بعد عدة أشهر من تفشي جائحة كوفيد-19، وجدت نفسي أشعر بالإحباط الدائم عقب تقلُّدي منصب رئيسة فريق عالمي خلفاً لرئيسه السابق؛ إذ كنت أواجه كل يوم موجة جديدة من التحديات مع زملاء لم أقابلهم من قبل، وأخطط لتنفيذ استراتيجيات في مقرات لم تسبق لي رؤيتها. تعرَّضنا آنذاك لموجة عاتية من أعباء العمل الساحقة المصحوبة بتوتر العلاقات بين الموظفين على نحو هدَّد بجرنا جميعاً إلى مستنقع الفشل. وفي الوقت نفسه، جعلني الافتقار إلى التفاعل الشخصي المباشر أشعر بالحنين للعمل الجماعي الذي نستمد منه الدعم خلال الأوقات الصعبة، لكن في ظل حالة عدم اليقين وانتشار الذعر في كل مكان، بدا العثور على الإلهام شبه مستحيل.
وفي ظهيرة أحد الأيام تغيرت الأمور في أثناء عرض مشاريع تسويقية جديدة. وحدث ذلك عندما كنت أشاهد فِرقاً من مختلف دول العالم، أذهلتني حيوية أعضائها وقدرتهم على الإبداع ومواهبهم. لم يكن مجرد اجتماع افتراضي مثل أي اجتماع آخر يضم أفكاراً إبداعية وعبارات ترويجية جذابة؛ إذ رأيت وجوه زملائي تتألق سعادة وفخراً، وشعرت بارتفاع معنوياتهم مع كل بادرة تقدير. تحوَّل تركيزي في هذه اللحظة من كآبة المهام التي لا تنتهي إلى متعة التجارب المشتركة والقدرة على الإبداع وتحمُّل الظروف الصعبة.
أصبح من الواضح أن تفشي الشعور بالإعياء وانعدام القدرة على التواصل المباشر وجهاً لوجه كانا يؤثران سلباً على عملنا ويدمران علاقاتنا الإنسانية. كانت هذه الضغوط تسلبنا أيضاً الشعور بالمتعة وحب الاستكشاف، وبدت أشبه بقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت لتصيبنا جميعاً بالاحتراق الوظيفي.
تشير الأبحاث الصادرة عن الجمعية الأميركية للعلوم النفسية (Association for Psychological Science) إلى أن التوتر المزمن في مكان العمل يؤدي إلى الإصابة بمتاعب صحية بدنية جسيمة ويسبّب ضعف القدرات الإدراكية، فضلاً عن تأثيره على الرفاهة العاطفية، لكن تنفيذ الاستراتيجيات التي تعزز الشعور بالمتعة والأمل والتفاؤل يمكن أن يخفف حدّة هذه الآثار؛ فوفقاً لمعهد تحسين الرعاية الصحية (Institute for Healthcare Improvement)، ثبت أن التركيز على زيادة المتعة في العمل، بدلاً من الاكتفاء بالتركيز على تقليل الشعور بالاحتراق الوظيفي، يحسّن رضا الموظفين ويقلل التوتر ويعزز الرفاهة العامة، ما يؤدي بدوره إلى انخفاض معدلات الإصابة بالاحتراق الوظيفي وارتفاع مستويات الاندماج في العمل.
وبالتعامل الاستباقي مع العراقيل التي تحول دون الشعور بالرضا والترابط وتحقيق الغاية، يمكننا تحويل أماكن عملنا إلى بيئات تحفل بالمتعة والتفاؤل؛ فعندما تعتني بنفسك على نحو أفضل، ستحسِّن قدرتك على مساعدة الآخرين بفعالية أكبر. وإليك 4 استراتيجيات بمقدور القادة استخدامها لاستحضار الشعور بالمتعة والأمل والتفاؤل خلال يوم العمل:
1. اعرف دوافعك
يتطلب التواصل مع ذاتك أولاً استحضار القوة المحفّزة لكل ما تفعله؛ أي دوافعك.
إيكيغاي (Ikigai) مفهوم ياباني يمكن ترجمته إلى "علة الوجود"، أو الغاية الحقيقية لحياتك والشعور بالرضا والإنجاز. يشير هذا المفهوم إلى قدرة المرء على اكتشاف المعنى والشعور بالرضا من خلال المواءمة بين شغفه ومواهبه وقيمه من ناحية والتعاطي مع احتياجات البيئة المحيطة به من ناحية أخرى. في إحدى حلقات المدونة الصوتية، إن ذي أرينا (In the Arena)، يصف مؤلف كتاب "كيف تطبّق مفهوم إيكيغاي في حياتك" (How to Ikigai)، تيم تاماشيرو، المفهوم بأنه "المواهب المتأصلة التي يمتلكها المرء ويمكنه مشاركتها على نحو طبيعي مع الآخرين لتنويرهم وإثراء حياتهم".
حاول العثور على مفهوم إيكيغاي في حياتك من خلال التفكير في هذه الأسئلة من كتاب "إيكيغاي: السر الياباني لحياة مديدة وسعيدة (Ikigai: The Japanese Secret to a Long and Happy Life) لمؤلفيه هيكتور غارسيا وفرانشيسك ميراليس:
- ما هي الأنشطة والمساعي التي تغذّي شعورك بالمتعة والحماس؟ تساعدك هذه المعلومات على تحديد ما تحبه (شغفك).
- ما هي المهارات والمواهب التي تمتلكها ويمكن تسخيرها من أجل الصالح العام؟ تساعدك الإجابة عن هذا السؤال على تحديد ما تجيده (مميزاتك).
- كيف تحظى بالتقدير والمكافأة لإسهاماتك في خدمة البيئة المحيطة بك؟ تساعدك الإجابة عن هذا السؤال على تحديد ما يمكن مكافأتك عليه (مهنتك).
- كيف تُحدِث أثراً إيجابياً في الآخرين والعالم أجمع؟ تساعدك هذه المعلومة على تحديد ما تحتاج إليه البيئة المحيطة بك (رسالتك).
إن ما يجلب لك الشعور بالمتعة وما تبرع فيه على نحو مميَّز وما تحتاج إليه البيئة المحيطة بك هو الوقود الذي يغذّي قدرتك على المضي قدماً. وبتحقيق المواءمة بين عملك وهذه العناصر يمكنك تجديد شعورك بالشغف والغاية في دورك الوظيفي. على سبيل المثال، إذا كان توجيه الآخرين يثير حماسك، فأعِدّ فنجاناً من القهوة، ثم تجاذب أطراف الحديث مع عضو مبتدئ بالفريق. يفيدك هذا الإجراء بقدر ما يفيد الآخرين ويرفع معنوياتك، علاوة على إسهامه في إضفاء مزيد من المرح على عملك. وإذا كنت تستمتع بتنظيم المناسبات الاجتماعية، فاشرع في إعداد قائمة أغانٍ، بحيث يشارك الجميع أغنياتهم المفضَّلة. إنها طريقة بسيطة لتعزيز العلاقات وإشاعة جو مفعم بالمتعة وجعل أسبوع العمل ممتعاً أكثر.
2. استحضر عقلية المبتدئ
يؤدي روتين العمل اليومي أحياناً إلى إغفال الاحتمالات الجديدة.
هل تتذكر شرارة الحماس التي تولدت لديك عندما حصلت على وظيفتك الأولى أو ترقيتك الأخيرة؟ كانت تلك الأيام الأولى مملوءة بالفرص، وبدا كل شيء قابلاً للتحقيق. وكان الحماس المصاحب للعلاقات والمشاريع والفرص الجديدة يغمرك بالسعادة.
هل تتذكر أيضاً عندما انطفأت هذه الشرارة؟ متى بدأت تشعر بالملل تجاه المواقف التي كانت تبدو مثيرة في السابق؟ ربما بدأت تفقد شعورك بالحماس عندما استقال أحدهم، واضطررت إلى تحمُّل عبء عمله دون أي زيادة في الراتب أو تغيير في المواعيد النهائية، ما أدى إلى شعورك بالإعياء والوحدة والإحباط. ربما شعرت بأنك لا تستطيع فعل أي شيء على نحو صحيح أو خاب ظنك بمديرك أو فريقك أو زملائك.
ومن ثم أصبت بالاحتراق الوظيفي.
لست وحدك مَن يشعر بأثر الانتقال من مبتدئ مفعم بالحماس إلى شخص كادح مُتعَب ومُثقَل بالأعباء، فزملاؤك ومرؤوسوك الذين تديرهم وأفراد أسرتك وأصدقاؤك ينتابهم الشعور نفسه أيضاً.
يقول مؤلف كتاب "عقلية الزن، عقلية المبتدئ" (Zen Mind, Beginner’s Mind)، شونريا سوزوكي: "في عقل المبتدئ هناك احتمالات كثيرة، على عكس عقل الخبير ذي الاحتمالات المحدودة". ويعني تبنّي عقلية المبتدئ، أو فلسفة شوشين (Shoshin) المشتقة من مبادئ الزن البوذية، التمتع بانفتاح المبتدئ على المعرفة وفضوله لاكتشاف العالم من حوله. تتميز هذه العقلية بعدم تقيُّدها بالمعارف والتحيزات السابقة، وبقدرتها على توسيع آفاقنا وتعزيز إمكاناتنا، إلى جانب مساعدتنا على التحرر من الشعور بالجمود أو الإنهاك، وذلك من خلال تعزيز حب الاستكشاف والرغبة في التعلم والفضول.
ويؤدي تشجيع فريقك على التعامل مع المهام والتحديات بنظرة جديدة إلى اكتشاف الفرص الخفية والانفتاح على الفرص الجديدة. يمكنك أن تكون نموذجاً يحتذي به مرؤوسوك في تبنّي هذه العقلية من خلال التماس رؤى وتصورات جديدة وإظهار الفضول لاستكشاف منهجيات مختلفة. وعندما تظهر مشكلة، بدلاً من اللجوء إلى الحلول السابقة اسأل نفسك وفريقك: "ما الذي نتعلمه من هذا الموقف؟ وكيف ننظر إليه من زاوية مختلفة؟". عند خوض المحادثات، احرص على الإكثار من قول "أخبرني بالمزيد"، وعندها ستلاحظ قدرتك على بناء روابط أعمق وهادفة أكثر. يحد هذا النهج من الضغوط الواقعة عليك لتقديم الإجابات كلها، ويحفز القدرة على الإبداع ويعزز فهمك لنفسك وللآخرين أيضاً.
3. اعمل على إشاعة جو من الامتنان والمرح من حولك لإضفاء البهجة
إن التعبير الفعّال عن الامتنان وتقدير إسهامات الآخرين يرفع معنوياتهم ويعزز علاقاتك بهم ويبني ثقافة الفريق الداعمة. وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها مركز العلوم من أجل الصالح العام (Greater Good Science Center) بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، أن الامتنان في مكان العمل يؤدي إلى زيادة الرضا الوظيفي وتحسين الصحة النفسية وتعزيز تماسك الفريق.
كان زميلي مانيش غويال صاحب فكرة "إضفاء البهجة" في اجتماعات مجلس الإدارة من خلال مشاركة الصور الشخصية والمواقف التي تبعث على الفخر وسرد مقتطفات من الحياة الشخصية للحاضرين لا ترتبط بموضوع الاجتماع لتحفيزهم وتعزيز الروابط الاجتماعية. وعلى غرار هذا التقليد، فكّر في شخص قدَّم لك يد العون أو فعل شيئاً مؤخراً يصعب نسيانه، وعبّر له عن شكرك بلفتة مدروسة ومميَّزة. احتفل بنجاحات فريقك بكتابة ملاحظات أو توجيه عبارات الشكر والتقدير لأعضائه في بداية الاجتماعات أو تقديم هدايا صغيرة تعبيراً عن تقديرك لإنجازاتهم. تسهم هذه اللفتات في تعزيز الشعور بالانتماء ورفع المعنويات.
شجّع أعضاء فريقك على فعل الشيء نفسه. عبّر عن التقدير بطرق غير متوقعة أو بأساليب إبداعية في أثناء اجتماعات الفريق أو الاجتماعات الثنائية، وحوّل هذه المناسبات إلى طقوس ممتعة، فالاحتفال بالنجاحات الصغيرة والعطاء يذكّر أعضاء فريقك بأثرهم الإيجابي ويلطّف الأجواء ويقلل حدة التوتر المستمر. اعمل على إشاعة هذه اللحظات المبهجة طوال عملية إعداد الموظفين الجدد، وسلّط الضوء عليها بالموقع الإلكتروني للتوظيف التابع لشركتك، واغتنم كل فرصة لتحويل مكان العمل إلى بيئة مترابطة ومبهجة أكثر.
4. عزّز شعورك بالمتعة والسعادة
يمر كل إنسان بأوقات عصيبة، وهذه حقيقة لا مهرب منها. أنشئ "مجلَّد السعادة" على سطح المكتب بجهاز الكمبيوتر، واملأه بالملاحظات الإيجابية واللحظات الممتعة التي يصعب نسيانها، وافتحه كلما شعرت بأن العمل بات مرهقاً كي ترفع معنوياتك وتجد ما يذكَّرك بقيمتك. على سبيل المثال، أعتز برسالة وداع من أحد أعضاء الفريق أعرب فيها عن تقديره لجهودي في دعم الفريق، قائلاً: "أعلم أنك تدافع عنا حتى إن لم نرَ ذلك بأنفسنا، لكننا نشعر به". تساعدني هذه الرسالة البسيطة على استعادة تركيزي وتعزيز معنوياتي خلال الأوقات الصعبة.
متى كانت آخر مرة قلت فيها لنفسك :"أحسنت"، أو "أنت جدير بالثناء"، أو "لا بأس"؟ خفّف الانتقادات التي توجهها إلى ذاتك وعامِل نفسك بالقدر ذاته من اللطف والتقدير اللذين تعامل بهما الآخرين. فقد أثبتت الأبحاث أن الحوار الإيجابي مع النفس يحسّن الصحة النفسية بتقليل مستويات القلق والاكتئاب وشحذ القدرة على التحمل وتعزيز الثقة بالنفس. ويمكنك الاستفادة من امتلاك عقلية إيجابية على غرار اللاعبين الأولمبيين الذين يمارسون التأمل وينخرطون في التفكير الإيجابي لتحسين أدائهم. وبتطبيق هذه الممارسات، ستتمكن من إعادة شحن طاقتك وتحسين قدرتك على تزويد فريقك بالحماس والطاقة. السعادة معدية؛ وعندما تكون قدوة للآخرين، فسيحذون حذوك، ما يخلق دورة لا نهائية من الدعم المعنوي الإيجابي المتبادل.
عندما تحتاج إلى دعم، اسأل نفسك: ما هي الجوانب التي تسعدني في عملي؟ ما الذي يجب أن يتوافر في دوري الوظيفي كي أستمر في هذا المكان 5 أعوام أخرى؟ كيف أترك أثراً إيجابياً في أعضاء فريقي ليسهموا في نشره إلى البقية؟ يؤدي هذا التركيز إلى تحويل العمل لمكان مفعم بالمرح والترابط والقدرة على مقاومة قسوة العالم وإذكاء شعلة الحماس للعمل الجماعي.
إن تعزيز الشعور بالمرح والأمل والتفاؤل داخل فِرق العمل ليس مجرد نسخة مستحدثة من السلوك الإداري القائم على الرعاية الذاتية؛ بل هو عقلية قيادية. تذكَّر في أثناء تنفيذ هذه الاستراتيجيات أن الهدف لا ينحصر في النجاة من الأزمات في أحلك الأوقات، بل تحويل العمل إلى مكان تنعم فيه بالسعادة أنت وفريقك.