خلال تعاملاتنا مع الآخرين، سواء في سياق اجتماعي أو مهني، غالباً ما نحاول التأثير في الطريقة التي يشكّل بها هؤلاء الناس انطباعاتهم عنّا، خاصةً عندما لا تكون معرفتهم بنا وثيقة جداً. وعندما نجد أنفسنا نقترب من هذه الأوضاع ولا سيما عندما يكون لدينا ما نخسره وما نكسبه (كما هو الحال في مقابلة عمل، أو اجتماع مع زبون جديد)، فإن زملاءنا أو مرشدينا أو أصدقاءنا، غالباً ما يُسدون إلينا النصيحة ذاتها، ألا وهي أن نحاول ترك انطباع جيد، خاصة أن الانطباع الإيجابي الذي نتركه لدى الآخرين سيُترجم في نهاية المطاف على شكل محصلات بعيدة المدى، كأن نحصل على الوظيفة بعد المقابلة. ورغم أن هذه النصيحة تُعتبر عموماً قيّمة، فإن حدسنا بخصوص الاستراتيجيات الأنسب التي يجب أن نتبعها لنترك هذا الانطباع الإيجابي المطلوب غالباً ما يكون مخطئاً.
ورغم أنه من الطبيعي أن نشعر بالقلق تجاه الكشف عن نقاط ضعفنا، أو مدح نقاط قوتنا علناً وصراحة، فإن فعل ذلك غالباً ما يكون أكثر فعالية من التفوّه بأشياء قد تجعلنا نبدو أشخاصاً غير صادقين أو غير حقيقيين. ومن الأمثلة على ذلك ظاهرة التفاخر بالنفس المغلّف بالتواضع، أي تباهي الإنسان بذاته عبر إطلاق عبارات توحي بأننا أشخاص متواضعون، وهو نوع من الترويج للذات بات اليوم، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، منتشراً على نطاق واسع. وفيما يلي بعض الأمثلة عليه:
"لا أستطيع تصديق بأنني مضطر إلى تحديد جدول أعمالي إلى ما بعد شهر يوليو/تموز من العام المقبل منذ الآن. هذا كثير يا إلهي!".
"يجب عليّ التوقف عن الموافقة على كل طلبات إجراء المقابلات الصحفية. لقد شعرت بأن آخر 10 دقائق من حياتي كانت بطول أسبوع كامل".
"تخرجك في جامعتين يعني بأنك ستتلقى دعوات مزدوجة للتبرع. يا لهم من أشخاص ملحاحين ومزعجين!".
هذا النوع من التفاخر بالنفس والتباهي عبر لعب دور الشخص المتواضع يسمح للناس بتسليط الضوء على الجوانب الإيجابية في حياتهم، مع محاولة الظهور بمظهر الأشخاص المتواضعين، من خلال طرح "الأخبار السارة" بطريقة مقنعة على شكل شكوى أو تذمر. فأنت تجد الناس على وسائل التواصل الاجتماعي يطلقون التغريدات على "تويتر" أو يضعون منشورات وحالات على "فيسبوك" يتحدثون فيها عن إنجازاتهم وحظهم الجميل، ويحاولون تغليفها على شكل شكاوى ليحصدوا قبولاً من الآخرين على شكل "إعجابات" أو تعليقات وما إلى ذلك.
لكن هذا النوع من التفاخر والتباهي ومديح الذات لا يقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي. ولنأخذ مثلاً واحداً من أكثر الأسئلة شيوعاً التي تطرح خلال مقابلة العمل: "ما هي أعظم نقاط ضعفك؟" حاول أن تتذكر مثلاً متى كانت آخر مرة تطرح فيها أنت هذا السؤال على غيرك أو تضطر للإجابة عنه؟ وأنا أراهنك، واعتماداً على الدور الذي تؤديه، بأنك قد سمعت أو صغت إجابة متقنة على هذا السؤال كانت تهدف إلى إعادة صياغة أحد العيوب بحيث يظهر وكأنه نقطة إيجابية: "أنا شخص يسعى إلى الكمال إلى درجة أنني أشعر وكأنني سأجن أحياناً". أو "أنا أميل عادة إلى العمل بجد كبير إلى درجة أن هذا الأمر بدأ يؤثر في حياتي الشخصية".
وسواء كان الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي، أو خلال مقابلة عمل، أو في أي نوع آخر من أنواع التفاعل الاجتماعي أو المهني مع الآخرين، فإن الناس يسعون إلى التفاخر بأنفسهم عبر ادّعاء التواضع بهدف ترك انطباع إيجابي لدى الآخرين، ودون الظهور بمظهر الأشخاص المزهوّين بأنفسهم أو الفارغين. ولكن كما تبيّن فإن نصيب هذه الاستراتيجية هو الفشل في مرّات كثيرة. فقد أظهرت الأبحاث التي أجريتها بالتعاون مع زميلي أوفول سيزر ومايك نورتون من كلية "هارفارد للأعمال"، بأن المراقبين ينظرون إلى هذه الاستراتيجية على أنها غير صادقة. ونتيجة لذلك، فقد جرى تصنيف هؤلاء المتفاخرين بأنفسهم بطريقة غير مباشرة على أنهم أقل إثارة للإعجاب من الأشخاص الذين كانوا يتبجّحون صراحة – أو حتى من أولئك الذين كانوا يتذمرون.
ففي إحدى التجارب، طلبنا من 122 طالباً جامعياً أن يكتبوا لنا الطريقة التي سيجيبون بها عن سؤال يتعلق بأكبر نقطة ضعف موجودة لديهم فيما لو طُرحَ عليهم هذا السؤال خلال مقابلة عمل. فهذا واحد من الأسئلة التي يمكن للناس الإجابة عنها من خلال ذكر نقطة ضعف حقيقية (كأن يقول الواحد منهم مثلاً: "أنا لا أجيد تنظيم شؤوني وأموري على الدوام" أو "نقطة ضعفي الكبرى هي أنني أميل أحياناً إلى التأجيل، الأمر الذي يقود إلى تراكم العمل مع اقتراب المهلة النهائية للإنجاز"). بيد أن بعض الناس يمكن أن يجيبوا عن هذا السؤال من خلال التفاخر بأنفسهم وادعاء التواضع (كأن يقول الواحد منهم مثلاً: "أنا شخص أميل إلى الكمال أحياناً. ومن الصعب جداً التعامل مع هذا الأمر" أو "أنا لا أجيد قول كلمة "لا" للآخرين، وأنا دائماً أنجز العمل المطلوب مني، ولكنني أجد نفسي على الدوام أقدم الخدمات للآخرين." كما أن المشاركين بينوا أيضاً "لماذا" اختاروا الإجابة عن السؤال بالطريقة التي أجابوا بها.
لاحقاً، قمنا بتعيين اثنين من الباحثين المساعدين لمراجعة الإجابات. وعمدنا قصداً إلى عدم إخبارهما بفرضياتنا، وطلبنا منهما أن يقرّرا ما إذا كانت الإجابات هي عبارة عن تفاخر بالنفس مغلف بالتواضع أم أنها نقاط ضعف حقيقية، وما إذا كان المشاركون صادقين. ثم قمنا بتعيين باحثين مساعدين آخرين لتحديد مدى احتمال توظيفهم لكل شخص بناءً على إجاباته عن هذا السؤال الذي يخشى الناس غالباً الإجابة عنه (كما أننا لم نخبر هؤلاء أيضاً بفرضيتنا).
فماذا كانت النتيجة؟ قدم أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين إجابات صنّفها الباحثون المساعدون على أنها ضرب من التفاخر بالنفس المغلّف بالتواضع. وقد شملت أكثر حالات التفاخر بالنفس شيوعاً تعبير الأشخاص عن قلقهم جرّاء شعورهم بأنهم يسعون إلى الكمال، أو بأنهم يعملون بجد زائد عن اللزوم، أو بأنهم لطفاء زيادة عن اللزوم، أو بأنهم صريحون أكثر مما هو مطلوب. وعلاوة على ذلك، فقد قرر الباحثون المساعدون بأن غالبية المشاركين أجابوا عن السؤال بطريقة استراتيجية (وليس بطريقة صادقة) محاولين الحصول على الوظيفة الافتراضية. غير أن اللافت في الأمر هو أن الاستراتيجية لم تكن فعّالة. فقد أشار الباحثون المساعدون إلى أنهم أقل ميلاً إلى توظيف الأشخاص المتفاخرين بأنفسهم الذين يتظاهرون بالتواضع مقارنة مع الأشخاص الذين بدوا بأنهم كانوا صادقين.
تدل هذه النتائج على أن إظهار الشخص خلال مقابلة العمل بأنه يعي ذاته وبأنه يعمل على تحسين أدائه قد يكون استراتيجية أكثر فعالية من التفاخر بالنفس المغلف بالتواضع. أوليس الأشخاص الصادقون المستعدون لإظهار ضعفهم هم أكثر نوع من الناس يرغب مسؤولو الموارد البشرية على الأرجح بتوظيفهم؟
وحتى في خارج سياقات مقابلات العمل، لا يبدو بأن التفاخر بالنفس المغلف بالتواضع يعطي الانطباعات الإيجابية التي نأمل جميعنا في تركها عندما نلجأ إلى هذه الاستراتيجية للترويج لأنفسنا. فقد وجدنا في دراسات لاحقة تهدف إلى متابعة العمل السابق بأن الناس يكرهون التفاخر بالنفس المغلف بالتواضع أكثر من التباهي والتبجّح الحقيقيين حتى أكثر من الأشخاص الذين يتذمرون. كما أن تكاليف هذا النوع من الاستراتيجيات تتجاوز النظرة الشخصية، بل هي تمتد لتؤثر على السلوك لأنها تدفع الناس إلى فرض عقوبات مالية على من يتفاخرون بأنفسهم بطريقة مغلفة بالتواضع، كما أن احتمال أن يقدّموا لهم المساعدة يكون أقل.
ما تشير إليه هذه النتائج على ما يبدو هو أنه عندما يقرّر الأشخاص الراغبون في الترويج لذاتهم الاختيار ما بين التبجّح (بصدق)، أو التفاخر بالنفس بطريقة مغلفة بالتواضع (بطريقة خداعة)، فإنهم يجب أن يختاروا الطريقة الأولى، فذلك سيمكّنهم على الأقل من حصاد ثمار الظهور بمظهر الصدق.
وبشكل أعمّ، يمكن للسلوك الصادق أن يقود إلى مكافآت غير متوقعة. ففي أبحاث أجريتها مع سيزر وأليسون وود بروكس، وهي أيضاً زميلة أخرى في كلية "هارفارد للأعمال"، ولورا هانغ من كلية "وارتون"، وجدنا بأن معظم الناس يعتقدون أن التصرف بطريقة تلائم اهتمامات الأشخاص الآخرين خلال التعاملات المهنية والاجتماعية ينطوي على فائدة أكبر من مجرد التصرف بتلقائية وعفوية.
لكن معتقداتهم هذه خاطئة. فالناس ينظرون إلى الآخرين بقدر أكبر من الإيجابية عندما يحاول هؤلاء التصرف على حقيقتهم وسجيتهم. ومردّ ذلك إلى أن الناس يشعرون بمزيد من القلق وبقدر أكبر من عدم الصدق عندما يحاولون تلبية رغبات شخص آخر أو توقعاته، مقارنة مع لو حاولوا التصرف بعفويتهم وتلقائيتهم.
حاولنا في هذا البحث استكشاف التبعات الحقيقية والفعلية للسلوك الصادق من خلال إجراء دراسة ميدانية. وقد درسنا حالة رواد الأعمال الذين طرحوا أفكارهم على المستثمرين المحتملين، ووجدنا بأن محاولتهم تلبية رغبات المستثمرين أثّرت سلباً على نظرة هؤلاء المستثمرين إليهم (مثل احتمال حصولهم على التمويل)، في حين أن تصرفهم بعفوية وتلقائية أثر فيهم إيجاباً.
تشير هذه الدراسات مجتمعة إلى حقيقة مهمة: نوايانا الخاصة بتحديد أنواع الاستراتيجيات التي ستترك انطباعاً إيجابياً لدى الآخرين غالباً ما تكون خاطئة. فنحن نعتقد بأن التفاخر المغلف بالتواضع سيكون أكثر فعالية من مجرد التباهي بينما في الواقع هو يرتد سلباً على صاحبه. كما أننا نعتقد بأن تلبية رغبات الآخرين وتوقعاتهم ستجعلنا نظهر بمظهر طيب في عيونهم، بينما في الحقيقة تصرّفنا بعفوية وتلقائية سيضمن لنا تحقيق نتائج أفضل.
اقرأ أيضاً: كيف تترك انطباعاً أولياً مبهراً.