أرسل لي أحد طلابي السابقين، وهو الرئيس التنفيذي لشركة صناعية كبرى متنوعة الأنشطة، رسالة إلكترونية يقول فيها إنه يعتقد أن "الجائحة كانت فرصة لتثبت الإدارة للموظفين في الشركة أنها تهتم بهم حقاً".
وقال إن هذا هو السبب الذي دفعه لاتخاذ قرار بعدم استبعاد أي موظف، والطلب من كبار مدرائه التنفيذيين تخفيض رواتبهم مقابل أسهم يمكن للشركة إعادة شرائها لاحقاً بسعر الإصدار، على الرغم مما سيترتب على ذلك من عواقب مالية خطيرة ومعارضة بعض المساهمين الرئيسيين له. كما أنه منح ائتماناً للموردين الذين يعانون من مشكلات، ومع مساعدة فريق الإدارة العليا تمكن من ترتيب عملية نقل جوي لمعدات الحماية الشخصية إلى المستشفيات القريبة من مواقع أبنية الشركة الرئيسية. كان شديد الفخر أن الفريق التنفيذي قد تمكن خلال بضعة أيام من جمع مبلغ كبير لهذا الهدف، بمساعدة موظفي الشركة.
وأقر أنه عند بداية الأزمة كان "على مسار مختلف تماماً"، ولكنه تمكن من "العثور على الشجاعة اللازمة لفعل ما يجب عليه فعله". أنهى الرسالة الإلكترونية بقوله: "كانت ردود أفعال موظفيّ على هذه الإجراءات مهولة".
تأثرت كثيراً بهذه الرسالة. فقد كان رئيساً تنفيذياً خجولاً نسبياً وكثير القلق، وامتلك الشجاعة الكافية لاتخاذ إجراءات لم يوافقه عليها بعض المساهمين في شركته. ومن الواضح أنه فكر ملياً بشأن الأمر الصحيح الذي يجب فعله في هذه الظروف، وامتلك الشجاعة الكافية لتنفيذ ما توصل إليه على الرغم من المعارضة والصعوبات.
ولكن، ما الذي منحه هذه الشجاعة؟ هل كان بهذه الشجاعة دوماً أم تعلم أن يكون شجاعاً؟ ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، لأن الشجاعة كالشخصية تماماً، تنبع عن طبيعة الإنسان وما يكتسبه معاً، وعن الفرد ومجتمعه معاً، والشخص والظرف معاً.
من الطبيعة إلى الاكتساب
من المؤكد أن طبيعة الإنسان تلعب دوراً كبيراً في تحديد درجة شجاعته. وتبين الأبحاث التي تجري في العلوم العصبية أن البعض يملكون شخصية تبحث عن التشويق، أو الشخصية المفكرة التي تميل للتحليل المنطقي "النمط تي" (Type T). تبدو بنية أدمغة هذا النوع من الشخصيات التي تبحث عن الإحساس مختلفة نوعاً ما عن بنية أدمغة الأشخاص الذين يتفادون المخاطر. إذ إن قشرة الدماغ عند مناطق صنع القرارات وضبط النفس أرقّ، (القشرة هي الطبقة الخارجية المجعدة من الدماغ والتي تسمى "المادة الرمادية").
قد يكون عدد مستقبلات الدوبامين التي تسجل الإحساس بالمتعة والرضا في الدماغ أقل لدى الأشخاص ذوي الشخصيات من "النمط تي". لذا، فهم يحتاجون إلى مستويات أعلى من الأنشطة المحفزة والتي تساعد على إفراز الإندورفين كي يشعروا بالسعادة. وكلما ارتفع مستوى التستوسترون، وهو هرمون يبدو مرتبطاً بالسلوك غير المقيد، ازداد ميل الشخص إلى نمط حياة متجه نحو المجازفة أكثر. إن البنية العصبية المعدة للمجازفة، إلى جانب مجموعة قيم قوية تحدد ما يعتبر صواباً أو خطأ، ستزيد من احتمالات تصرف أصحاب الشخصيات من "النمط تي" بشجاعة عندما يستدعي الأمر.
ولكن على الرغم من أن البعض معدون وراثياً لامتلاك قدرة أكبر من غيرهم على المجازفة، فهذا لا يعني أنهم سيبدون شجاعة أكبر. أوافق برأيي ستانلي راكمان، مؤلف كتاب كلاسيكي حول هذا الموضوع، في أن العوامل غير الحيوية، وتحديداً بنية الشخص النفسية وقيمه ومعتقداته إلى جانب ما يكتسبه من القدوات في المراحل المبكرة من حياته، قادرة على إقناعنا بالتصرف على نحو ينطوي على المجازفة بأنفسنا من أجل حماية الآخرين. قد تجعلك بنية دماغك الكيميائية أكثر استعداداً للقيام بقفزة "البانجي" بالحبال المطاطية مقارنة بجدي، ولكن هل ستجعلك أكثر استعداداً منه لإيواء هاربين من العدو الألماني الذي كان يحتل بلده هولندا أثناء الحرب العالمية الثانية؟
من الفرد إلى البيئة
هناك عدد كبير من الأبحاث التي تربط ما بين القدرة على التصرف بشجاعة (أو بجبن) والسمات الشخصية القابلة للقياس والتحكم. وللبدء، لدينا مستوى معين مما أطلق عليه ألبرت باندورا تسمية الكفاءة الذاتية، وهي ثقة الإنسان بقدرته على مواجهة التحديات المقبلة عليه. سيكون إيمان الإنسان بأنه "قادر على النجاح" ذا أثر عندما تكون هناك حاجة للتصرف بشجاعة. كما أن هناك ما يسمى تقدير الذات، وهو عامل نفسي مألوف أكثر ومكتسب جزئياً على الأقل، وهو يؤثر أيضاً على تقييم الإنسان لقدرته على التغلب على المهمات الصعبة والخطيرة، كتأثير القلق تماماً. ومن العوامل المؤثرة أيضاً درجة الانفتاح على التجربة، وهو أحد الأبعاد الخمسة في نظرية السمات الشخصية الرئيسية الخمس، وتزداد احتمالات تصرف من يملك هذه الميزة بشجاعة في الأزمات. يمكن تطوير جميع هذه الميزات وتشكيلها عن طريق التدريب ومساعدة الآخرين، إذ يمكن معالجة تقدير الذات المتدني والقلق على سبيل المثال، كما يمكن فعل الكثير فيما يتعلق بزيادة الانفتاح على التجربة.
بالطبع، البيئة والسياق المحيطان بالإنسان لهما أثرهما، لكنّ البيئة كالتركيبة الحيوية، من الصعب تغييرها. بيد أنه من السهل دائماً أن نتصرف وفقاً لما يعكس معتقدات معيارية مشتركة حول ما نعتبره صواباً أو خطأً، وهذا بالتأكيد ما حدث مع جدي. فالمحتل في هولندا لم يكن مرحباً به، وكان مجتمع جدي سيعتبر إيواء الهاربين تحدياً للعدو يستحق الثناء. في حين أنه على الأرجح لم يكن سيحظى بهذا الدعم الاجتماعي إذا ما تدخل لإنقاذ أحد جنود الاحتلال من اعتداء مجموعة من الأهالي الهولنديين الذين يسعون للانتقام. وهذا يوضح أننا قادرون على توليد الشجاعة بسهولة في مواقف معينة، في حين أن ذلك غير ممكن في مواقف أخرى. وفي المواقف التي يصعب فيها توليد الشجاعة، نخضع في كثير من الأحيان للخوف أو ضغط الأقران أو التفكير الجماعي، أو نرضخ لأشخاص في موقع السلطة.
التعلم بالتدريب
لربما كانت أفضل طريقة للتفكير بالشجاعة هي اعتبارها عضلة في الجسم. يولد البعض ببنية عضلية أفضل من الآخرين، ولكن يمكن للجميع تحسين عضلاتهم عن طريق التمرين والتدريب. خذ مثلاً طالبي السابق، فقد عرف أن عليه معالجة تقديره المتدني لذاته وقلقه، وساعده في ذلك دعم زملائه الرؤساء التنفيذيين في الندوة التعليمية التي أجريتها حول القيادة. كما ساعدته النصائح الجيدة التي قدمتها له زوجته التي تدعمه وعدد من الأصدقاء الجيدين الذين شجعوه لاتخاذ هذه الخطوات الشجاعة.
على مدى أكثر من خمسين عاماً مارست فيها عملي في التحليلات النفسية والعلاج النفسي والتدريب التنفيذي، توصلت إلى أساليب كانت مفيدة للغاية في مساعدة مرضاي وطلابي على العثور على الشجاعة وممارستها، وهي كما يلي:
ضع التصورات: أطلب ممن أدربهم تخيل أسوأ ما يمكن أن يحدث لهم إذا ما تصرفوا على نحو معين، والنتيجة المحتملة لعدم اتباعهم هذا السلوك. فالإنسان قادر على بناء مناعة ضد مخاوفه إذا ما تعرف على المجازفات التي يقوم بها.
أدرك تحيز السلبية: يميل كثير من الناس للتفكير بالنتائج السلبية أكثر من النتائج الإيجابية، وعن طريق تعريفهم على الأبحاث التي تتحدث عن هذا الأمر، ستتمكن من مساعدتهم على تصحيح هذا التحيز. كما يجب أن تحرص على أن يمضوا أكبر وقت ممكن في التفكير بالتصورات الإيجابية تماماً كما يفكرون بالتصورات السلبية. وعندما تفكر بالتصورات السلبية، حاول وضع أخطرها في إطار بنّاء أكثر.
تحدث عن الخوف الكامن داخلك: من يخاف من التصرف تكون ثقته بنفسه قليلة أو معدومة، ويتجلى نقص الثقة بالنفس هذا بطرق كثيرة، كالتسويف وطلب الكمال ومتلازمة المحتال وما إلى ذلك. لذا، فإن تحدث الإنسان صراحة عن شكه بنفسه واعترافه بنقاط ضعفه سيكون له أثر إيجابي داعم. نستطيع الحد من خوفنا من الموقف عندما نحدد ما نخاف منه، وهذا سيمنحنا الشجاعة للتصرف. كما سنستفيد من النظر إلى تجارب الآخرين الذين تغلبوا على مخاوفهم.
تدرب على الخروج من منطقة راحتك: التدرب المستمر والواعي على سلوكيات الشجاعة الصغيرة له أثر تراكمي. مثلاً، أقترح على المتدرب عادة أن يعبر عن رأيه فيما يعتقد أنه خطأ في حياته اليومية، فتحدي الذات لاتخاذ موقف في أشياء تبدو صغيرة يعزز عادة اتخاذ قرارات شجاعة وصعبة بحق.
انتبه لجسمك: الخوف يستهلك الإنسان جسدياً، وهذه الآثار الجسدية تؤدي إلى تفاقم الآثار النفسية. ويجب على كل من يضطر للتصرف في أوقات الضغط الشديد أن يحرص على أن يدخل التحدي بصحة جسدية جيدة. وفي الأزمات، احرص على أن تخصص الوقت اللازم كي تأكل جيداً وتمارس الرياضة وتحصل على كفايتك من النوم. كما وجدت أن تقنيات الاسترخاء المختلفة، كالتأمل أو ممارسة تمارين اليوغا، تساعد بدرجة كبيرة على التوصل إلى الصفاء الذهني اللازم لاتخاذ الخطوات الشجاعة.
اعرف أنك لست وحدك: يعتبر وجود أشخاص تخبرهم عما يثير مخاوفك ويخبرونك عن مخاوفهم بحرية مورداً قيّماً في مواجهة المواقف الصعبة التي تتحدى شجاعتك. ليس بالضرورة أن يكونوا أشخاصاً تعرفهم جيداً، فقد أخبرني طالبي أنه استمد قوته من المشاركين الآخرين في ندوتنا التعليمية، وهم أشخاص لم يكن قد التقى بهم من قبل. بطريقة ما، يمكن أن يصبح الخوف إدماناً، لكنك ستتغلب عليه بدعم من الأشخاص الذين يرافقونك في المركب نفسه.
في الختام، كلما ازدادت قدرتنا على مواجهة مخاوفنا، ازدادت قدرتنا على استبدال ردود الأفعال المبنية على الخوف بأخرى شجاعة. لكن الأمر ليس متعلقاً بالصراع مع العدو الداخلي فقط، فعندما نحارب خوفنا سنجد أنفسنا نتصرف بطرق تجعلنا نشعر بطعم الحياة أكثر. يعبر الفيلسوف والشاعر رالف والدو إمرسون عن ذلك بقوله: "من لا يقهر الخوف كل يوم لم يعرف سرّ الحياة".