون أن بعض السلع الرقمية تضر بالترابط الاجتماعي أو الخطاب السياسي أو تفرض ضريبة على المستهلكين متمثلة في فقدان الخصوصية. في الوقت الراهن، لا يسجل مقياس إجمالي الناتج المحلي للمنافع الذي نقترحه إلا المنافع والتكاليف الشخصية المرتبطة بالسلع، حسب تقييم المساهمين (ربما بشكل غير دقيق) في تجارب الاختيار الإلكترونية التي أجريناها، ولكنه لا يقيس المنافع والتكاليف الاجتماعية. ونحن نعمل جاهدين على التخلص من هاتين العقبتين، بخلاف باحثين آخرين. على سبيل المثال: طور الباحثون مجموعة من الطرق المفيدة لقياس الجوانب الشخصية للرفاهية، بما في ذلك السعادة والرضا عن الحياة. على الرغم من أن هناك استطلاع رأي أجراه خبراء بارزون في الاقتصاد الكلي يشير إلى أن مثل هذه المقاييس لم تصل بعد إلى نفس الدقة أو التشابه أو الموثوقية التي تتسم بها المقاييس "الراسخة" مثل إجمالي الناتج المحلي، فإنها تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح.
على نطاق يتراوح بين مؤشرات الاقتصاد الكلي التقليدية مثل إجمالي الناتج المحلي والإنتاجية، التي تعتبر في غاية الدقة، وبين مؤشرات الرفاهية مثل السعادة، التي غالباً ما تكون تقريبية، يقع مقياس إجمالي الناتج المحلي للمنافع في مكان وسط بينهما. يتمتع إجمالي الناتج المحلي بتعريف محدد وقيمة محددة، لكنه لا يقيس الفائض الاستهلاكي الناتج عن الاقتصاد الرقمي. أما تقييمات السعادة فتواجه مشكلة معاكسة. يحقق مقياس إجمالي الناتج المحلي للمنافع توازناً بين طرفي النقيض هذين. وبذلك يمثل هذا المقياس تطوراً مفيداً لواضعي السياسات والمنظمين الذين يحتاجون فهماً كاملاً لكيفية تأثير التكنولوجيا على الاقتصاد كي يستطيعوا اتخاذ قرارات سليمة.
إن إجابات الأسئلة المتعلقة بكيفية تنظيم التكنولوجيا، ومقدار الدعم المالي للبنية التحتية الرقمية، بل وحتى أشكال العروض الرقمية الجديدة التي يجب أن يبتكرها رواد الأعمال، كل ذلك يعتمد على فهم المنافع الحقيقية المستمدة من الاقتصاد الرقمي. يمكن أن يساعد أسلوبنا أيضاً في قياس المنافع التي نحصل عليها من السلع التقليدية بشكل أفضل، بدايةً من أطعمة الإفطار وحتى السفر بالطائرات. وبنظرة أكثر طموحاً، يمكن أن يساعد في تقديم تقديرات أكثر دقة للمنافع المرتبطة بالتغيرات الحادثة في السلع العامة وغير السوقية مثل جودة الهواء والرعاية الصحية والبنية التحتية. في النهاية، مع تبني الحكومات والمدراء والباحثين في أنحاء العالم لهذا المنهج، من المتوقع أن تتحسن تقييماتنا لكيفية مساهمة السلع الرقمية وغير الرقمية في رفاهيتنا، وكلما تحسنت طرق القياس، تحسنت طرق الإدارة.