في أواخر صيف عام 2016، كانت المزاعم التي تشير إلى إن موظفي قسم صيرفة الأفراد في بنك ويلز فارغو (Wells Fargo) قد فتحوا أكثر من مليون حساب دون تفويض وباعوا الزبائن آلاف المنتجات غير المطلوبة قد عمّت وسائل الإعلام الأميركية. وقد كلفت هذه الفضيحة ويلز فارغو ثمناً باهظاً. ففي يوم الثامن من سبتمبر/ أيلول من نفس العام، غرّم مكتب الحماية المالية للمستهلكين (إضافة إلى مكتب المراقب المالي لشؤون العملة ومدينة ومقاطعة لوس أنجلوس) الشركة بمبلغ 185 مليون دولار – وبعد تكشّف المزيد من الإساءات، تعرّضت ويلز فارغو إلى غرامة إضافية تبلغ مليار دولار، وخصصت الشركة مبلغ 575 مليون دولار لتسوية المطالبات القانونية. بحلول نهاية شهر سبتمبر/ أيلول، كان سهم البنك قد تراجع 13%، ما أدى إلى تراجع القيمة السوقية لويلز فارغو بحدود 20 مليار دولار، وظل السهم في حالة ركود رغم أن السوق كانت محلّقة. وأجبر مجلس الإدارة جون ستومف، الذي استقال من منصبه كرئيس تنفيذي للبنك في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، وكاري تولستيد، رئيسة قسم صيرفة الأفراد في البنك التي أعلنت عن تقاعدها في شهر يوليو/ تموز من ذات العام، على التنازل عن عشرات ملايين الدولارات من الأجور. كما أقيل أربعة من كبار المدراء في الوحدة لأسباب معللة. كانت سمعة ويلز فارغو قد تلطخت بشدة، وهو أمر مهين لمؤسسة يزيد عمرها على 160 عاماً.
كان سوء السلوك متفشياً في وحدة صيرفة الأفراد رغم وجود أنظمة للضبط وإدارة المخاطر في ويلز فارغو، والتي كانت خاضعة لإشراف مجلس إدارته. فما هو الخطأ الذي ارتُكب؟ توصّل تحقيق جرى بطلب من مجلس الإدارة إلى أن أصابع اللوم تتجه إلى وجود ثقافة مؤسسية منحرفة، وهيكل تنظيمي لامركزي، وقيادة سيئة. كما كشف التحليل اللاحق بعد وقوع الواقعة أن معظم السلوك غير القانوني نجم عن الضغط على الموظفين لتحقيق مستهدفات مبيعات مفرطة في شدتها كانت مرتبطة بعلاوات وترقيات. كانت الإدارة قد تلقت كماً كبيراً من الإشارات التحذيرية: فبين العامين 2000 و2004، كان عدد الحالات التي تلاعب الموظفون فيها بالمبيعات والأهداف الخاصة بالتعويضات قد تضاعف 10 مرات، فيما نُشِرَت مقالات نقدية تطرح أسئلة بخصوص الحسابات الجديدة، والضغط المفروض على فريق المبيعات، وتزايد نسب الدوران الوظيفي بين صفوف الموظفين في كل من وول ستريت جورنال في 2011 وفي لوس أنجلوس تايمز في 2013. ومع ذلك، فإن قادة القسم المعني بصيرفة الأفراد في البنك أنحوا باللائمة على بضعة موظفين سيئين بوصفهم هم سبب المشاكل. وبما أن شتومبف كان معتاداً على ترك القرار للوحدات التجارية، فإنه وببساطة قبل ذلك التفسير.
لسوء الحظ، لم تكن مأساة ويلز فارغو فريدة من نوعها. فجرائم أصحاب الياقات البيضاء، مثل الاحتيال، والاختلاس، والرشوة، وغسيل الأموال، كانت قد قللت كثيراً من القيمة السهمية لشركات كثيرة مثل ألستوم (Alstom)، وأوديبريخت (Odebrecht)، وبتروبراس (Petrobras)، ورولز رويس (Rolls-Royce)، وسيمنز (Siemens)، وتيليا (Telia)، وتيفا فارماسيوتيكال (Teva Pharmaceutical)، وفيمبلكوم (VimpelCom)، وفولكس فاغن (Volkswagen). وبالإجمال، تراكمت الخسائر لتصل إلى مليارات الدولارات. ويمكن للغرامات القانونية التي تُفرض على الشركات أن تكون ضخمة: فقد غُرّمت سيمنز بمبلغ 1.6 مليار دولار، وأوديبريخت بمبلغ 3.5 مليار دولار، وفولكس فاغن بمبلغ 20 مليار دولار. ثم هناك التكاليف التي تتحملها الشركة، كالوقت والجهد اللذين يجب أن تكرسهما الإدارة لضبط حالة الفوضى والتفاوض على التسويات عوضاً عن مواجهة المنافسين؛ وهناك الضرر الذي يطال السمعة؛ والأثر على المبيعات، والأرباح، وسعر السهم؛ والتراجعات في تفاعل الموظفين وإنتاجيتهم؛ والزيادة في دوران الموظفين. ويشير بحث لجوناثان كاربوف وآخرين من جامعة واشنطن إلى أن هذه التكاليف تفوق بأشواط الغرامات القانونية.
واستجابة لهذه الحالات التي شملت شركات رفيعة المستوى وتنامي المخاوف بين صفوف عامة الناس، طالبت الجهات الناظمة في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول هذه الشركات بزيادة جهودها الرامية إلى منع ارتكاب التجاوزات. ونتيجة لذلك، باتت كل شركة متعددة الجنسيات تقريباً تستثمر استثماراً هائلاً في الامتثال، وتتبنى سياسة عدم التسامح المطلق مع السلوك غير القانوني الذي يبدر من الموظفين. مع ذلك، وعلى أرض الواقع، فإن تزايد القواعد التنظيمية والضوابط لا يضمن وحده كشف الجرائم مبكراً أو الحيلولة دون وقوعها. فالقصص المنقولة والبيانات تدل على أن جرائم أصحاب الياقات البيضاء ليست متفشية فحسب، وإنما هي في تصاعد في حقيقة الأمر. ففي استبيان لشركة بي دبليو سي (PwC) في عام 2018، أشارت 49% من 7,228 مؤسسة إلى أنها قد شهدت جريمة اقتصادية واحتيالاً في السنة السابقة – صعوداً من 30% من المؤسسات في الاستبيان الذي أجري عام 2009 – وإلى أن أكثر من نصف المرتكبين كانوا من "داخل هذه المؤسسات". وفي غضون ذلك، ما تزال وسائل الإعلام تذخر بالقصص المتعلقة بجرائم أصحاب الياقات البيضاء – بما في ذلك المزاعم التي تشير إلى أن موظفي غولدمان ساكس (Goldman Sachs) كانوا متورطين في عملية احتيال بعدة مليارات من الدولارات في ماليزيا، وأن مصرف دويتشه بنك ساعد عملاءه في نقل أموالهم من أنشطة إجرامية إلى ملاذات ضريبية، وأن إيرباص (Airbus) تورطت في ممارسات فاسدة في إبرام العقود.
لكن جذر المشكلة لا يتمثل في القواعد التنظيمية وأنظمة الامتثال غير الفاعلة، وإنما في القيادة الضعيفة وثقافة الشركات المليئة بالعيوب.
في الحقيقة، يكشف بحثنا أن العديد من الشركات التي عصفت بها فضائح كبرى كانت تمتلك ضوابط شبيهة بتلك الموجودة لدى نظيراتها، وأنها مثلها مثل ويلز فارغو، كانت قد تلقت إشارات تحذيرية مبكرة عن المشاكل الوشيكة. ولكن في كل شركة من هذه الشركات، كانت ثقافة تحقيق الأرقام المطلوبة تطغى على أي مخاوف بخصوص كيفية تحقيق المستهدفات.
خلال السنوات العشر المنصرمة، درسنا جرائم أصحاب الياقات البيضاء واستكشفنا السبل التي تسمح للشركات بتوفير بيئة تثني عن ارتكابها. واستعملنا بيانات من شركات فردية، ومن استبيانات أجرتها بي دبليو سي، ومنظمة الشفافية الدولية (وهي مؤسسة غير حكومية تأسست عام 1993 لمكافحة الفساد)، والبنك الدولي، والشركات المتخصصة بتعيين التنفيذيين، وغير ذلك من المؤسسات. بالإجمال، راجعنا بيانات تشمل آلاف المؤسسات والأفراد. إضافة إلى ذلك، قابلنا أكثر من 50 من مدراء الإدارة العليا والوسطى في 10 مؤسسات شهدت فضائح. وفي بحثنا وجدنا مراراً وتكراراً أنه على الرغم من أهمية أنظمة الامتثال، إلا أن القيادة تؤدي دوراً أساسياً في تحديد مواقف المؤسسة تجاه منع الجريمة واستجاباتها عند اكتشاف التجاوزات. ومع ذلك فإن التنفيذيين وفي غالب الأحيان يتخلون عن مسؤوليتهم.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
على الرغم من المصاريف التي تنفقها الشركات بإلزام من الحكومات على أنظمة ردع جرائم أصحاب الياقات البيضاء، إلا أن البيانات والقصص المنقولة تشير إلى أن هذه الجرائم في تصاعد مستمر.
الأسباب
تشير الأبحاث الشاملة إلى أن المذنب الحقيقي هو ليس الأنظمة بل القيادة الضعيفة وثقافات المؤسسات المنحرفة التي تدفع الموظفين إلى تحقيق الأرقام المطلوبة بأي ثمن.
الحل
يحتاج القادة إلى أن يعلنوا صراحة أن الجريمة تؤذي الجميع في المؤسسة، وحري بهم أيضاً معاقبة المرتكبين على قدم المساواة، وتعيين المدراء الذين يتمتعون بالنزاهة، وإيجاد عمليات لصنع القرار تقلل من فرصة الإقدام على أفعال غير مشروعة وغير أخلاقية، وضرب مثال يُحتذى في الشفافية.
لمسنا في مقابلاتنا شعوراً شائعاً، وهو أن كبار التنفيذيين في معظم الشركات التي عانت من تجاوزات حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق لم يروا أن علاج هذه الحوادث هو من مسؤوليتهم الشخصية أو أنها برهان على شيء ينطوي على خطأ جوهري في مؤسساتهم. عوضاً عن ذلك، نظر هؤلاء القادة إلى هذه التعديات بوصفها حوادث نادرة الحصول جداً ناجمة عن "بعض العناصر السيئة في المؤسسة"، وأصروا على أنه لم يكن بالإمكان الحيلولة دون وقوعها. ورغم أن القادة قبلوا أهمية الاستثمار في أنظمة الامتثال وقالوا إنهم ينتظرون من الموظفين أن يتصرفوا بنزاهة، إلا أن أولوياتهم كانت تنصبّ عادة على التفوق في الأداء على المنافسين وإبهار المستثمرين – وليس على السهر على احترام المعايير القانونية والأخلاقية الرفيعة. لا بل أسوأ من ذلك، فقد كان هناك عدد هائل من القادة الذين تغاضوا عن الممارسات التجارية المريبة، أو كانوا متساهلين مع أفراد من شبكات أصدقائهم القدامى الذين قُبِض عليهم متلبّسين بارتكاب الجرائم. وقد وصلت حالة اللامبالاة هذه إلى صفوف الموظفين، وشجعتهم على تبني ذهنية "احترام الشكليات الورقية" عبر الاكتفاء بتلبية شروط التدريب ورفع التقارير دون تبنّي المعايير التي يُفترض ببرامج الامتثال أن تغرسها فيهم.
كما يُظهِرُ بحثنا أيضاً أن القادة الذين كانوا فاعلين في محاربة السلوك غير المشروع للموظف منخرطون بعمق في تكريس المعايير الاجتماعية في شركاتهم وفي إدارة مخاطر سوء السلوك. وهم ينجزون هذه المهمة من خلال إرسال رسالة واضحة مفادها أن الجريمة تؤذي الجميع في المؤسسة. وهم لا يمنحون استثناءات عند معاقبة المرتكبين. كما أنهم يعيّنون المدراء الذين يقدّرون النزاهة ويرقّونهم، ويعتمدون عمليات لصنع القرار تقلل من فرص ارتكاب الأفعال غير القانونية أو غير الأخلاقية. أخيراً، هم يمضون خطوة إضافية في جعل عملياتهم في الدول الفاسدة تتسم بالشفافية، وهم سباقون إلى تنظيف القطاع الذي يعملون فيه من الممارسات القذرة، ويدعمون المؤسسات المجتمعية التي تروّج للمسؤولية الاجتماعية والسلوك التجاري الصادق.
في الشركات التي عصفت بها فضائح كبيرة، كانت ثقافة تحقيق الأرقام المطلوبة تطغى على أي مخاوف بخصوص كيفية تحقيق المستهدفات.
ابعثوا برسالة مفادها أن الجريمة لا تجدي نفعاً
تمخّض عملنا عن اكتشافين مذهلين، الأول هو أن الأنشطة التجارية التي يُستحوَذ عليها بطرق غير مشروعة لا تضيف كثيراً أو قد لا تضيف شيئاً حتى للأرباح، والثاني هو أن الموظفين في عموم الشركة – وليس فقط المرتكبون للمخالفات، ومشرفوهم، والرئيس التنفيذي – يعانون عندما تكتشف جريمة ما. يحتاج القادة إلى فهم ذلك وتعميمه في أرجاء مؤسساتهم.
الأنشطة التجارية المكتسبة بطرق غير مشروعة ليست مربحة جداً. يقول قادة الشركات المتعددة الجنسيات علناً إن شركاتهم لا تتسامح مع الفساد. لكن العديد منهم يغضّون الطرف عندما يدفع الموظفون في مؤسساتهم الرشاوى – إما مباشرة أو عبر شركاء محليين – في الاقتصادات النامية التي لا تُطبَق فيها بقوة قوانين مكافحة الفساد. ولسان حالهم يقول: "ليس أمامنا من خيار. إذا لم ندفع رشى، فإننا لن نكون قادرين على المنافسة في هذه الأسواق وسوف نعاني مالياً".
ترسم الحقائق صورة مغايرة بالكامل. وهناك مثالان على ذلك ألا وهما شركتا سيمنز وشركة إس إن سي لافالين (SNC-Lavalin)، وهما شركتا هندسة وإنشاءات اتهمتا منفصلتين في آخر 12 عاماً بتهم دفع رشى. قال لنا تنفيذيون كبار في هاتين الشركتين إن عمليات التدقيق التي جرت لاحقاً كشفت أن أرباح الصفقات التي تشمل دفع مبالغ غير مشروعة كانت منخفضة ودون التوقعات – ويعود السبب في ذلك إلى حد كبير إلى التكلفة الكبيرة للرشى (ما يصل إلى 10% من قيمة العقد).
يبدو أن تجربتيّ هاتين الشركتين هي القاعدة، وليست الاستثناء. راجعنا في دراستنا الأرقام المالية لما يُقارب 480 شركة متعددة الجنسيات خضعت للتقويم من منظمة الشفافية الدولية في 2006 فيما يخص أنظمة وأنشطة مكافحة الفساد المفصح عنها في تقاريرها السنوية وفي صفحاتها على الإنترنت. وعندما قارنّا أداءها بين عاميّ 2007 و2010، وجدنا أن الشركات التي تحظى بتصنيفات منخفضة في مجال مكافحة الفساد كانت مبيعاتها السنوية أعلى بنسبة 5% في المناطق الخاضعة لإشراف ضعيف من الجهات الناظمة بالمقارنة مع الشركات ذات التصنيف الجيد. لكن الشركات المتعددة الجنسيات ذات التصنيفات السيئة سجلت أيضاً ربحية أدنى من نمو مبيعاتها في المناطق الخاضعة لإشراف ضعيف من الجهات الناظمة بالمقارنة مع الشركات ذات التصنيف الجيد. وكانت الفروقات في الربحية مقاربة في حجمها لحجم الرشى التي كانت تدفع عادة في تلك المناطق.
لا يعزز النمو الإضافي في المبيعات والمتولد عن الأنشطة التجارية المكتسبة بطرق غير مشروعة أيضاً القيمة السهمية للشركة – حتى لو لم يُفتضح أمر الرشى. ووجدنا باستعمال نماذج التقويم المعيارية، أن الزيادة في القيمة السهمية للشركة في أوساط الشركات ذات التصنيف السيء - من المبيعات الإضافية في المناطق الخاضعة لإشراف ضعيف من الجهات الناظمة - كانت تقابلها ربحية أدنى. بطبيعة الحال، إذا خرجت الممارسات الفاسدة إلى النور، فإن سمعة الشركة ستتضرر وسيتلقى سعر سهمها ضربة كبيرة. وهذا ليس بالخطر القليل: فعندما درسنا البيانات الممتدة بين عامي 2007 و2010، وجدنا أن الشركات ذات التصنيفات السيئة في مجال مكافحة الفساد كان لديها احتمال أعلى بنسبة 28% أن تنتشر فضيحتها في وسائل الإعلام.
الجميع يعاني. من الواضح أن مرتكبي الجرائم الذين يُعاقبون يدفعون ثمناً مالياً ومهنياً. لكن الأمر الأقل وضوحاً والذي يحظى باعتراف أقل على نطاق واسع هو الضرر الذي يطال الموظفين الذين لا ناقة لهم ولا جمل بالجريمة. عندما درسنا أكثر من 2,000 من كبار المدراء (أعضاء الإدارة العليا وقادة الوحدات والوظائف التجارية) ممن غيروا الشركات التي يعملون لديها، وجدنا أن الموظفين الذين غادروا الشركات ذات الفضائح الإجرامية للانضمام إلى مؤسسات جديدة حصلوا على أجور تبلغ 4% أقل بالمقارنة مع نظرائهم. وقد استمر هذا الفرق في الرواتب لسنوات، ما أدى إلى خسارة كبيرة في الثروة بالنسبة للتنفيذيين المتأثرين – حتى أولئك الذين غادروا الشركة قبل الفضيحة وكانوا غير معنيين بها على الإطلاق. لقد كان ثمن هذه الوصمة أكبر بالنسبة للمدراء ذوي المناصب الأعلى (بلغ الفرق في الراتب السنوي 6.5%)، والنساء (7%)، وفي الدول التي تتبنى أنظمة تشريعية وأنظمة حوكمة قوية (6%).
يجب أن تقنع هذه النتائج، ناهيك عن الغرامات القانونية والأثمان التجارية، القادة على تبني موقف شخصي ضد الفساد. ويجب أن يستعملوا البيانات المأخوذة من أبحاثنا وأبحاث الآخرين ليثبتوا للموظفين في عموم المؤسسات أن الجريمة مكلفة للشركة ولمسيراتهم المهنية، وأن مصلحة الجميع تقتضي مكافحتها.
بطبيعة الحال، يجب على القادة أن يأخذوا على محمل الجد أي مخاوف يطرحها الموظفون بخصوص التجاوزات المحتملة وضغوط الأداء. والفشل في الأخذ بهذه المخاوف يزيد من احتمال أن يجد الموظفون الطيبون أنفسهم مضطرين إلى التصرف بطريقة سيئة أو تحمل التجاوزات. رغم أن ذلك يبدو بديهياً، إلا أننا وجدنا أن القادة في الكثير جداً من الحالات لا يتحركون لمعالجة المشاكل التي لُفِتُ انتباههم إليها. توصّل التحقيق الذي جرى بطلب من مجلس إدارة ويلز فارغو بعد وقوع الواقعة وانكشاف الفضيحة إلى أن تولستيد، التي قادت قسم صيرفة الأفراد منذ 2007، لم تكن تحب أن يتحداها أحد أو أن تسمع معلومات سلبية؛ كانت تُرْهِبُ الموظفين – وحتى كبار المدراء – في قسم صيرفة الأفراد. وكان شتومبف، الرئيس التنفيذي للبنك قد قلل من شأن المخاوف المتعلقة بسوء السلوك في أنشطة قسم صيرفة الأفراد التي طرحت للمرة الأولى في 2002، ثم طرحت مجدداً في 2004 ومن 2012 إلى 2014. وعندما ظهرت المقالات النقدية في صحيفة لوس أنجلوس تايمز في 2013، أخفق شتومبف (ومجلس الإدارة) في إدراك الضرر الكامل الذي سيطال الزبائن وفي إجراء تحقيق كافٍ في المزاعم. ورغم استمرار توارد التقارير التي تفيد بسوء السلوك في عهد تولستيد، إلا أن شتومبف ظل يدعمها، حتى عندما اقترح مدير الإدارة المستقل البارز ورئيس لجنة المخاطر التابعة لمجلس الإدارة طردها في أواخر 2015.
من الضروري بمكان ضمان فاعلية البرامج المخصصة لدق ناقوس الخطر والإبلاغ عن المخالفات. (وجد بحث حديث أجراه زميلنا يوجين سولتيس أن 20% من الخطوط الساخنة المخصصة لمن يدقون ناقوس الخطر لا تعمل بالشكل المناسب وأن المؤسسات التي تتضمن ضوابط داخلية ضعيفة لا تسمح لهؤلاء المبلغين عن المخالفات أن يظلوا مجهولي الهوية). يجب على القادة تقدير المبلغين عن المخالفات الذين يدقون ناقوس الخطر مسبقاً – أو على الأقل أن يحموهم، فهم غالباً ما يُعاملون معاملة سيئة من مدرائهم وزملائهم لأنهم فضحوا المرتكبين. وحتى المكافآت المالية السخية المخصصة لهؤلاء المبلغين عن المخالفات، التي قد يحتاج تحصيلها إلى سنوات، تبدو هزيلة بالمقارنة مع الأثمان الباهظة المتمثلة في خسارة العلاقات، والضغط الذي يتعرض له الأفراد وعائلاتهم، وصعوبة الحصول على وظيفة أخرى.
أخيراً، يجب أن يكون القادة واضحين تمام الوضوح مع الموظفين بخصوص السلوك الذي لن يتسامحوا معه مطلقاً. فقد كشفت المقابلات التي أجريناها في سيمنز وإس إن سي لافالين أن التنفيذيين في هاتين الشركتين أخفقوا في رسم حدود واضحة بين الممارسات المقبولة والممارسات غير المقبولة لمندوبي المبيعات والشركاء التجاريين العاملين في الدول شديدة الفساد. أخبرنا أحد التنفيذيين في سيمنز إن الرسالة التي تلقاها الموظفون من مدرائهم كانت: "احصلوا على النشاط التجاري ولا نريد أن نعرف كيف حصلتم عليه".
في المقابل، لنأخذ على سبيل المثال الخطوات التي اتخذتها شركة كبيرة متخصصة بصناعة الأدوية شهدت عملية احتيال لتعبّر عن موقفها من هذا السلوك. فقد طلبت من كلية هارفارد للأعمال كتابة دراسة حالة حول الحادثة واستعملت تلك الحادثة في جلسات التدريب فيها لمساعدة كبارة المدراء في تشخيص أسباب المشكلة وممارسة العصف الذهني للعثور على طرق للحيلولة دون وقوع حوادث مستقبلية.
لا تحابوا أحداً
إذا ما أراد القادة أن يوضحوا للجميع أنهم يعنون ما يقولون عندما يصرّحون إنهم لن يتسامحوا مع السلوك غير المشروع، يجب عليهم الرد بحزم على الجرائم، وطرد جميع المرتكبين، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم بالتساوي. ومع ذلك فإن القصص المنقولة وبحثنا يظهرون أن العديد من القادة يخفقون في هذه المهمة.
سمحت سيمنز للمدراء الذين قُبض عليهم متلبّسين بالرشوة في إيطاليا بالتقاعد والحصول على كامل رواتبهم التقاعدية، ودفعت 1.6 مليون دولار على سبيل التسوية إلى المدير المالي المشرف على العقد المعني والذي غادرها. كما أسهمت حركة #أنا_أيضاً (#MeToo) التي سلطت الضوء على التحرش والاعتداءات التي تعرّضت لها النساء في كشف النقاب عن عدد هائل من الحالات التي سمح فيها قادة الشركات، وفي بعض الحالات مجالس الإدارة، لكبار التنفيذيين الذكور أن يبقوا في مناصبهم على الرغم من وجود مزاعم كثيرة أنهم قد أساؤوا إلى الموظفات.
وبغية دراسة ما إذا كان هذا النوع من التساهل شائعاً في عالم الأعمال، حللنا العقوبات التي أوقعتها الشركات بمرتكبي جرائم أصحاب الياقات البيضاء. استعملنا بيانات من استبيان بي دبليو سي الذي استقصى آراء الشركات بخصوص تجاربها مع الجريمة في 2011، بما في ذلك بيانات حول طبيعة الجنايات، والعقوبات، والخصائص السكانية للمرتكب الرئيس. من بين 3,877 شركة أجابت عن الاستبيان، أفادت 608 شركات عن اكتشاف جرائم ارتكبها أصحاب الياقات البيضاء ذلك العام. وعندما راجعنا أخطر الجرائم التي أفادت بها كل شركة، وجدنا أن 42% من المرتكبين الأساسيين كانوا قد طُردوا أو غادروا المؤسسة وواجهوا إجراءً قانونياً، و46% كانوا قد طُردوا ولم يواجهوا أي إجراء قانوني، و13% ظلوا في المؤسسة (مع نقل أو تحذير أو دونهما). يعكس هذا المعدل المتدني للإجراءات القانونية المتخذة بحق المرتكبين على الأغلب التحديات العملية لمقاضاة المجرمين من أصحاب الياقات البيضاء: فوجود برهان على أن الفرد قد ارتكب الفعل لا يكفي؛ بل يجب أن يكون هناك إثبات على أن الشخص كان ينوي ارتكاب الجناية أو كان يعلم بها مسبقاً. ونظراً للغرامات والمخاطر المحتملة التي تهدد سمعة شركة، فإن محاميِّها غالباً ما ينصحون التنفيذيين بطرد المرتكبين بصمت دون اللجوء إلى أي إجراء قانوني.
لكن التساهل في التعامل مع المرتكبين يبعث برسالة إلى المخالفين المحتملين مفادها أن الجريمة مربحة أو لا تنطوي على مخاطر، كما أنه يضر بمعنويات الموظفين الأمناء. في عدّة شركات ابتليت بالجريمة، عبّر الموظفون الذين أجرينا مقابلات معهم عن إحباطهم من عدم استعداد القيادة لديهم لإقالة كبار المدراء المتهمين بارتكاب التجاوزات؛ وقال الموظفون أن ذلك أضر بمعنوياتهم وقاد بعض الأشخاص إلى الاستقالة.
نتيجة مقلقة أخرى توصّل إليها بحثنا هي وجود عدم تكافؤ في إيقاع العقوبات. فقد كشفت تحليلنا لبيانات بي دبليو سي (بعد تحييد نوع الجريمة وحجمها) أن المدراء أو الموظفين الحديثي العهد كانوا أكثر ميلاً بنسبة 24% إلى مواجهة إجراء قانوني والطرد بالمقارنة مع المرتكبين من التنفيذيين الأقدم عهداً. وحتى عندما تشابهت الجرائم، كان التنفيذيون الأقدم عهداً أكثر ميلاً إلى تلقي إنذار أو أمر نقل داخلي في حين كان حديثو العهد من التنفيذيين عرضة أكثر للطرد.
المؤسف في الأمر هو أن القادة أكثر تردداً في طرد تنفيذي قديم العهد بسبب علاقته مع الزبائن أو جرّاء الاعتقاد السائد بصعوبة استبدال الخبرات الموجودة لدى ذلك الشخص. لكن نتائجنا المتعلقة بالطريقة التي تعامل بها المرأة مقارنة مع الرجل تشير إلى أن هذه ليست القصة الكاملة، وأن المحسوبية والمحاباة هما عاملان في غاية الأهمية. فالسيدات الأقدم عهداً، اللائي يُنظرُ إليهن على أنهن غريبات في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية للذكور وأقل ميلاً إلى امتلاك علاقات شخصية وثيقة مع صناع القرار الذكور الذين يقررون العقوبات، يؤدَّبن بشدة أكبر بالمقارنة مع الرجال الأقدم عهداً الذين ارتكبوا جرائم مشابهة من حيث النمط والحجم.
كما كانت الشركات التي تعمل في دول تعاني من عدم مساواة أكبر بين الجنسين في مكان العمل (مثل الهند، وتركيا، ودول الشرق الأوسط، وإندونيسيا، وإيطاليا) أكثر ميلاً إلى فرض عقوبات أقسى على النساء الأقدم عهداً بالمقارنة مع الرجال الأقدم عهداً. إضافة إلى ما سبق، وجدنا أن العقوبات كانت أقسى في حالة السيدات الأقدم عهداً في الشركات التي كانت أقل التزاماً بالضوابط الداخلية والتي فشلت في الإبلاغ عن الجرائم إلى الجهات الناظمة، الأمر الذي سهّل التجاوب مع هذه الجرائم بطريقة غير متسقة.
يتمثل الحل الواضح في وضع سياسة لمعاقبة الجميع بالتساوي وتطبيقها بصرامة. هذا ما فعله إيريك أوسموندسين في شركة نورسك ينفينينغ، وهي شركة لإدارة النفايات وإعادة التدوير في النرويج. فبعد وقت قصير من تعيينه كرئيس تنفيذي في 2012، شرع في التخلص من الاحتيال والسرقة والفساد المستشريين في الشركة. أوجد إيريك مجموعة من القيم التي شملت التصرف كرائد أعمال مسؤول – أي لا يفعل الأشياء إلا كما يجب ودون أي اجتزاء – والعمل بروح الجماعة، والتعاون مع الجميع سواء داخل الشركة أو في المجتمع. تُرجِمت القيم إلى مدونات سلوك محددة لكل وظيفة، وكان على كل موظف أن يلتزم بها ويتّبعها. ثم طبقت الشركة فترة عفو عام امتدت على مدار أربعة أسابيع، كان بوسع الموظفين خلالها الاعتراف بأي تجاوزات ارتكبوها أو كانوا شهوداً عليها. بعد ذلك، لم يُسامح أي أحد على أي تجاوز مهما كان. غادر ما يقارب 170 من مدراء التشغيل والتوظيف – أي نصف العدد الإجمالي تقريباً – الشركة على مدار الأشهر الثمانية عشر التالية. اختارت الغالبية العظمى منهم الاستقالة؛ بينما طُردت حفنة منهم من مناصبهم.
عيّنوا قادة من أصحاب السجلات النظيفة
بغية تغيير الثقافة في شركة ابتليت بالجريمة التي تنخرها، أنتم بحاجة إلى الاستعانة بقادة جدد ذوي سمعة عطرة ويتصفون بالنزاهة. وإذا كان القطاع بحد ذاته منخوراً بالفساد، قد تقتضي الضرورة تعيين تنفيذيين من قطاعات أخرى، يمتلكون منظوراً مختلفاً، وأكثر ميلاً إلى إحداث هزّة في الواقع الراهن.
استبدلت سيمنز، كلاوس كلاينفيلد، الذي تنحى من منصبه كرئيس تنفيذي خلال التحقيق بقضية الرشوة، بيتر لويشر، التنفيذي القادم إليها من قطاع صناعة الأدوية. كان أحد العوامل الرئيسة وراء تعيين لويشر، كما ذُكِر في البيان الصحفي (في تصرف نادر في مثل هذه الإعلانات) هو "شخصيته المستقيمة". وبما أن لويشر كان يدرك التحديات التي سيواجهها في تغيير الثقافة السائدة في سيمنز، فقد استعان بعدد من المدراء التنفيذيين القادمين من الخارج والذين سبق له أن عمل معهم وكان يعرف مدى نزاهتهم الكبيرة. شملت القائمة كلاً من آندرياس بولمان الذي عيّن في منصب مدير الامتثال وبيتر سولمسين الذي عيّن مستشاراً عامّاً وعضواً في مجلس إدارة. وقد أدى الرجلان، إلى جانب باربرا كوكس، التي جاءت لتشغل منصب مديرة الاستدامة وعضوة مجلس الإدارة، دوراً حاسماً في وضع خطة لمعالجة المشاكل في الشركة وإصلاح ثقافتها.
بما أن مشاكل شركة نورسك ينفينينغ كانت متفشية في قطاع إدارة النفايات، فقد اختار أوسموندسين تعيين دماء جديدة من خارجه (من شركات مواد البناء، والألومنيوم، وتجارة التجزئة، والنفط والغاز، والمشروبات الغازية). اقنع الناس بالانضمام إلى نورسك ينفينينغ معتمداً على رؤيته بتحويل المؤسسة إلى شركة خضراء قادرة من خلال استعمال المقاربات المبتكرة في إدارة النفايات على أداء دور مهم في تعزيز الاستدامة البيئية. على المدى القصير، أضر دوران الموظفين بالأداء المالي للشركة. ولكن في غضون ثلاثة أعوام، تعافت مالياً وأصبحت في موقع جيد يسمح لها بتحقيق نمو أكثر ربحية.
اشترطوا على الموظفين اتخاذ القرارات الصعبة ضمن مجموعات
عندما رسخت شركة ستاتأويل (Statoil) النرويجية للطاقة (أعيدت تسميتها مؤخراً لتصبح إيكوينور (Equinor)) حضورها الكبير في سوق أنغولا، أدرك التنفيذيون فيها ومجلس إدارتها أن موظفيها سيواجهون ضغطاً لدفع الرشى هناك. (كانت منظمة الشفافية الدولية قد صنفت أنغولا على أنها واحدة من أكثر الدول فساداً). وللتقليل من احتمال رضوخ الموظفين، أمرهم قادة الشركة باتخاذ القرارات ضمن مجموعات. كان ذلك نتيجة مباشرة لتجارب ستاتأويل في إيران. ففي العام 2004 كانت الشركة قد وافقت على دفع غرامات في النرويج، وفعلت الشيء ذاته في الولايات المتحدة الأميركية في 2006. وكان السبب وراء ذلك هو تقديم رشوة إلى مسؤول حكومي لضمان الحصول على عقد في إيران (رغم أن الشركة لم تعترف بالذنب أو تنكره). أخبرنا أحد كبار التنفيذيين أن واحداً من الدروس المستفادة من تلك الفضيحة هو أن الموظفين كانوا أكثر ميلاً إلى اتخاذ القرارات الأسهل والأرخص وإلى ارتكاب الأخطاء عندما كانوا يتخذونها بمفردهم.
يحتاج اتخاذ قرار صعب ضمن مجموعة إلى خوض الموظفين لنقاشات منفتحة وصادقة، وهو شيء لا يحصل تلقائياً. إذ يجب أن يثق الموظفون أن أعضاء المجموعة الآخرين ملتزمون بسماع آرائهم وتقديرها، وأن قادة الشركة سيدعمون قرارات المجموعة، حتى لو كان سيترتب عليها تبعات مالية وخيمة. فإذا لم يكن القادة مُلهِمين وينشرون جو الثقة ذاك، فإن مجرّد تفويض عملية اتخاذ القرارات إلى المجموعات لن يحل المشكلة على الأغلب. أظهر بحث لزميلتنا في هارفارد إيمي إدموندسن أن توفير مناخ من الأمن النفسي يستدعي وجود قيادة قوية. يجب على القادة أن ينشطوا في الترويج للسلوكيات التي يتوقعون من الناس في أرجاء المؤسسة تبنّيها، عبر أشياء من قبيل إبداء إمكانية طرح أسئلة صعبة والتعبير عن آراء مختلفة، وتمكين الموظفين العاملين على الخطوط الأمامية من الحديث بصراحة مع رؤسائهم بخصوص الإشارات التي تدل على متاعب محتملة، واستعمال أسلوب المصارحة بخصوص الأخطاء التي ارتكبتها الشركة في الماضي ومناقشتها علناً، والإقرار بجهلهم بموضوع أو خبرة معينة.
عندما كانت جرائم التنفيذيين الأقدم عهداً والتنفيذيين الأحدث عهداً متشابهة، كان الأرجح هو حصول الأوائل على إنذار أو أمر نقل داخلي، بينما كان الأرجح هو طرد اللاحقين من وظائفهم.
كونوا مضرِب المثل في الشفافية
بعد توجيه تهمة تقديم رشى إلى ستاتأويل، قررت هيلغي لوند رئيستها التنفيذية آنذاك أن الشركة ستكون أول شركة في قطاع الصناعات الاستخراجية تُفصحُ علناً عن المدفوعات التي قدمتها إلى حكومات أجنبية للوصول إلى الموارد الطبيعية للدول – وهي ممارسة كانت الجهات الناظمة والمجموعات المدافعة عن مصالح عامّة الناس تطالب بها منذ أمد بعيد. بعث القرار برسالة قوية إلى الموظفين مفادها أن الطرق القديمة في العمل لم تعد مقبولة بعد الآن.
تعتبرُ المؤسسات الداعمة التي تحقق في الفساد وتعلن نتائج تحقيقاتها طريقة أخرى يمكن للقادة استعمالها ليُظهروا للموظفين أنهم جادون في ممارسة النشاط التجاري بطريقة أخلاقية. يروج عمل هذه المؤسسات للمنافسة العادلة، ويزيد من ثقة عامة الناس أن الجرائم التجارية تكتشف ويُعاقب مرتكبوها؛ وبما أنها تقلل من الفساد، فإنها بذلك تحفز التنمية الاقتصادية.
أصبحت ستاتأويل واحداً من الأعضاء الأساسيين في مبادرة الشفافية في قطاع الصناعات الاستخراجية، التي تهدف إلى لم شمل الشركات والحكومات والمنظمات غير الحكومية وتوحيد جهودها بهدف التقليل من الفساد في الدول الغنية بالموارد، وزيادة الشفافية في المدفوعات المقدمة إلى شركات النفط والغاز والتعدين فيها. مع مرور الوقت، تزايدت أعداد المشاركين في المبادرة زيادة مضطردة، وفي حين أن التقارير المبكرة للمبادرة وفرت معلومات مجمعة حول مدفوعات الشركات وإيراداتها من البلدان، إلا أن التقارير الحديثة باتت تشمل وبانتظام إفصاحات مفصلة من الشركات حول مدفوعاتها. يبدو أن التحرك الجماعي يدفع الأمور في الاتجاه الصحيح، إذ تشير أبحاثنا التجريبية التي اعتمدت على تحليل بيانات من أكثر من 186 بلداً على مدار عشر سنوات إلى أن الدول التي تغطيها تقارير مبادرة الشفافية في قطاع الصناعات الاستخراجية شهدت تراجعاً كبيراً في الفساد، ولاسيما الدول التي انطلقت من مستويات مرتفعة من الفساد.
تسهم الصحافة الحرة المهنية في التقليل من معدلات الفساد. وبوسع قادة الأعمال الجادين في مكافحة الجريمة دعم الصحفيين ويجب عليهم فعل ذلك.
في سيمنز، تواصل لويشر وسولمسين مع المنافسين والحكومات والمنظمات غير الحكومية، وغير ذلك من مجموعات الجهات المعنية من أجل شرح أهمية إجراء إصلاحات أوسع نطاقاً. في 2009، وكجزء من التسوية التي عقدت بين سيمنز والبنك الدولي لطي صفحة سوء سلوكها في الماضي، وافقت الشركة على إنفاق 100 مليون دولار على مدار 15 عاماً لدعم المؤسسات والمشاريع التي تحارب الفساد من خلال العمل الجماعي والتعليم والتدريب. بحلول نهاية 2017، كانت قد قدّمت منحاً بقيمة 73 مليون دولار إلى 55 مشروعاً. إضافة إلى ذلك، أصبحت سيمنز عضواً في مبادرة الشراكة ضد الفساد التابعة للمنتدى الاقتصادي العالمي، التي تضم 87 شركة رئيسة. وينشط كل من منظمة الشفافية الدولية والبنك الدولي (الذي أنشأ برنامجاً لمحاربة الفساد في 1996) في تثقيف الشركات وعامة الناس وإمدادهم بالمعلومات. وتدعم هاتان المنظمتان الأبحاث الخاصة بالفساد وتضعان تصنيفاً للدول بحسب مدركات مدى انتشار الفساد في قطاعها العام.
ثمة مؤسسة أخرى تؤدي دوراً مهماً ألا وهي وسائل الإعلام. فقد بدأت منظمات أصغر حجماً تنشر تقارير حول الفساد بالظهور إلى جانب وسائل الإعلام الرئيسة. فعلى سبيل المثال، تنشر مدونة قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة في أميركا الأخبار والتعليقات ونتائج الأبحاث لمساعدة المختصين بالامتثال، وقادة الشركات، وغيرهم من الناس على فهم آلية عمل قوانين مكافحة الفساد، وكيف ينشأ الفساد، وكيف يؤثر على الموظفين والمؤسسات. وفي روسيا، يدير أليكسي نافالني مؤسسة روسبيل (RosPil) التي لا تتوخى الربح وهي تضم مجموعة صغيرة من المحامين الذين يحققون في حوادث الفساد المحتملة ويبلغون عنها. وفي الهند، أنشأ راميش وسواتي رامانتان موقعاً على الإنترنت بعنوان (ipaidabribe.com) لتوفير منصة للناس للإبلاغ عن الحالات التي طُلِب منهم فيها دفع رشوة.
يؤكد بحث لآيمو برونتي من جامعة بيرن وبياتريس فيدير من معهد جنيف للدراسات العليا ما هو متوقع، من أن الصحافة الحرة المهنية تقلل حجم الفساد. لكن حرية الصحافة معرضة للهجوم، إذ لم تعد العدوانية تجاه وسائل الإعلام تقتصر على دول معينة؛ بل اتسعت لتشمل الأمم الديموقراطية التي شهدت تصاعداً في الجهود الرامية إلى تهديد وسائل الإعلام ونزع الشرعية عنها، بحسب ما أشارت إليه منظمة "مراسلون بلا حدود"، وهي مؤسسة غير حكومية تنشر المؤشر العالمي السنوي لحرية الصحافة. وبوسع قادة قطاع الأعمال الجادين في مكافحة الفساد دعم الصحفيين ويجب عليهم ذلك أصلاً من خلال الاعتراف بمشروعيتهم والدفاع عنهم عندما يتعرضون للهجوم.
لا شك أن الأخطاء سترتكب في المؤسسات الكبيرة. فالعالم مكان مفعم بالفوضى، والإنسان أبعد ما يكون عن الكمال. لكن عندما يُنشئ القادة ثقافة تشجع الموظفين على التصرّف بطرق أخلاقية وقانونية، فإنهم يقللون إلى الحد الأدنى من احتمال أن تعصف فضيحة ما بشركتهم، ويزيدون من قدرتها على التعافي من أي أفعال غير مشروعة ترتكب. وإذا ما أراد القادة ضبط الإيقاع في مؤسساتهم، يجب عليهم أن يكونوا مضرِب المثل بالالتزام بالمعايير الرفيعة في حياتهم المهنية والشخصية.
لازال عدد كبير من القادة يفشلون في الاستمرار في التأكيد على أهمية النزاهة المؤسسية. وهم إما لا يستثمرون بما يكفي في أنظمة الامتثال، أو يتبنون ذهنية المعاملات الورقية الشكلية في إدارة المخاطر ويوكلون المسؤولية إلى المحامين والمحاسبين. كما تخضع إشارات التحذير الواردة إلى التجاهل. وعندما يُفتضح أمر الجرائم، تعالج بصمت وبطريقة غير متكافئة. ويبرر هؤلاء القادة سلوكهم بالقول: "الفساد هو مشكلة تعصف بقطاعنا وبالتالي نحن لا نستطيع إصلاحها"، أو "هذه هي الطريقة التي تمارس بها الأنشطة التجارية في هذه البلدان"، أو "ليس بوسعنا خسارة هذه الأنشطة التجارية".
وفي المقابل، هناك قادة آخرون يعمل العديد منهم في دول تتسم بمخاطر عالية أو في قطاعات يشوبها الغموض، وهم يضربون مثالاً يُحتذى في الالتزام بالمعايير الرفيعة وفي وضع ما يدعون إليه موضع التطبيق. فهم لا ينشئون أنظمة قوية للامتثال فحسب؛ وإنما يدعمون أيضاً برامج التدريب، وأنظمة الآراء التقويمية الخاصة بالأداء، وبرامج حماية المبلغين عن المخالفات؛ ويوجِدون بيئة توفر الأمان النفسي للأشخاص الذين يريدون كشف الأخطاء المرتكبة؛ ويتعاونون مع أقرانهم في القطاع لمحاربة الفساد معاً. يشير بحثنا إلى أن المؤسسات التي تضم هذا النوع من القادة لا تدفع ثمناً باهظاً نظير نزاهتها. ورغم أنها قد لا تنمو بذات السرعة التي تنمو بها نظيراتها الأقل التزاماً بيقظة الضمير، إلا أن نموها مربح أكثر.
ثم هناك المنافع التي لا تناقش على نطاق واسع. فالعديد من الموظفين الذين يختارون العمل مع شركات شديدة النزاهة في دول وقطاعات عالية الخطورة أخبرونا أنهم فعلوا ذلك بسبب قيم هذه الشركات. بل ذهب بعضهم إلى إخبارنا أنهم قبلوا رواتب أدنى من أصحاب العمل هؤلاء. وهذه الشركات وقادتها يحظون باحترام زبائنهم، ومجتمعاتهم، والهيئات الناظمة. وهم أكثر ميلاً إلى الازدهار والديمومة.