بعيداً عن وادي السيليكون: كيف تنجح الشركات الناشئة في الأماكن غير المتوقعة؟

15 دقيقة
كيف تنجح الشركات الناشئة

تُعدّ شركات التكنولوجيا الناشئة ذات مستويات النمو العالية من معجزات عالم الأعمال في العقود الأخيرة. وقد غيّرت ما تسمى الشركات الناشئة "أحادية القرن" - وهي شركات مدعومة برأس مال مُغامر (جريء) خاص تبلغ قيمتها مليار دولار أو أكثر - من طبيعة حياتنا وأدخلت تحولاً على الطريقة التي نمارس بها الأعمال. كما أن هذه الشركات، التي تتركز في المدن الغنية برؤوس الأموال وأصحاب المواهب، مثل: آسيا والهند وأفريقيا والشرق الأوسط، تُعدّ مصدراً للإلهام بالنسبة إلى رواد الأعمال ومدراء الشركات في جميع أنحاء العالم. ويبدو أنها جميعاً تتبع المسار نفسه: فهي تبدأ بخطة تهدف إلى "زعزعة" قطاع قائم حالياً، وتستفيد من رؤوس الأموال التي تضخ في هذه السوق لتنمو بأسرع وتيرة ممكنة، وتتحمل المخاطر العالية في اندفاعها نحو الهيمنة على السوق. فما هي إجابة السؤال التالي: كيف تنجح الشركات الناشئة بعيداً عن وادي السيليكون؟

هذه ليست الطريقة الوحيدة لإطلاق شركة ناشئة ناجحة. فبصفتي مستثمراً في رأس المال المغامر، عملتُ خلال العقد الماضي مع شركات تكنولوجية سريعة النمو في أماكن أبعد ما تكون عن كونها نقطة فاعلة للابتكار، بعضها يقع في اقتصادات متقدمة (في مدن مثل وينيبيغ وبروفو)، لكن العديد منها يقع في اقتصادات ناشئة (في جاكرتا، ونيروبي، وغوادالاجار، وساو باولو، مثلاً). ذلك أن رواد الأعمال الذين يعملون خارج تجمعات التكنولوجيا المعروفة يتبنون نهجاً مختلفاً عن النهج المفضّل في وادي السيليكون، وهم يحققون نجاحاً أكبر بكثير.

تعمل الشركات الناشئة في ظروف تتسم بالندرة النسبية، حيث يصعب العثور على رأس المال وأصحاب المواهب، ويزداد احتمال حدوث الصدمات الاقتصادية، وتواجه ضغوطاً فريدة من نوعها. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الشركات أصبحت بارزة عن جدارة. وينطوي الأسلوب الذي تتبناه هذه الشركات على نهج أكثر توازناً للنمو، كما تركّز هذه الشركات على إيجاد الحلول للمشاكل الحقيقية، والاستثمار في قواها العاملة على المدى البعيد. ولدى هؤلاء المبتكرين البعيدين عن مراكز الابتكار المعروفة دروس مهمة يقدمونها إلى الشركات على اختلاف حجمها وفي جميع المواقع، بما في ذلك وادي السيليكون ذاته.

فكرة المقالة باختصار

الرأي المتفق عليه حول سؤال كيف تنجح الشركات الناشئة

عادة ما تنجح الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا من خلال الدخول إلى قطاع معيّن قائم و"زعزعته"، مستفيدة من رؤوس الأموال التي تضخ فيها لتنمو بأسرع وتيرة ممكنة، وهي غالباً ما تتحمل المخاطر العالية في سبيل اندفاعها إلى الهيمنة على السوق.

المسار الجديد

يثبت رواد الأعمال الموجودون في أماكن بعيدة عن تجمّعات الابتكار البارزة، أن الشركات الناشئة قادرة على تحقيق نجاح أكبر بكثير من خلال اتباع مسار مختلف.

النهج المتبع خارج تجمّعات الابتكار المعروفة

تتبنى الشركات الناشئة التي تعمل في المناطق البعيدة عن تجمّعات الابتكار المعروفة نهجاً أكثر توازناً تجاه النمو، يقوم على تقاضي المال مقابل القيمة التي تقدمها منذ البداية، ومن خلال اتباع نماذج تتسم بالمرونة، والتركيز على النمو والربحية، وتبنّي نظرة مستقبلية أبعد مدى. وفي الأسواق الناشئة، تكون أكثر ميلاً إلى مجابهة التحديات المجتمعية الأساسية والاستثمار في قواها العاملة.

النمو المتوازن

في وادي السيليكون، غالباً ما يهيمن السعي نحو النمو على الاقتصادات المستدامة لوحدة العمل وتحقيق الأرباح. ومن المألوف أن تستهلك الشركات الناشئة ملايين الدولارات من رأس المال المغامر كل شهر في سبيل سعيها إلى تحقيق أهدافها الطموحة، بحيث تلجأ غالباً إلى تمويل تكاليف المستخدمين بهدف زيادة أعداد الزبائن المُستحوذ عليهم، على أمل أن تتمكن الشركة من تحقيق زيادة هائلة في إيراداتها في أسواق شديدة التنافسية يستحوذ فيها الرابح على كل شيء، بعد أن تكون قد هيمنت على سوقها، وزيادة الربحية في نهاية المطاف لتتجاوز الصفر وتبدأ بالنمو السريع بعد ذلك. تنجح هذه الاستراتيجية كلياً في حالة الشركات الناشئة التي تتمكن من العبور إلى الجانب الآخر: فإذا ما بدأ عدد المستخدمين يتزايد فإن الشركات الناشئة يمكن أن تتحول وبسرعة إلى شركات كبيرة جداً وبمنتهى السرعة.

ولكن رغم أن هذا الاستهلاك لرأس المال مقبول في وادي السيليكون، فإن المبتكرين في المناطق الواقعة خارج تجمعات التكنولوجيا المعروفة أقل احتمالاً لتحمل خسارة المال على كل زبون. ولا يكمن السبب في أنهم لا يحاولون التوسع على نطاق أكبر، فالعديد من هذه الشركات تستفيد من تأثيرات شبكة العلاقات ذاتها التي تجعل عمالقة وادي السيليكون يحققون نجاحاً باهراً. لكنهم يميلون إلى تجنّب نهج "إما النمو وإما الموت" الذي ينطوي على مخاطر عالية. فهم يركّزون على النمو والربحية كليهما، ويبنون نماذجهم بطريقة مرنة تجعلها قادرة على الصمود في مواجهة الشدائد، ويتقاضون المال مقابل القيمة التي يحققونها منذ البداية، ويتبنون نظرة طويلة الأجل.

ويصح هذا الأمر أيضاً حتى في الأسواق الغنية. فقد أخبرني مايك إيفانز، الشريك المؤسس لخدمة توصيل الطعام "غراب هاب" (Grubhub)، وهي شركة ناشئة في الغرب الأوسط الأميركي، أنه تجاهل هو والمدراء الآخرون في بداية عهد الشركة ما أسماه "مقياس التباهي المرتكز على النمو". بل عملوا عوضاً عن ذلك على ضمان استدامة الشركة (بحيث تكون إما رابحة أو قريبة بما يكفي من تحقيق الربحية عبر إجراء خفض بسيط في التكاليف) في كل مرة سعوا فيها إلى جمع المال. وحتى في أيام الشركة الأولى، كانت تتقاضى عمولة من المطاعم مقابل كل عملية بيع تُنجز على موقعها، في حين كان الزبائن يسددون ثمن توصيل الطعام. وعندما حصلت "غراب هاب" على رأسمال خارجي، جمعت مبالغ أكبر بكثير وبالمقارنة مع غيرها. وفي عام 2014، أدرجت الشركة أسهمها في البورصة، وتقدر قيمتها حالياً بأكثر من ستة مليارات دولار. (تكمن المفارقة في الأمر أن "غراب هاب" لم تضطر إلى دعم تكلفة الاستحواذ على الزبائن إلا بعد أن أصبحت شركة عامة ناجحة، وكانت تنافس شركات جديدة داخلة إلى السوق ومدعومة برأسمال مغامر مثل "أوبر إيتس" (Uber Eats) و"دورداش" (DoorDash).

حتى الشركات التي تعمل في الأسواق الناشئة وتخدم زبائن فقراء جداً، تتقاضى المال مقابل خدماتها منذ البداية عوضاً عن دعم الشركة حتى تكون قد انتشرت على نطاق واسع. وهي قادرة على فعل ذلك لأن الحلول الحالية غالباً ما تكون غير عملية، إلى الحد الذي يجعل الزبائن مستعدين لدفع المال مقابل الحصول على منتجات موثوقة وآمنة وذات كفاءة. فعلى سبيل المثال شركة "زونا" (Zoona)، وهي شركة زامبية ناشئة تنتشر أكشاكها المميزة بألوانها الخضراء الفاتحة في العديد من المدن الأفريقية. تعلن هذه الشركة التي تقدم خدمات مالية أساسية إلى المستهلكين الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية عن منتجها بالتركيز على قيم "السهولة، والسرعة، والأمان"، وليس "المجانية" أو "الثمن الزهيد". وهي توفر خدمة تحويل الأموال إلى الأفراد الذين لا يمتلكون الكثير من المال، في حين يدفع زبائنها مقابل خدمة يثقون فيها. وعلى الرغم من أن 60% من شعب زامبيا يعيش في حالة من الفقر، فإن "زونا" تخدم أكثر من مليون زبون، وهي آخذة في التوسع نحو دول أفريقية أخرى.

يستغرق بناء قطاع معيّن من الصفر وقتاً، ويحتاج إلى الكثير من المرونة في مواجهة الشدائد، وهذا أيضاً يجعل من تبنّي نهج "النمو مهما كان الثمن" أمراً غير ممكن. ومن أبرز الابتكارات التكنولوجية أيضاً تلك التي ظهرت في كينينا وهي "إم - بيزا" (M-Pesa)، وهي منصة تسمح لمستخدميها بإرسال الأموال وتلقيها عبر هواتفهم المحمولة، إضافة إلى الحصول على منتجات مالية أخرى عبر شبكة تضم أكثر من 100 ألف وكيل. بالنسبة إلى زبائن "إم - بيزا"، كان مفهوم تخزين المال بطريقة غير نقدية فكرة جديدة تماماً عليهم. وبالتالي، كان إعطاء أموال نقدية إلى شخص غريب يعد بإيصال هذا المال عبر الهاتف المحمول إلى الشخص المعني بتسلّمه، أمراً لا يخطر على البال. ولكي تتغلب "إم - بيزا" على هذه المعضلة، اضطرت إلى الاستثمار في توعية زبائنها.

وحسب النظرة الأسطورية التي تحيط بوادي السيليكون، فإن الشركات الناشئة تندفع إلى تطوير منتج هو بالحد الأدنى قابل للحياة، وجمع رأس المال، والتخلص من جميع حالات عدم الكفاءة المتأصلة في هذه العملية. ولكن حسب خبرتي، فإن تبنّي نهج أكثر توازناً للنمو لا يعوق الابتكار. على سبيل المثال حالة "كوالتريكس" (Qualtrics)، وهي شركة ناشئة مقرها في مدينة بروفو الأميركية تأسست عام 2002. كانت الشركة تُدار من الطابق السفلي لمنزل أحد مؤسسيها في سنواتها الأولى. وكانت الأرباح، وليس رأس المال الخارجي، هي ما يُستخدم لتمويل النمو. كان هذا النهج شديد الانضباط، وناجم جزئياً عن المنظومة المحلية – فولاية يوتاه حيث تقع هذه المدينة، لم تكن تضم الكثير من رأس المال المغامر في ذلك الوقت، وكانت غير موجودة على الخارطة بالنسبة إلى العديد من المستثمرين في وادي السيليكون – لكنها كانت أيضاً نتيجة للرؤية بعيدة المدى والفريدة من نوعها التي تبناها المؤسسون للابتكار. كان منتج "كوالتريكس" الأول هو منح المدارس إمكانية إجراء استطلاعات الرأي والمسوح عبر الإنترنت. ومع مرور الوقت، ودون أي ضغط من المستثمرين، تمكنت الشركة من تحسين منتجاتها وخدماتها وتخصيصها حسب حاجة عملائها من الشركات الكبيرة.

كيف تنجح الشركات الناشئة بعيداً عن وادي السيليكون
Reuben Wu

في نهاية المطاف، جمعت "كوالتريكس" رأس المال بعد 10 سنوات على الانطلاقة التمهيدية بعد أن كانت شركة ناجحة جداً. وكما أخبرني مؤسسها الشريك ورئيسها التنفيذي ريان سميث: "هذا ليس مشروعاً لمدة خمس سنوات، بل هو مشروع لمدة 20 عاماً. في أيامنا الأولى، كان نشاطنا جيداً، لكن الإنجاز الحقيقي الذي حققناه حدث بين العامين الثالث عشر والسابع عشر، عندما انتقلنا إلى العمل مع الشركات". بالنسبة إلى سميث، كان من الضروري جداً منح المبادرات الجديدة الوقت الكافي لكي تكتمل. يقول سميث: "استغرق كل أمر من الأمور وقتاً أطول مما توقعنا. كان من الضروري أن نتمتع بالقدرة على الانتظار وأن نتحلى بالمرونة للتمسك بالشركة". وقد استحوذت "ساب" (SAP) على "كوالتريكس" مقابل 8 مليارات دولار في عام 2019.

بطبيعة الحال، لا تتمتع بعض الشركات برفاهية اختيار نهج متوازن للنمو، وتكون بدلاً من ذلك مُجبرة على مراقبة أرباحها وإيراداتها. فعلى سبيل المثال، يفتقر رواد الأعمال البعيدون عن مراكز الابتكار المعروفة إلى القدرة على الحصول على مبالغ كبيرة من رأس المال المغامر، كما أنه لا توجد طبقة مستثمرين تتقبل فكرة النمو دون تحقيق ربحية لفترات طويلة من الزمن. لكن البراهين بدأت تبيّن أن التوازن له مميزاته. ذلك أن مجموعة من عمليات الاكتتاب العامة الملغاة وفضائح الشركات في وادي السيليكون، التي شملت رؤساء تنفيذيين مؤسسين محميين، قد ألقت الضوء على ما يسمى "تأثير كبد الإوزّ المسمّن" (أي حدوث تأثير عكسي، جرّاء الإفراط في الأمر) كما وصفته مقالة في صحيفة نيويورك تايمز، حيث تكون فيه الشركات الناشئة مجبَرة على تلقي مبالغ ضخمة من رأس المال حتى تنهار تحت تأثير ظاهرة النمو المفرط.

يمكن لرأس المال المغامر أن يكون أداة قوية تساعد الشركات الناشئة في تسريع نموها في اللحظات الحاسمة. لكن وجود قدر مفرط من الشيء الجيد يمكن أن يشوّه السوق. فقد توصلت دراسة أجرتها "بيتشبوك" (PitchBook) إلى أن عوائد رأس المال المغامر في الغرب الأوسط الأميركي تعتبر من بين الأفضل في البلاد، ويُعدّ ضمن أسباب ذلك أن الشركات هناك تتلقى رأسمال أقل. وقد حدّد بحث أجرته مؤسسة "أول وورلد نيتورك" (AllWorld Network) التي شارك في تأسيسها الأستاذ الجامعي في كلية هارفارد للأعمال مايكل بورتر، أن رواد الأعمال في الأسواق الناشئة يسجلون معدلات نجاة أعلى بالمقارنة مع نظرائهم في الولايات المتحدة الأميركية.

في أحيان كثيرة، تكون الشركات الناشئة في وادي السيليكون مجبرة على تلقي مبالغ ضخمة من رأس المال حتى تنهار تحت تأثير ظاهرة "النمو المفرط".

حل المشاكل الحقيقية حول سؤال كيف تنجح الشركات الناشئة

يركز عدد متفاوت من الشركات الناشئة التي تعمل خارج تجمعات التكنولوجيا المعروفة، وسبق لي أن عملتُ معها، على توفير خدمات تلبي احتياجات إنسانية عامة. ويصح هذا الأمر تحديداً في حالة شركات الأسواق الناشئة. فقد حددت دراسة أجرتها "فيليدج كابيتال" (Village Capital) أنه من بين 300 شركة ناشئة "أحادية القرن" في الولايات المتحدة الأميركية، فإن نسبة 18% منها كانت تركز على الصحة، أو الغذاء، أو التعليم، أو الطاقة، أو الخدمات المالية، أو الإسكان. وعلى العكس من ذلك، فقد كشف تحليلي لشركات ناشئة بارزة في أميركا اللاتينية، وأفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب شرق آسيا أن هناك نسبة أعلى بكثير (تصل إلى 60% من عيّنة أفريقيا جنوب الصحراء) تستهدف هذه الاحتياجات الإنسانية الأساسية.

عندما تقدّم الشركات خدمات أساسية، فإنها تتمتع بفرصة ترسيخ نفسها بصفتها شركات ضرورية بالنسبة إلى الزبائن الذين لم يلتفت إليهم أحد. على سبيل المثال شركة "أوكي هاي" (OkHi)، وهي شركة تكنولوجية ناشئة متخصصة في إنشاء عناوين بريدية وعناوين لتسليم الطرود في العالم النامي. ذلك أن ما يقارب 50% من سكان العالم يعيشون في مناطق عشوائية وأحياء فقيرة ومدن من الصفيح وغير ذلك من المناطق التي لا تمنح الحكومة فيها أسماء رسمية للشوارع ولا ترقّم بيوت ساكنيها. ورغبة من شركة "أوكي هاي" في حل هذه المشكلة، عمدت إلى توفير عناوين رقمية مجمعة وفق مبدأ حشد المصادر، وهو مزيج فريد من نوعه من نقطة مرتبطة بالموقع الجغرافي العالمي (GPS) وصورة للموقع، وشرح للصورة. وفي وسع مجموعة متنوعة من الشركاء (سلاسل المطاعم، ومتاجر التجهيزات المنزلية، والخدمات العامة) الوصول إلى قاعدة البيانات مقابل مصاريف محدودة. وعندما يبحثون عن عنوان معيّن، فإنهم يحصلون على إرشادات مفصلة حول كيفية الوصول إلى النقطة المرتبطة بالموقع الجغرافي العالمي (GPS) ومن ثم يتم توجيههم إلى المنزل المناسب باستعمال الأوصاف الكيفية والصور.

ضمن القطاعات القائمة، غالباً ما يؤسس رواد الأعمال عمليات بطرق جديدة تحسّن حياة الناس. فعلى سبيل المثال، تركز شركة "ريفيغو" (Rivigo) الناشئة التي يقع مقرها في دلهي على النظام اللوجستي الهندي. إذ يعتبر النقل البري والبحري وعبر السكك الحديدية في الهند أعلى تكلفة بنسبة تصل إلى ما بين 30% و70%، مقارنة مع تكلفة النقل ذاته في الولايات المتحدة الأميركية، ما يكلف الاقتصاد الهندي في حدود 45 مليار دولار سنوياً. كما يعاني هذا البلد أيضاً من نقص حاد في السائقين، بسبب عدم كفاءة النظام. فعلى سبيل المثال، قد يسافر سائق عدة أيام إلى موقع تسليم ما وعند الوصول يجد أن الطرود التي يجب أن تُعاد غير متاحة.

تستعمل "ريفيغو" نموذجاً لنقل الطرود والشحنات يتمحور حول السائقين (الذين يُشار إليهم باسم "الطيارين") من أجل إحداث تحول في النظام. فعوضاً عن أن يقودوا مسافة الرحلة كلها، فإنهم ينقلون شحناتهم إلى نقطة لا تبعد أكثر من خمس أو ست ساعات لتسليمها إلى زميل "طيار" آخر ليكمل إيصالها إلى النقطة التالية، وهكذا حتى تصل الشحنة إلى وجهتها النهائية. ويتبادل كل سائق "طيار" شحنته مع السائق "الطيار" التالي في السلسلة وينقل الشحنة الجديدة إلى موقعه الأصلي، حيث ستنقل من جديد إلى سائق آخر. لا تسمح هذه السلسة المتعاقبة التي تستعملها "ريفيغو" للطيارين بالعودة إلى منازلهم كل يوم فحسب، وإنما تمكّنهم أيضاً من كسب المزيد من المال. فبفضل استثمار الشركة في عملية تتبّع الشحنات والتخطيط للطلب، فإن الشاحنات تقاد بحمولات أكبر وبمزيد من الانتظام، ما يزيد من أجور السائقين. وها هي الاستراتيجية تعطي ثمارها المرجوة. فبحلول خريف عام 2018، كان حجم شبكة "ريفيغو" قد بلغ ما يقارب 10 آلاف شاحنة تخدم المورّدين في 500 سوق صغيرة، وقد وسعت خدماتها اللوجستية لتشمل نقل البضائع المبرّدة، والوساطة التجارية السريعة، وأسواق شحن البضائع.

عادة ما تسير الشركات التي تقدّم أشياء جديدة فعلياً في مسار نمو طويل وشاق، قد يشمل تعريف الزبائن بطريقة استعمال المنتج أو الخدمة. لكن هناك مزايا لتلبية الاحتياجات الأساسية بطريقة جديدة. فالسوق، وبالتالي الحوافز المالية، يمكن أن تكونا كبيرتين، على سبيل المثال مليارات الأماكن التي ليس لها عناوين ثابتة ومتاحة لشركة "أوكي هاي"، أو مليارات الأشخاص الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية ومتاحون لشركة "إم - بيزا". غالباً ما يكتشف الداخلون الأوائل إلى السوق أنه بمجرّد كسبهم لثقة الناس، فإن زبائنهم يرحبون بإضافة خدمات ذات هوامش أرباح عالية إلى المنصة. ففي إندونيسيا بدأت "جوجيك" (Gojek) بتطبيق هاتفي لنقل الركّاب، حيث تنقل الناس بتكلفة منخفضة. كان العديد من زبائنها الأوائل لا يمتلكون حسابات مصرفية، لذلك كانوا يدفعون أجرة رحلاتهم نقداً. وبما أن "جوجيك" عرّفت العديد من الزبائن على خدمات الإنترنت، فإن المنصة تحولت إلى مكان مثالي لتقديم مجموعة من المنتجات المالية. أما اليوم، فإن السائقين هم بمثابة أجهزة صراف آلي بشرية. فالركّاب يودعون الأموال ويسحبونها من "غو باي" (GoPay)، وهي منظومة المدفوعات المملوكة من "جوجيك"، مباشرة عبر سائقيها. بعد ذلك يمكن للزبائن استعمال "غو باي" للدفع وتجميع المدخرات. يوفر التطبيق إضافة إلى المنتجات المالية أكثر من 20 خدمة أخرى، بما في ذلك توصيل الطعام، والشحن، وتحديد مواعيد الأطباء، والرسائل، ودقائق الهواتف الجوّالة. وقد ذكر لي مؤسس "جوجيك" نديم مكارم: "في الصباح، نحن نقوم بتوصيل الناس إلى وظائفهم. وعندما يحين وقت الغداء، نوصّل إليهم الوجبات إلى مكاتبهم. وبعد الظهر، نعيد الناس إلى منازلهم. وفي المساء، نوصّل مكوّنات صنع الأطعمة ووجبات الطعام إليهم. وما بين ذلك كله، نقدم خدمات التجارة الإلكترونية، والخدمات المالية، وغير ذلك من الخدمات".

الاستثمار في المواهب العالمية

يمتلك وادي السيليكون واحداً من أهم تجمعات أصحاب المواهب في العالم. وفي كل عام، تخرّج كل من جامعتَي ستانفورد وبيركلي أكثر من 1,500 مهندس ينضمون إلى صفوف أكثر من 150 ألفاً من علماء الكمبيوتر ومطوري البرمجيات ممن يعملون في كاليفورنيا أو يحلون بعضهم مكان بعض. لكن إحدى النتائج غير المقصودة لذلك هي أن وادي السيليكون وغيره من مجموعات الابتكار بات الآن لديه نماذج عمل تقوم على وجود نسبة عالية من دوران الموظفين. فالشركات تعمل بموجب الافتراض القائل إن الموظفين قابلون للاستبدال، لأن العمالة الماهرة متوافرة بكثرة شأنها شأن العمالة العادية، لذلك فإن نسبة الدوران العالية في أوساط الموظفين هي من التبعات الثانوية المقبولة. أما كل من ريد هوفمان، وبين كازنوتشا، وكريس يه في كتابهم الذي يحمل عنوان "التحالف" (The Alliance) فيذهبون بعيداً عندما يقترحون على الشركات الناشئة في وادي السيليكون أن تنظر إلى الموظفين بوصفهم "يقضون مُدد خدمة ثابتة، مكلّفين فيها بمهام محددة".

الاستثمار في المواهب العالمية
Reuben Wu

وبعيداً عن التجمعات التكنولوجية المعروفة، يُعدّ توظيف الموظفين المناسبين عملية مؤلمة بكل معنى الكلمة. ففي دراسة شملت 628 رائد أعمال في الأسواق الناشئة، قال 75% ممن كانت شركاتهم تحقق نمواً سريعاً إن عدم توافر أصحاب المواهب هو أكبر تحدٍ يواجه شركاتهم. وإحدى الطرق التي يلجأ إليها المبتكرون في هذه المناطق البعيدة عن التجمّعات التكنولوجية المعروفة للتغلب على النقص هي بناء قوى عاملة موزعة تستفيد من أفضل أصحاب المواهب المتاحين في كل مكان. وقد ازداد شيوع تنظيمات العمل عن بعد بالكامل (وهو شكل مُفرط من أشكال القوى العاملة الموزّعة) بين صفوف الشركات الناشئة التي تعمل من خارج تجمّعات وادي السيليكون.

كانت "زابير" (Zapier)، وهي شركة استثمارية لأتمتة المواقع الإلكترونية تأسست في ميزوري، من الرواد المبكرين في هذا المجال. فموظفوها الذين يبلغ عددهم 250 شخصاً موزعون على 25 ولاية و17 بلداً. يقول ويد فوستر، الشريك المؤسس لشركة "زابير" ورئيسها التنفيذي: إن هذه الاستراتيجية تتمتع بميزة مهمة: "فأنت قادر على الوصول إلى مجمّع أصحاب المواهب في جميع أنحاء العالم. فإذا ما انحصر تركيزك في محيط مقر شركتك الذي لا يبعد أكثر من 30 ميلاً، فإنك ستجد صعوبة في التوظيف". وخلال العام الأول منذ إطلاق شركة "زابير" لخطة "تجاوز النطاق المحلي"، ارتفعت معدلات الطلبات الوظيفية المقدمة إليها بنسبة 50%، كما ارتفعت نسبة استبقاء الموظفين أيضاً.

في الأسواق الناشئة، غالباً ما يكون امتلاك قوى عاملة موزعة خياراً اضطرارياً. فقد عانى مؤسسو شركة "زولا" (Zola)، التي توفر الطاقة الشمسية للمنازل غير المتصلة بشبكه الكهرباء في أفريقيا، في بادئ الأمر، من العثور على المكان المناسب لتنفيذ مشاريعهم. فتنزانيا التي كانت السوق الأولى التي ركزوا عليها افتقرت إلى البنية التحتية الضرورية وقاعدة أصحاب المواهب المتخصصة. كانت الخبرات التي احتاجوا إليها في مجال البطاريات وألواح الطاقة الشمسية متراكمة في وادي السيليكون. كما كان من المنطقي شراء المكونات المادية من آسيا. لذلك وسّع المؤسسون عملياتهم في جميع أنحاء العالم: فالمنتج الأوليّ طُوّر في تنزانيا، على مقربة من المستخدمين، وانتقلت عمليات البحث والتطوير إلى سان فرانسيسكو، أما عمليات التصنيع فتُنجَز في آسيا، والإشراف على العمليات يكون من أمستردام، في حين أن التوزيع على أرض الواقع يجري في أفريقيا.

يمثل أحد الأشكال الأخرى للتعامل مع النقص في أصحاب المواهب في لجوء الشركات إلى إنشاء تجمُّع من أصحاب المواهب وتدريبهم، يكونون بمثابة خطوط إمداد يمكن أن تستعين بهم الشركة عند الحاجة. فشركة "شوبيفاي" (Shopify)، وهي منصة لتمكين التجارة الإلكترونية يقع مقرها في أوتاوا، أطلقت برنامجاً تعليمياً يحمل اسم "شهادة التطوير" (Dev Degree) بالشراكة مع جامعة كارلتون (Carlton University)، مبنيّ على المزاوجة بين التعليم التقليدي والخبرة الوظيفية العملية. وعلى مدار أربع سنوات، يستكمل الطلاب دراستهم الجامعية بنظام الساعات الدراسية في مجال علوم الكمبيوتر، ويحصلون على خبرة تمتد على مدار 4,500 ساعة تقريباً من الأنشطة العملية في "شوبيفاي". تغطي الشركة تكاليف الرسوم التعليمية لمدة أربع سنوات وتدفع للطلاب راتباً مقابل العمل الذي يؤدونه. يتلقى كل الطلاب الخريجين عروضاً للعمل في "شوبيفاي" بدوام كامل. رغم أن هذا البرنامج ما يزال في بداياته (حيث ستتخرج الدفعة الأولى في عام 2020)، فإنه يبدو ناجحاً. وما يثير الإعجاب في هذا البرنامج هو أن التنوع بين الجنسين فيه أكثر توازناً مما هي عليه الحال في البرامج الهندسية التقليدية. وفي الدفعات الجديدة، بلغت نسبة النساء 50% من الطلاب، مقارنة مع أقل من 20% في المتوسط في شهادات علوم الكمبيوتر.

وربما لأن المبتكرين الموجودين في المناطق البعيدة عن التجمّعات التكنولوجية المعروفة يستثمرون أكثر بكثير في العثور على المرشحين المناسبين وتدريبهم، فإنهم يتبنون نظرة أبعد مدى للعلاقة بين الموظف وصاحب العمل. وكما شرحت بريتاني فورسيث، نائبة الرئيس لشؤون الموارد البشرية في "شوبيفاي" الأمر لي قائلة: "خلافاً لحالة الشركات في سان فرانسيسكو التي تزخر بالكثير من أصحاب المواهب، الأمر الذي يؤدي إلى تنقلهم من شركة إلى أخرى، فإننا نريد لموظفينا أن يعرفوا أن في مقدورهم إنجاز أهم عمل لهم في حياتهم بالعمل هنا. نريدهم أن يتيقنوا من أنه: إذا استثمروا فينا، ففي وسعنا أن نستثمر فيهم".

أخيراً، يتبنّى المبتكرون الموجودون في المناطق البعيدة عن التجمّعات التكنولوجية المعروفة نهجاً مختلفاً للاحتفاظ بالموظفين، يكون التركيز فيه على مزايا مكان العمل بشكل أقل، في مقابل أن التركيز الأكبر يكون على الحوافز التي تعزز الترابط العالمي. وبالنسبة إلى شركة "برانش" (Branch)، التي تقدم القروض متناهية الصغر إلى الزبائن في الأسواق الناشئة، فإنها وضعت مقرها الأساسي في وادي السيليكون، لكنها توفّر للموظفين خيار العمل من أي من مكاتبها العالمية وتدفع ثمن تذاكر الطيران للانتقال بين مختلف هذه المواقع. يسمح هذا الأمر بتحقيق تكامل أفضل بين أعضاء الفرق عبر مختلف المناطق الجغرافية، ويمنحهم الفرصة للتعرف على زملائهم من مختلف أنحاء العالم، وفهم الأسواق المحلية المختلفة. وكذلك شركة "بيسكامب" (Basecamp)، وهي شركة ناشئة يقع مقرها في شيكاغو، في حين أن القوى العاملة لديها بأكملها تقريباً تعمل عن بعد. توفّر "بيسكامب" لموظفيها قسائم سفر سنوية للعطلات لتتاح لهم الفرصة للسفر والتواصل مع عائلاتهم.

المبتكرون الموجودون في الأماكن البعيدة
Reuben Wu

تُعدّ خيارات شراء الموظفين للأسهم، وهي الأداة المالية التي تستعملها شركات وادي السيليكون كممارسة عملية للاحتفاظ بهؤلاء الموظفين، أمراً من الصعب الاقتداء به في المناطق البعيدة عن تجمّعات التكنولوجيا المعروفة، ومن ضمن الأسباب في ذلك أن عمليات بيع الأصول (التي تتخذ شكل الاكتتابات العامة الأولية أو عمليات استحواذ من الشركات الأكبر حجماً) تستغرق وقتاً أطول واحتمال نجاحها يكون أقل. وبعد تحليلي لشركات ناشئة في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، توصلت إلى أن الوقت الذي يستغرقه بيع أصول شركة هو 13 عاماً في المتوسط، أي ضعف المعدل المتوسط تقريباً للزمن المسجّل في وادي السيليكون (رغم أن أزمنة بيع الأصول في أوساط الشركات أحادية القرن هناك قد ازدادت أيضاً). وما يزيد الأمور تعقيداً في العديد من الأسواق الناشئة، هو أن الموظفين لا يفهمون خيارات شراء الأسهم كما يُفترض بهم، وفي بعض الأحيان لا يكون هناك حتى هيكل قانوني يحكم هذه الخيارات. ونتيجة لذلك، يلجأ العديد من المؤسسين إلى التجربة بنماذج جديد لملكية الموظفين تكون أكثر مواءمة مع السياق السائد في هذه المناطق البعيدة عن تجمّعات التكنولوجيا المعروفة.

وكانت ليندساي هاندلير، الرئيسة التنفيذية السابقة لشركة "فينيكس إنترناشيونال" (Fenix International)، وهي شركة ناشئة متخصصة في الطاقة ويقع مقرها في أوغندا، قد أنشأت أسهماً وهمية أسمتها "فينيكس فليمز" (Fenix Flames). وكان من أسباب اتخاذها لهذه الخطوة هو إعادة توجيه التزام العديد من موظفيها تجاه الشركة مع تقديم منفعة مالية لهم في الوقت ذاته. وذكرت لي هاندلر، قائلة: "لم يكن العديد من موظفينا في أفريقيا أغنياء، وفقاً لأيٍ من المعايير، ومع ذلك فقد كانوا يطالبون باستثمار مدخراتهم في الشركة". يشبه نهج أسهم "فينيكس فليمز" الملكية المباشرة للأسهم أكثر من كونه يشبه خيارات شراء الأسهم، ما يعني أن فهم الموظفين لهذه الأسهم أسهل واستفادتهم منها أكبر حتى لو كانت الشركة لا تحقق نمواً متزايداً. وقد منحت هاندلر أسهم "فينيكس فليمز" لكل موظف، وصولاً إلى موظفي التركيب لأنظمة الطاقة الشمسية في القرى الأوغندية النائية. وقد مثّلت الأسهم مكسباً مالياً حقق تحولاً في حياة العديد من الناس عندما بيعت الشركة لاحقاً إلى شركة "إنجي" (Engie)، عملاقة الطاقة الفرنسية.

ما زال من السابق لأوانه تحديد الشكل الذي ستتخذه أفضل الممارسات الناشئة في مجال ملكية الموظفين في نهاية المطاف، ولا بد للنماذج أن تتطور في نهاية الأمر. ولكن من الواضح أن روّاد الأعمال في المناطق الموجودة بعيداً عن تجمّعات التكنولوجيا المعروفة سيظلون يجرّبون الامتيازات والتعويضات الممنوحة والمخصصة للاحتفاظ بالموظفين خلال فترات زمنية أطول.

وفي نهاية الإجابة عن سؤال كيف تنجح الشركات الناشئة بالمكان الصحيح، هيمنت الشركات الموجودة في التجمعّات التكنولوجية مثل وادي السيليكون على مجموعة متنامية وهائلة من المشاريع سريعة النمو التي تجذرت في أماكن أخرى. لكن هذا الوضع آخذ في التغير. فالشركات الناشئة الناجحة التي تعمل في مناطق تقع خارج هذه التجمعات المعروفة لديها دروس مهمة تعلّمنا إياها، كما أن نموذجها قد يثبت أنه الأكثر قدرة على البقاء والنجاح.

اقرأ أيضاً: 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي