يمكن تشبيه الإبداع الفطري أو الموهبة الذاتية بحادث مفاجئ، حيث تتبادر إلى ذهننا الواعي فجأة أفكار من العدم ونحل مشكلة مستعصية. أو ربما بعد مضي أيام من التحديق في ورقة فارغة، نجد الكلمات تنساب من أطراف أصابعنا، ونجد أنفسنا قد كتبنا مدونة أو مقالة افتتاحية رائعة. يعزو الكثيرون الإبداع إلى الذكاء، لكننا نعلم أنه لا يكفي أن يكون المرء ذكياً ليكون شخصاً مبدعاً أو موهوباً بالفطرة.
كيف أصبح شخصاً يتمتع بالإبداع الذاتي؟
نحن مبدعون عندما تكون حالتنا العقلية مناسبة تماماً، وعندما نستطيع الوصول إلى أفكارنا ومعرفتنا وخبرتنا، يمكن لدماغنا أن يتوهج بأفكار جديدة، فنستطيع حل مشكلة لم تكن قابلة للحل وتخيل واقع جديد.
لكن ما نفكر به بوعي ليس كل ما يتطلبه الأمر. وفقاً لما يقوله العالم آرني ديتريتش (Arne Dietrich)، فإن وظائفك الدماغية أمرٌ أساسي لفهم عملية الإبداع، القشرة الدماغية والجهاز الحوفي -المسؤولان عن التفكير العقلاني والوظائف الانفعالية- هما تحديداً ما يؤثران على الإبداع العفوي والمقصود. وبحسب ديتريتش، تعمل الأفكار والعواطف معاً عندما نمر في لحظة الإبداع، أو عندما نختبر الإلهام الفني. وعندما تعمل الأفكار والعواطف جنباً إلى جنب فإننا نستطيع أيضاً أن نكون أكثر إبداعاً عن قصد. على سبيل المثال، يمكننا الاستفادة من الذكريات البعيدة والعاطفية بطريقة واعية تولد الأفكار عمداً.
أي أننا ببساطة نحتاج إلى أن نكون في الحالة العاطفية الصحيحة كي نكون مبدعين، حيث إن أداء الدماغ يؤثر في الإبداع ومشاعرنا تؤثر في أداء الدماغ. لكن للأسف، القول أسهل من الفعل في بيئة العمل اليوم.
فالكثير جداً من المؤسسات فيها ثقافة تعزز السلبية والتهكم، والعديد من المدراء لديهم تأثير سيئ. لا يتعمد معظم الناس أن يكونوا بغيضين أو يؤذوا الأشخاص الذين يعتمدون عليهم، لكن يحدث ذلك في جزء كبير منه بسبب التوتر المزمن. إن الضغوط المستمرة في العمل -والتي تكون مقترنة بعالم متغير ومحير كثيراً- تترك الكثيرين منا تحت رحمة متلازمة التضحية؛ فنحن نعطي ونعطي ونعطي حتى لا يتبقى لدينا شيء. ولا يستطيع الكائن البشري العمل بنجاح في مثل هذه الظروف. فتبدأ أدمغتنا بالانغلاق فعلياً، ونصفي المعلومات ونحتفظ فقط بما نعتقد أنه ضروري للبقاء. ونركز بطريقة مفرطة على التهديدات المحتملة، فلا نرى الحقيقة بوضوح.
فالمشاعر السلبية التي تسري داخلنا وتدور حولنا تُخرج الدماغ عن مسار عمله الطبيعي، ناهيك عن الإبداع.
وإذا أردت استعادة قدراتك الإبداعية الكامنة، فعليك قطع هذه الدورة. ابدأ بالعناية بنفسك بصورة أفضل. هذا يعني أن تحظى بمزيد من النوم، وتؤكد الدراسات أن البالغين يحتاجون بالفعل إلى مقدار كبير من النوم يومياً لتأدية وظائفهم على نحو جيد، أي من 7 إلى 9 ساعات. ولا تصدق القادة الذين يقولون: "إنني لا أحتاج سوى 4 إلى 5 ساعات نوم في الليلة". إنهم مخطئون ويقدمون رسالة خاطئة.
ويشكل الغذاء الجيد وممارسة الرياضة أهمية كبرى، ولحسن الحظ، فإن الحركات الصحية في مؤسسات عديدة بدأت في تفويض الصلاحية للتركيز على صحة العمال. وهذه الأمور الثلاثة –أي النوم والغذاء والرياضة- هي الأساسيات التي تجعل الدماغ يعمل (وربما تكون واضحة للبعض)، لكن من أجل الاستفادة من جانبك الإبداعي عليك أيضاً إجراء بعض التغييرات الحقيقية فيما تفعله وفي كيفية قيامك به أثناء العمل.
إليك بعض الاقتراحات العملية التي ستساعدك في شفاء دماغك وإطلاق العنان لإبداعك الفطري:
- تخلص من عاداتك الأشد ضرراً، أي العادات التي تقضي على التركيز، مثل قضاء جزء كبير من اليوم (أو نهاية الأسبوع)، في متابعة البريد الإلكتروني أو الاستسلام لمصادر الإلهاء المستمر.
- خصص لنفسك وقتاً للتفكير والتأمل. فاليقظة -أي الممارسات التأملية- هي الأكثر فائدة عندما يتعلق الأمر بإدارة الضغوط والأداء الإدراكي. وكما قال لنا العالم دان غولمان (Dan Goleman) لسنوات، فإن "اليقظة -أي القدرة على ملاحظة ما يجري فور حدوثه والتوقف قليلاً قبل الاستجابة- هي مهارة عاطفية أساسية. وقد اكتُشف أن التأمل اليقظ يعزز القدرة على كبح الاندفاعات العاطفية السريعة". فخذ دورة في تخفيف الضغط عن طريق اليقظة أو اقرأ كتاباً وجرب بعض تمارين التنفس.
- توقف عن القلق بشأن جوانب القصور وحالات الفشل. قد يصعب هذا على رجال الأعمال الذين يركزون على الإنجازات، لكن كيف يمكن للمرء أن يكون مبدعاً دون أن يفشل في أحيان كثيرة؟.
- ركز على الأشياء التي تسعدك في العمل. المشاعر الإيجابية التي تتولد عندما تشعر بارتباطك مع أهدافك الشخصية والتنظيمية -أي الأمور المهمة فعلاً فيما تفعله- تساعدك على البقاء عقلانياً ومبدعاً، حتى عندما تكون الظروف صعبة.
وهذه التغييرات مهمة خاصة للقادة الراغبين في مساعدة أعضاء فريقهم على تعزيز الإبداع الذاتي لديهم. عندما تعتني بنفسك فأنت في موقع أفضل لمساعدة الآخرين. ورغم أنك لا تستطيع معالجة التوتر والضغوط في شركتك بأكملها، تستطيع التركيز على تشكيل "ثقافة مصغرة" من حولك تتسم بوجود قيم الاحترام والالتزام والإبداع الفطري المتبادل بالأهداف. يمكنك إنشاء قواعد توجه الأشخاص للتعامل بطريقة حسنة مع بعضهم، والنهوض لمواجهة التحديات بتفانٍ ومرونة ومرح، ويمكنك أيضاً التأكد من أن التمتع بحياة صحية كاملة يأتي أولاً، وأن العمل ليس جزءاً سيئاً من هذه الحياة.
لا يمكننا وضع وصفة جاهزة للطريقة التي تجعلنا أشخاصاً مبدعين ذاتياً أو لكيفية مساعدة فريقنا على أن يكونوا مبتكرين بالفطرة، ومع ذلك، فإننا نستطيع رويداً رويداً صياغة بيئة ممتلئة بالأمل والحماس وروح الفريق. ففي الفرق التي تتميز بهذا النوع من الانسجام العاطفي، يعمل الأفراد بتعاون ومثابرة ويستطيعون تجاوز الانتكاسات. فالناس ينجحون في البيئة التي تعزز الابتكار الذاتي والتغيير. وبما أن الإبداع الفطري يحدث في أدمغتنا، فإن هذه البيئة تساعدك على التفكير بشكل أوضح وأكثر إبداعاً ما يؤدي إلى تحفيز موهبتك وإبداعك الفطري دون حدود.