"احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود"، مقولة شعبية فيها حكم وعبر من الثقافة الاقتصادية والمالية. وتتعاظم أهمية هذا المثال في ظل التغيرات التي مر بها العالم مؤخراً من أزمات مالية، وجائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا وتبعاتها، ما أدّى إلى تغير نمط الاستهلاك وارتفاع الأسعار
فالادخار من أبسط طرق التخطيط المالي الشخصي الذي من شأنه أن يوفر جزءاً من الحماية للفرد من التغيرات المستقبلية غير المتوقعة كانخفاض الدخل وارتفاع الأسعار.
من النصائح المالية المتعلقة بالتخطيط المالي، أن يتوفر في حسابك البنكي مبلغاً من المال يكفيك لمدة ثلاثة أشهر على الأقل لتغطية نفقاتك في حال فقدان وظيفتك أو حدوث تغيرات اقتصادية أو مالية تتطلب تكاليف إضافية لم تكن في الحسبان. لكن، وبالنظر إلى الواقع، نجد أن هنالك تحدياً في قدرة الأفراد على الادخار. فغالباً ما يلجأ الفرد إلى الادخار عند اقترابه من رحلة التقاعد أو بسبب حدوث تغيرات اقتصادية فجائية تجبره على الادخار والتخطيط المالي لتأمين حياة كريمة له ولأسرته. ونذكر هنا على سبيل المثال تباين نسبة التوفير الشخصي في الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 2020 و2021، فقد ارتفعت بصورة كبيرة في عام 2020 لتصل إلى 16.3% (في أوج الجائحة) ومن ثم انخفضت مرة أخرى في عام 2021 إلى 11.9%.
ولفهم دوافع ومسببات سلوك الادخار والاستهلاك سنستخدم نموذج بي كوم B-COM لتحليل السلوك، وهو مبني على أن قيام الفرد بأي سلوك يتأثر بثلاثة عوامل:
1. عامل القدرة :
يمثل مدى قدرة الفرد على القيام بسلوك معين بالنظر إلى قدراته الشخصية. وتقسَم القدرات إلى: قدرات جسدية، وقدرات إدراكية كالمعرفة والانتباه واتخاذ القرارات، والقدرة على الامتناع عن سلوك ما.
2. عامل البيئة الخارجية:
تتعلق البيئة الخارجية بالسياق الذي يعيش فيه الفرد والذي من الممكن أن يحفزه أو يمنعه من القيام بسلوك ما. وقد يتمثل ذلك بتوافر الوقت والمال، أو تصميم البيئة المادية التي قد تحول دون قيام الفرد بسلوك ما مثل عدم تواجد أماكن مخصصة للمشاة، ولذلك تصعب ممارسة رياضة المشي مثلاً، أو البيئة الاجتماعية، وتتجلى بدعم سلوك الفرد من قبل معارفه وأصدقائه والمجتمع الذي ينتمي إليه.
3. عامل التحفيز :
ينقسم التحفيز إلى نوعين: تأملي وتلقائي. يركز الأول على التحفيز الذي يتطلب تفكيراً مدروساً مثل هوية الفرد ومنظوره نحو قدراته للقيام بالسلوك وعواقب عدم القيام به. أما الثاني فيتعلق بالأمور التي لا تتطلب تفكيراً مدروساً وتحدث تلقائياً مثل العاطفة أو العادات.
عند تطبيق النموذج على موضوع الادخار وضبط الإنفاق قد نرى التالي:
- قد لا نجد تحدياً كبيراً في موضوع التحفيز وذلك لأن تحفيز الفرد على الادخار قد يتم بسهولة من خلال استخدام عنصر الهوية، أي من خلال ربط الادخار بمستقبل عائلة الفرد وأطفاله، أو من خلال استخدام فكرة الخوف من العواقب إذ إن عدم الادخار قد يضع الفرد في مواجهة تحديات مالية مستقبلية. وبصورة أو بأخرى، من منا لا يريد تأمين مستقبله المالي؟
- التحدي الأكبر قد يبرز في البيئة الخارجية وبالأخص في البيئة الاجتماعية، حيث يتأثر الفرد بما يفعله أفراد مجتمعه بصورة كبيرة. وتُعد سلوكيات المجتمع مؤشراً لما هو مقبول ورائج، وتزداد أهمية البيئة الاجتماعية حين يعيش الفرد في مجتمع يدفعه للاستهلاك المستمر سواء من خلال ما يستهلكه أقرانه أو من خلال ما يشاهده في شبكات التواصل الاجتماعي.
إلى جانب ذلك، فإن صعوبة ملاحظة سلوك الادخار وما يقابله من سهولة ملاحظة سلوك الاستهلاك قد يزيد من تحدي تغيير سلوك الفرد نحو الادخار، فعند مقارنة سلوك الاستهلاك بسلوك الادخار نرى بأن سلوك الاستهلاك ظاهر بصورة ملحوظة، فعند شراء جارك لمركبة جديدة ستلاحظ ذلك بلا شك، ولكن عندما يقوم بالادخار فهذا سلوك لن تراه مباشرة وبالتالي من الصعب أن تتأثر به.
من العوامل المتعلقة بالبيئة الخارجية أيضاً ما يرتبط بالمؤثرات السلوكية التي قد تؤثر على الفرد في عملية الشراء. فقد لوحظ بأن الفرد يتأثر بنوع الموسيقى التي تبث في المحل، فقد يفضل منتجات دول محددة إذا ما كانت الموسيقى من نفس الدولة، وقد تؤثر الموسيقى في الوقت الذي يقضيه الفرد في التسوق، كما لوحظ أيضاً تأثر المستهلكين بكمية الكافئين المستهلكة قبل عملية التسوق؛ ففي تجربة فريدة وجد الباحثون ازدياد مشتريات الأفراد الذين احتسوا كوباً من القهوة قبل عملية التسوق.
- بالنسبة لعامل القدرة فإن التحدي يكمن في جانبين:
أولاً: عدم معرفة وإلمام الفرد بسبل الادخار وتقليل الاستهلاك.
ثانياً: قدرة الفرد الإدراكية في اتخاذ القرار وتأثره بما يسمى المحاسبة الذهنية، وهي طريقة نظرة الفرد للمال. فعلى سبيل المثال، لوحظت زيادة كمية مشتريات الأفراد عند الدفع باستخدام البطاقات الائتمانية وذلك لوجود بُعد زمني بين عملية الشراء وعملية الدفع وبالتالي لا يشعر الفرد بوجع صرف المال.
ومن الأمثلة الأخرى على المحاسبة الذهنية تعريف الفرد للدخل. فعند استلام الأخير راتبه الشهري، قد يكون حذراً في إنفاقه وذلك لتغطية احتياجاته الأساسية، ولكن في حال حصوله على نفس المبلغ ولكن كمكافأة مالية صرفت له، فقد يتم صرف المبلغ على أشياء كمالية وليست أساسية كالسفر أو شراء منتجات غير ضرورية. وبالتالي، فإن طريقة تعريف الدخل تؤثر في طريقة استهلاكه.
ومن التحديات الإدراكية الأخرى التي قد تؤثر على قدرة الفرد في اتخاذ قرارات مالية صحيحة طريقة عرض المعلومات. فعلى سبيل المثال، تقديم المعلومات المتعلقة بالقروض المالية بطريقة يصعب على الفرد فهمها وذلك لتعدد وتنوع المعلومات وتعقيدها، تجعل اتخاذ القرار بهذا الخصوص صعباً، وحتى مستحيلاً في بعض الحالات
ماذا عن الحلول الحالية؟
عندما ننظر إلى الحلول التقليدية المقترحة في ما يخص الادخار وضبط المصاريف، نرى توجهاً كبيراً نحو ضرورة توفير دورات تدريبية وورش عمل تختص بتثقيف الأفراد حول التخطيط المالي السليم وتقديمه لمختلف الفئات ومع تقديرنا لأهمية المعرفة في التخطيط المالي، إلا أن أثرها في تغيير السلوك المالي للأفراد دون المستوى المأمول منه، فقد وجدت دراسة قام بها دانيال فيرنانديز (Daniel Fernandes) وجون لينش (John G. Lynch) ووريتشارد نيتيمير (Richard G. Netemeyer) في عام 2014 أن تأثير الدورات التدريبية المتعلقة بالتخطيط المالي لا يتجاوز 0.1% من تغيير سلوك الأفراد المالي، وذلك لعدة أسباب، منها أن تأثير التعليم قد يضعف بعد فترة من الزمن إذا لم يتم تطبيق المادة التعليمية على أرض الواقع، هذا بالإضافة إلى طريقة تقديم المادة العلمية، فإذا كان الأسلوب معقداً، يصعب على المتلقي فهمها وتفعيلها فيما بعد.
كما قد تلجأ بعض الجهات إلى تشجيع الأفراد على إعداد ميزانية شهرية لضبط المصاريف. وبالفعل، قد تساعد الميزانية في تقنين المصاريف إلى حد ما. إنما يظهر لنا تحدٍ آخر وهو التزام الأفراد بمتابعة وتسجيل مصاريفهم لفترة طويلة، فعملية التسجيل والمتابعة قد تتطلب جهداً فكرياً وإدراكياً للبعض، وقد تتسبب في ترك إعداد الميزانية نهائياً، ناهيك عن الفهم الخاطئ للبعض عن طريقة إعداد ومتابعة الميزانية.فعلى سبيل المثال، قد يتم تكييف الميزانية الشهرية مع طبيعة الصرف الحالية دون وضع أهداف مالية لتقليل بعض بنود الصرف، وبالتالي، قد لا تساعد الميزانية على تقليل المصاريف، وذلك لأنها مجرد أداة لتوثيق مستوى الصرف الحالي بدون تغيير نمطه.
حلول مختلفة
لتقديم حلول أفضل، يجب علينا أن نعي العوائق السلوكية التي تحد من قدرة الفرد على الادخار وتقليل الاستهلاك. ومن ثم، نضع حلولاً مصممة خصيصاً لمعالجة تلك العوائق. فعلى سبيل المثال، تغيير طريقة تقديم دورات الثقافة المالية لتُقدَّم في الوقت المناسب وللفئة التي قد تحتاجها؛ فقد تقدم هذه الدورات للأشخاص المقبلين على قروض مالية ضرورية أو لفئات الأفراد من ذوي الدخل المنخفض، أو للذين بدؤوا أول سلمهم الوظيفي أو المقبلين على التقاعد. الفكرة الأساسية هنا أن حاجة الأفراد للتخطيط المالي قد ترتبط بوقت محدد ومن الممكن استغلال ذلك لمصلحتهم.
من الممكن أيضاً تحسين قدرة الفرد على اتخاذ قرارات مالية أفضل من خلال تقديم المعلومات لهم بطريقة أسهل، وقد يتعلق ذلك بالأمور المرتبطة بالاقتراض أو شراء المنتجات. فعلى سبيل المثال، من الممكن توفير معلومات تساعد الفرد في اختيار القرض المثالي مع الكلفة المناسبة من خلال توفير معلومات للمقارنة وبطريقة مبسطة للاستيعاب، أو مقارنة تكلفة بعض المنتجات على المدى الطويل، فقد يتم عرض تكلفة المركبة بطريقة تظهر طبيعة مصاريف الصيانة والوقود في السنوات القادمة.
هذا بالإضافة إلى تسخير تطبيقات الهاتف الذكي المدعوم بالذكاء الاصطناعي لتقليل الجهد المبذول من الفرد لمتابعة مصاريفه، وذلك من خلال ربط التطبيق بالحساب البنكي وتسجيل المعلومات المالية المتعلقة بالميزانية تلقائياً، واستخدام التطبيق لأساليب سلوكية لتحفيز الفرد للالتزام مثل وضع ومتابعة الأهداف، والمنافسة بين مستخدمي التطبيق، والتذكير بضرورة الادخار في أوقات محددة مثل وقت استلام الراتب الشهري.
قد لا تشكل هذه الاقتراحات حلول جذرية، ولكن من شأنها أن تعزز الجهود الأخرى في تحسين الادخار وتقنين الإنفاق، حيث سنتمكن من تحسين وتغيير السلوك إذا ما تمكنّا من فهم مسببات السلوك بطريقة واقعية أفضل من خلال استخدام علم السلوك.