ملخص: يحقق العمل المرن فوائد كثيرة، ولكن يصعب قياس الأداء وتتبعه فيه؛ إذ تعتمد أساليب القياس التقليدية على افتراض أن الموظفين يؤدون العمل في المقر المكتبي ضمن أوقات العمل المعتادة. إن لم تتح الشركات الشفافية التي يحتاج إليها الموظفون فستضيّع الفرص المهمة لتقديم التدريب المهني لهم وتحسين سير العمل والاستثمار في التكنولوجيات الجديدة المهمة، وإن لم يتمتع الموظفون بالمرونة التي يحتاجون إليها فسيخسرون ثقتهم بقادتهم وسيتنامى شعورهم بالاستياء من انعدام الاستقلالية وسينفصلون ذهنياً عن العمل. تستند مؤلفة هذا المقال إلى بيانات أنشطة سير العمل التي جمعتها على مدى عامين كاملين مما يربو على 50 ألف موظف بهدف استكشاف الطرق التي يمكن أن يتبعها قادة اليوم لفهم هذه الديناميات المترابطة وتحديد أشكال المرونة والشفافية المناسبة واستخدامها في تمكين فرقهم والعمل على النحو الذي يحقق أكبر قدر من الفعالية.
وفقاً لدراسة استقصائية أجريت مؤخراً على أكثر من 32 ألف موظف من 17 دولة، سيفكر نحو ثلثي القوة العاملة اليوم بالبحث عن وظيفة جديدة في حال مطالبتهم بالعودة إلى العمل من المقر المكتبي بدوام كامل. واستجابة لهذا الطلب المتنامي على المرونة عمدت مؤسسات كثيرة إلى تبني طرق عمل جديدة، ولكنها لا تملك رؤية واضحة دائماً عن الطرق التي تتيح لها منح الموظفين المرونة التي يرغبون فيها ويحتاجون إليها مع ضمان تحقيق أهدافها التجارية في آن معاً.
ولكن من الصعب قياس الأداء وتتبعه في ترتيبات العمل المرن؛ إذ تعتمد أساليب القياس التقليدية غالباً على افتراض أن الموظفين يؤدون القسم الأكبر من العمل في المقر المكتبي ضمن أوقات العمل المعتادة. لذلك يتعين على القادة إعادة النظر في أنواع الشفافية التي يجب أن توفرها المؤسسة لموظفيها ضماناً لنجاح العمل المرن والمؤسسة في آن معاً.
بصفتي قائدة فريق "مختبر الإنتاجية" (Productivity Lab) في شركة تحليلات القوى العاملة آكتف تراك (ActivTrak) فقد قضيت أنا وفريقي وقتاً كبيراً في إجراء الأبحاث للتوصل إلى إجابة لهذه المسألة. أجرينا تحليلات على بيانات استخدام التطبيقات الرقمية والتنقل بين المهام وغيرها من العوامل التي يمكن أن تؤثر في الإنتاجية، وأخذنا هذه البيانات مما يربو على 50 ألف موظف على مدى أكثر من عامين، وتوصلنا من خلال هذه التحليلات إلى فهم أدق لطرق تعامل الفِرق مع التحديات في نموذج العمل الهجين واستجابتهم لها وتحديد أفضل الممارسات التي ستفيد الجميع.
للمرونة عدة أنواع
كي تضمن المؤسسة رفع مستوى الإنتاجية وتحقيق الأهداف التجارية وتلبية احتياجات القوة العاملة، يتعين عليها توفير الشفافية لقوتها العاملة، ولكنها ستتحدد طريقة الحفاظ على هذه الشفافية بناء على نوع المرونة التي تنوي تطبيقها، وبالتالي فإن الخطوة الأولى في تطوير ممارسات الشفافية الفعالة تتمثل في تحديد نوع العمل المرن الأنسب لمؤسستك، واستطعت من خلال بحثي تحديد بعض أنواع المرونة الشائعة:
- المرونة الشاملة: حيث يتم تحديد أيام العمل من المقر المكتبي وأيام العمل عن بعد وتثبيتها لجميع الموظفين في المؤسسة بأكملها
- المرونة المتغيرة: حيث يحدد كل فريق جدول عمله الذي يختلف عن جداول عمل الفرق الأخرى
- المرونة المخصصة لكل حالة: حيث يحدد الأفراد جداول عملهم بأنفسهم ويعملون وفقاً لها
- المرونة الكاملة: حيث يعمل الأفراد من أي مكان وفي أي وقت يرغبون من دون أي قيود فيما يتعلق بالموقع
عندما يحدد القادة بوضوح نوع المرونة التي ينوون توفيرها سيصبح بإمكانهم نقل تركيزهم نحو فهم طرق العمل التي يتبعها الموظفون ضمن هذا النموذج وما يتطلبه دعمهم بفعالية في شروط العمل المرنة الجديدة.
تختلف احتياجات الشفافية من موظف إلى آخر
يجب أن تبدأ الشركة من إدراك أن المسؤولين التنفيذيين والمدراء والمساهمين الفرديين جميعهم يحتاجون إلى الشفافية في عملهم اليومي كي يتمكنوا من أداء وظائفهم بفعالية، ولكن تتنوع أنواع الشفافية التي يحتاج إليها كل منهم بدرجة كبيرة. عند تنفيذ السياسات والقواعد الاجتماعية الجديدة المتعلقة بالشفافية، من الضروري تفادي الحلول الشاملة التي من الممكن أن تبدو أنها مبالغ فيها أو غير ملائمة لجميع الأفراد المعنيين، لأنها ستؤدي إلى تقويض الثقة. تختلف متطلبات الشفافية المحددة بين المؤسسات بالتأكيد، ولكن عموماً تمكنت من خلال البحث الذي أجريته مع فريقي من تحديد الاحتياجات الشائعة التالية:
يحتاج كبار القادة إلى الشفافية من أجل ضمان المواءمة الاستراتيجية والتعاون الفعال والتنسيق بين أقسام المؤسسة، فإلى جانب إدارة العمليات التجارية يحمل هؤلاء القادة مسؤولية ضمان أن تبقى مستويات اندماج الموظفين ورفاهتهم صحية ومستدامة، وبالتالي فهم يحتاجون عادة إلى إمكانية الوصول إلى بيانات مثل مؤشرات الاحتراق الوظيفي ومشتتات الانتباه وتوزيع أعباء العمل على الفرق. مثلاً، عندما يسمع القائد من موظفيه مخاوف حول معاناتهم الإرهاق يكون من الصعب عليه معرفة ما إن كانت هذه المشكلة شاملة لموظفي المؤسسة بأكملها أو أنها خاصة بموظفي أقسام محددة أو محصورة ببعض الموظفين فقط كالموظفين الجدد أو المدراء المخضرمين. يمكن أن يستعين القادة بالبيانات من أجل تحديد من يحتاج إلى المساعدة وسرعة انتشار المشكلة والحالات ذات الأولوية التي تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة.
في حين أن مدراء المستوى المتوسط يحتاجون إلى شفافية تفصيلية أكثر، فهم في موقع مميز يخولهم دعم إنتاجية الفرق والمرؤوسين المباشرين الأفراد عن طريق تقديم التدريب المهني في مسائل مثل عدم القدرة على التركيز والإرهاق الناجم عن العمل التعاوني والأعمال الروتينية اليومية وممارسات الإجازات، كما أنهم مسؤولون عن تحديد فرص التدريب ومطابقة طاقة الموظفين الإنتاجية وقدراتهم مع المهام والأدوار الأنسب لهم وإدارة نطاقها ومستويات استخدامها. وكي يتمكن المدراء من معرفة أهم الاحتياجات الملحة يتعين عليهم القيام بكل هذه الإجراءات على نحو مستمر وعدم الاكتفاء بالاجتماعات الفردية التي يعقدونها مع موظفيهم كل أسبوع أو أسبوعين، ولذلك يكون من الضروري أن يتمكنوا من رؤية عمل الموظفين بمستوى أعمق من الشفافية.
ولدى المساهمين الفرديين احتياجات فيما يتعلق بالشفافية أيضاً، ويمكن أن يسبب الانتقال إلى العمل المرن صعوبة في تلبيتها؛ في شروط العمل التقليدية ضمن المقر المكتبي مثلاً، يعتمد الموظفون على الإشارات المرئية المباشرة مثل لغة الجسد، أو استخدام السماعات الذي قد يدل على انشغال الشخص أو إمكانية مقاطعته، في حين يفتقر الموظف الذي يعمل عن بعد إلى هذه الإشارات، وبالتالي تزداد احتمالات أن يقاطع زملاءه من دون قصد وأن يفوت فرص التعاون معهم. سيتمكن الموظف من التواصل مع زملائه والتعاون معهم بفعالية أكبر إذا أتيح له الاطلاع على الأوقات التي يخصصونها للعمل المركز وتفضيلاتهم في ترتيب جداول عملهم.
عندما تحدد أنواع الشفافية المناسبة لأصحاب المصالح على اختلافهم ستتمكن من العودة إلى العمل على تحديد أنواع البيانات التي يتعين عليك جمعها. مثلاً، من أجل فهم العوامل التي تثبط الإنتاجية مثل الإرهاق أو عدم القدرة على التركيز أو انعدام التوافق بين أوقات الموظفين في مشاريع العمل التعاوني، يتمثل أكثر إجراء منطقي في جمع البيانات بالتركيز على إجمالي وقت العمل وعدد مرات التنقل بين المهام واستخدام أدوات التعاون. وبدلاً من محاولة مراقبة الموظفين في العمل دقيقة بدقيقة، يضمن هذا النهج جمع المعلومات اللازمة لمساعدة القادة والمدراء والموظفين على تحديد معوقات العمل الفعال وإجراء تحسينات مفيدة من دون تقويض ثقة الموظفين أو انتهاك خصوصيتهم أو إعاقة إنتاجيتهم.
يجب تصميم استراتيجيات القياس بعناية
لا شك في أن تصميم أنظمة القياس الفعالة ليس هيناً، فمن الممكن أن تكون البيانات مفيدة جداً وتولد رؤى مهمة قابلة للتنفيذ، ولكنها من دون اتباع النهج المناسب ستكون مرهقة بل ومضللة أيضاً.
خذ مثلاً البيانات المتعلقة بمواعيد بدء الموظفين العمل على أجهزة الكمبيوتر وانتهائهم، بناءً على استخدام مصدر هذه البيانات يمكن أن نتوصل إلى معلومات تؤدي إلى نتائج مختلفة بدرجة هائلة. إذا استخدمت المؤسسة مؤشراً للأداء متمثلاً في "عدد ساعات العمل الوسطي في اليوم" فقد تشعر القيادة بضرورة مكافأة الموظفين الذين يعملون وقتاً أطول. لكن بالتأكيد، لا يمكن اعتبار مدة عمل الموظف على جهاز الكمبيوتر مؤشراً دقيقاً للإنتاجية، وقد يؤدي هذا النظام إلى إحباط الموظفين وفقدانهم الثقة بالقيادة وتبني سلوكيات غير منتجة.
ولكن ماذا لو استخدمت الشركات نفس البيانات من أجل تتبع "تفاوت أوقات بدء العمل" على اعتباره مؤشراً لعادات العمل الصحية؟ سيساعد هذا المؤشر المدراء على تحديد الموظفين الذين من الممكن أن تتراجع معدلات اندماجهم في العمل وبدء نقاشات استباقية لمساعدتهم على التوصل إلى طرق لزيادة حماسهم في عملهم، ومن المرجح أن يولّد نتائج إيجابية أكثر بما أنه حيادي أكثر بطبيعته: تفاوت أوقات بدء الموظف عمله ليس سيئاً بالضرورة، ولكنه قد يشير إلى أن تغييراً ما طرأ على روتينه المعتاد وبالتالي يمكن الاستفادة منه ليجري مديره محادثة بنّاءة معه.
أدوات القياس الذكية ضرورية لفهم تأثير المرونة، وبالتالي من الضروري تحديد مؤشرات الأداء الجديدة الأهم التي تعود بأكبر فائدة على المؤسسة، وتركيز جهود إتاحة الشفافية بما يتلاءم معها.
الثقة عامل أساسي
كما هو الحال في أي نقلة كبيرة، من الضروري بناء الثقة المتبادلة والحفاظ عليها من أجل ضمان النجاح عند بدء تنفيذ أي خطة متعلقة بالشفافية. وعلى وجه التحديد، من الضروري توفر 3 مكونات من أجل بناء الثقة في أثناء هذه النقلة:
التواصل الشفاف: يجب على القادة في مرحلتي التخطيط والتنفيذ توضيح البيانات التي ينوون جمعها وتوقعاتهم فيما يتعلق باستخدامها وأي تغييرات تطرأ على الاستراتيجية في أي وقت.
إمكانية الوصول إلى البيانات والرؤى: ما إن يحدد القادة طريقة جمع المعلومات من الضروري أن ينشئوا عمليات محددة من أجل ضمان مشاركة المعلومات مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين في الوقت المناسب وعلى نحو يتلاءم مع العمل الذي يقومون به ويدعمه.
الإجراءات والتعديلات الفورية: وأخيراً، يجب أن يتخذ القادة إجراءاتهم بناء على البيانات التي يجمعونها، وهذا يعني أيضاً أن عليهم التعاون مع المدراء والموظفين من أجل تحديد فرص إجراء تحسينات مستمرة وبناء حلقات تقديم الآراء والتقييمات التي تدمج تفاعلات الموظف ونتائجه التجارية مع آراء القادة والخبراء الآخرين وتقييماتهم.
بالطبع ثمة طرق لتطبيق هذه العناصر الثلاثة، فمن دون توفر حد أدنى من الشفافية وإمكانية الوصول والإجراءات المبنية على البيانات تجازف الشركات باستغلال الموظفين وخسارة ثقتهم بالكامل. ولكن أكثر القادة فعالية لا يكتفون بالحد الأدنى ويعملون بجد لتمكين جميع أصحاب المصلحة المعنيين لممارسة دور فعال في تحسين سير عملهم بأنفسهم ومعالجة التحديات التي تواجه المؤسسة بأكملها. يبين الجدول التالي مجموعة الأساليب وتأثيرها في قدرة القادة على بناء الثقة:
توفر المعلومات اللازمة، المشاركة، التمكين
طريقتك في التعامل مع الشفافية في بيانات الموظفين تحدد قدرتك على بناء الثقة.
توفر المعلومات اللازمة (الحد الأدنى من الثقة) |
المشاركة (ثقة متنامية) |
التمكين (أكبر درجة من الثقة) |
|
---|---|---|---|
الشفافية |
توفر المعلومات اللازمة تُستخدم أساليب التواصل الكتابية لإبلاغ الموظفين بالبيانات التي يتم جمعها والتي لا يتم جمعها |
المشاركة يتم إخفاء هويات أصحاب البيانات ثم تجميعها ثم مشاركتها مع الموظفين. يتم تحديد الحدود الدنيا والأهداف في المؤسسة بأكملها. |
التمكين يقدم القادة المستجدات للمؤسسة بصورة متكررة عن طريق مشاركة البيانات المعنية ومعلومات عن التقدم المحرز نحو تحقيق الأهداف والإجراءات التي سيتم اتخاذها تالياً. |
إمكانية الوصول |
توفر المعلومات اللازمة (الحد الأدنى من الثقة) يُمنح أصحاب المصلحة الذين يتم اختيارهم إمكانية الوصول إلى البيانات. |
المشاركة (ثقة متنامية) يُمنح القادة والمدراء إمكانية الوصول إلى البيانات التي تخص فرقهم أو أدوارهم. |
التمكين (أكبر درجة من الثقة) يُمنح القادة والمدراء والموظفون إمكانية الوصول إلى كل البيانات المعنية بهدف تحسين طرق عملهم. |
الإجراءات |
توفر المعلومات اللازمة (الحد الأدنى من الثقة) يتم التعديل واتخاذ إجراءات التدخل باستخدام الحد الأدنى من الرؤى المدعومة بالبيانات. |
المشاركة (ثقة متنامية) يتم دمج البيانات واستخدامها في عمليات إدارة الأداء بهدف تحفيز صناعة القرارات الاستراتيجية عالية المستوى. |
التمكين (أكبر درجة من الثقة) تستخدم القوة العاملة بأكملها البيانات بهدف تحفيز العمل التعاوني في حل المشكلات. يحمل القادة والمدراء والموظفون مسؤولية إنشاء خطط عمل استناداً إلى الرؤى القائمة على البيانات. |
إن لم تتح الشركات الشفافية التي يحتاج إليها الموظفون فستضيّع الفرص المهمة لتقديم التدريب المهني لهم وتحسين سير العمل والاستثمار في التكنولوجيات الجديدة المهمة، وإن لم يتمتع الموظفون بالمرونة التي يحتاجون إليها فسيخسرون ثقتهم بقادتهم وسيتنامى شعورهم بالاستياء من انعدام الاستقلالية وسينفصلون ذهنياً عن العمل. يتمثل التحدي الذي يواجهه قادة اليوم في التمعن بدقة في هذه الديناميات المترابطة وتحديد أشكال المرونة والشفافية المناسبة واستخدامها في تمكين فرقهم والعمل على النحو الذي يحقق أكبر قدر من الفعالية.