كانت العلاقة التي تجمع ستيف جوبز ببيل غيتس شائكة. ومع ذلك، فإن شركتيهما كانت قد جمعتهما علاقات تجارية مهمة للغاية. فقد قامت "مايكروسوفت" بكتابة البرمجيات الخاصة ببعض أجهزة آبل. لكن الرجلين كانا غريمين أيضاً، سواء في السوق أو تحت الأضواء العامة. وقد وصف والتر آيزاكسون، الذي كتب السيرة الذاتية لستيف جوبز، علاقتهما على أنها "رقصة العقارب التي يدور فيها كلا الطرفين باحتراس وهما يعرفان بأن لدغة من أي منهما يمكن أن تتسبب بمشكلة لكليهما". فكيف تستعد للتفاوض مع القادة؟
في بعض الأحيان، كانت الاندفاعات العاطفية تهدد التعاون فيما بينهما. وفقاً لما ذكره آيزاكسن في كتابه، فقد شعر جوبز بحنق كبير، على سبيل المثال، عندما كانت "مايكروسوفت" على وشك إطلاق نظام "ويندوز"، إذ زعم بأن هذه المنصة الإلكترونية الجديدة كانت تقليداً وقحاً لنظام تشغيل الغرافيكس في "آبل" (رغم أن "آبل" بحدّ ذاتها كانت قد أعطت لنفسها الحق في استعارة برمجيات كانت قد طوِّرت سابقاً في "زيروكس").
وقد زار بيل غيتس المقر الرئيسي لشركة "آبل" على أمل تهدئة الخواطر. ولكن عوضاً عن ذلك عمد جوبز إلى توبيخه أمام كبار المدراء في "آبل". فقد صاح في وجهه قائلاً: "أنت تسرقنا جهاراً نهاراً. لقد وثقت بك وأنت كنت تسرقنا".
لكن غيتس لم يردّ على الصراخ بمثله. بل جلس بكل هدوء، عارضاً طريقة أخرى للنظر إلى المسألة، قائلاً: "أعتقد أن الأمر أشبه بما يلي. كلانا كان لدينا جارٌ غني يدعى "زيروكس". وعندما اقتحمت أنا بيته لأسرق جهاز التلفزيون من عنده اكتشفت بأنك كنت قد سرقته قبلي".
اقرأ أيضا: كيفية إدارة المفاوضات
أهمية الذكاء العاطفي لدى القادة
تعتبر رباطة الجأش التي أظهرها غيتس، أي قدرته على التحكم في مشاعره في وضع ضاغط للغاية، مثالاً على السمة الرئيسية للذكاء العاطفي. كما أن هدوءه كان مُعدياً. فقد تراجع غضب جوبز قليلاً في الاجتماع ومن ثم ناقش الرجلان اختلافاتهما على انفراد خلال محادثات لاحقة. وقد علّق غيتس على هذه الحادثة مستذكراً إياها بالقول: "أنا أجيد التعامل مع الحالات التي يكون الناس فيها منفعلين. فأنا أقلّ انفعالاً نوعاً ما".
يتمثّل جوهر الذكاء العاطفي في وعي الذات، أي القدرة على إدراك المحفزات الأولى التي تدفعنا إلى الغضب أو القلق. وهذا الوعي، بدوره، يجب أن يترافق بفهم لما سبّب رد الفعل المحدد ذاك. فاعتماداً على الوضع، قد يكون السبب هو شيء ما قد قاله أو فعله شخص آخر. لكنّنا إذا تعمقنا بما يكفي، فإننا نرى أحياناً بأن مواقفنا الشخصية هي المصدر الحقيقي لردّ فعلنا الغريزي. ولنلاحظ هنا بأن غيتس لم يصف نفسه بأنه شخص غير انفعالي. فمن الواضح أنه يعلم بأن المشاعر تعتبر مهمة عند التعامل مع الآخرين، ولا سيما خلال المفاوضات.
قمت أنا وزميلتاي، كيمبرلين ليري وجوليانا بيلمير، وكلتاهما متخصصان بعلم النفس، باستكشاف الأفكار والمشاعر التي يجلبها الناس معهم إلى مائدة المفاوضات. وقد أجرينا مقابلات معمّقة مع مفاوضين مرموقين، وكلّ واحد منهم يمتلك خبرة في التفاوض تمتد على مدار عقدين أو أكثر من الزمن.
عبّر كل من التقينا بهم عن درجة معينة من القلق بخصوص التفاوض. فبالنسبة لبعض هؤلاء المشاركين في البحث، كان القلق مجرد أمر ثانوي يشغل بالهم، ولكن بالنسبة لمعظم هؤلاء الأشخاص، كان القلق هو العاطفة المهيمنة. وإذا ما فكرنا في الأمر، فإنه غير مفاجئ.
كان هؤلاء الناس يشعرون بالخشية جراء عدم إمكانية التكهن بنتائج العملية. هل سيكون من السهل التوصل إلى اتفاق أم أن ذلك سيكون صعباً؟ هل هناك إمكانية حتى لإيجاد حل مقبول؟ ثم كان هناك قلق تجاه نوايا الآخرين. تبدو المفاوضات المربحة للجانبين لجميع المفاوضين رائعة، لكن ماذا لو كان الطرف الآخر عديم الرحمة ولئيماً؟
وفضلاً عن ذلك، كان هناك قدر هائل من الشك في الذات. فحتى بعد إبرام صفقة معينة، يتساءل الناس ما إذا كانوا قد خسروا شيئاً نتيجة المفاوضات، أو ما إذا كانوا قد أفرطوا في الضغط على الطرف الآخر بحيث أنهم تسببوا بأذى للعلاقة.
اقرأ أيضاً: مواصفات المفاوض الناجح
تأثير القلق على إدارة المفاوضات
هذا النوع من المشاعر يعيق فعالية المفاوضات. وإذا لم يتم التعامل مع القلق بطريقة مناسبة، فإنه قد يجعلك تتخذ موقفاً دفاعياً – وهذا سيفتح المجال أمام المزيد من الأمور السلبية الأخرى. فقد تكون متردداً، على سبيل المثال، في الكشف عن مصالحك خشية أن تتعرض للاستغلال. وإذا كنت تحترس من الآخرين، فإنك قد تسارع إلى تفسير سؤال بريء على أنه جزء من حيلة أو خدعة. والأهم من ذلك هو أنك إذا كنت متوتراً ومارست الانغلاق على ذاتك، فإن الآخرين قد يسيئون قراءة حالتك الدفاعية معتبرين إياها ضرباً من العدوانية، مما يقودهم إلى اتخاذ موقف دفاعي هم أيضاً. ونتيجة لذلك، فإن التوترات قد تتصاعد.
بوسعنا أن نقدّم أداءً أفضل إذا تمكنا من المحافظة على رباطة جأشنا تماماً، كما فعل غيتس في مواجهته مع جوبز. والأمر ليس مسألة قمع لعواطفنا وانفعالاتنا. فهذا أمر لا يعتبر مجدياً ولا مرغوباً. فنحن في نهاية المطاف، نهتم لأمر القضايا التي نتفاوض عليها. ونرغب في أن نجادل بشغف دفاعاً عن الأشياء التي نحتاجها ونستحقها. كما أننا نحتاج أيضاً إلى أن نكون واضحين بأننا عندما نقول "لا" لمطلب غير معقول، فإننا نعني هذه الكلمة. وإنما عوضاً عن تجاهل هذه المشاعر المهمة، يتعيّن عليك أن تعيها وألا تتركها تسيطر عليك.
لا بل ثمة أمر أكثر جوهرية من ذلك، ألا وهو أننا نحتاج إلى التفاعل مع الآخرين ولا سيما في الصفقات الطويلة الأجل. فمن الصعب علينا تفهّم مشاعر الآخرين إذا لم نكن قد تعاملنا مع مشاعرنا الذاتية. باختصار، التحضير للمفاوضات يستدعي أكثر من مجرد قراءة مسودات العقود، والاطلاع على الأرقام، ووضع خطة جيدة للطوارئ. الأمر يستدعي تحضيرات واستعدادات عاطفية أيضاً.
لقد أثبتت زميلتي إيمي كودي في أبحاثها المتقدّمة والمبتكرة كيف أن وضعيتنا لا تعكس مشاعرنا فحسب، وإنما بأن الطريقة التي نتصرف بها تؤثر تأثيراً مباشراً على مستويات الهرمونات، وهي بدورها تؤثر على مشاعرنا. فالعواطف تتدفق إلى أجسادنا ومنها في الوقت ذاته. والوقوف بقامة منتصبة لمدة دقيقتين فقط – أي تبني "وضعية السلطة"، كما تسميها آمي – تخفض مستوى الكورتيزول الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقلق.
كما أن أفكارنا تحدد شكل مشاعرنا. فقد أشارت دراسة أجرتها زميلة أخرى هي أليسون وود إلى أن كلمات بسيطة نقولها لأنفسنا تترك مفعولاً قوياً. فقد جعلت المشاركين في التجربة يشعرون بالقلق عندما أخبرتهم بأنه يتعيّن عليهم الغناء بطريقة الكاريوكي (أي من خلال قراءة كلمات الأغنية من آلة موضوعة أمامهم)، وذلك أمام شخص غريب مثير للإعجاب. وبمجرد سماع هؤلاء الأشخاص للمهمة المطلوبة منهم، بدأت قلوبهم بالخفقان الشديد.
ولكن قبل أن يبدؤوا بالغناء، طلبت منهم أن يقولوا جملة مؤلفة من كلمتين. فقد طُلِب من نصفهم أن يقول: "أنا قلق". بينما طُلِب من النصف الآخر أن يقول: "أنا مسرور". وقد كان أداء الأشخاص الذين استعملوا جملة "أنا مسرور" أفضل بأشواط من أداء الذين قالوا "أنا قلق". وتشير أليسون إلى أنه عوضاً عن أن تحاول تهدئة نفسك عندما تشعر بالقلق، حاول إعادة تحويل مسار تلك الطاقة بحيث يمكنك الانكباب على إنجاز المهمة التي بين يديك.
تعتبر النتائج التي توصلت إليها كل من آمي وأليسون مهمة بحد ذاتها. فهي تعطي تقنيات محددة للتقليل من التوتر وتعزيز الحضور. كما أن عملهما يذكرنا أيضاً بأنه حتى لو كنا غير قادرين على التحكم بمسار المفاوضات (لأن الأطراف الأخرى لديها جداول أعمالها الخفية ومواقفها الخاصة بها)، بوسعنا التخفيف مع عبء عواطفنا علينا. أي باختصار، لا بأس بأن تكون لدينا مشاعر قوية عند الذهاب إلى المفاوضات. لكن السر يكمن في عدم السماح لهذه المشاعر بأن تتمكن منا، وبهذه الطريقة ستدرك كيفية الاستعداد للتفاوض بأفضل الطرق.
اقرأ أيضاً