ملخص: لدينا جميعاً عشرات القرارات التي يتعين علينا اتخاذها كل يوم، ونريد حسمها بسرعة في كثير من الأحيان؛ لأننا نظن أن سرعة اتخاذ القرار لا تقل أهمية عن كفاءته، لكن الكفاءة الحقيقية تستلزم أحياناً التريُّث والوعي، والأهم من ذلك التفكير والتأمل في القرارات التي اتخذناها في السابق ولم تحقق النتيجة المأمولة. إذ نرفض غالباً بذل الوقت والجهد الذهني لإعادة النظر في الماضي، خاصة إذا كان ينطوي على هفوات مزعجة، لكن التريُّث والتأمل في أخطاء الماضي يساعداننا على اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل. اعتبِر قراراتك السابقة حزمة بيانات تلجأ إليها متى شئت للحصول على رؤى ثاقبة؛ فهي تساعدك على تحديد التحيزات والافتراضات التي قد تمنعك من إحراز التقدم، كما تساعدك على وضع استراتيجيات لتغيير سلوكك في المستقبل، والثقة في قدرة قراراتك على تحقيق نتائج إيجابية. وإليك سلسلة من 6 أسئلة تساعدك على تطبيق الدروس المستفادة من قراراتك السابقة على المواقف الحالية.
كانت سلمى رئيسة تنفيذية لمؤسسة غير ربحية تركز على مجال كفاءة الطاقة، وأرادت استحداث منصب الرئيس التنفيذي للعمليات (COO) لتعزيز الفريق القيادي بالمؤسسة، لكنها لم توفق في اختيار أول شخصين عينتهما في هذا المنصب؛ إذ لم يكمل أي منهما عاماً في منصبه، وأدى هذان الخطآن إلى إهدار قدر هائل من الوقت والموارد.
قررت سلمى المضي قدماً، فطلبت من رئيس قسم الموارد البشرية بالمؤسسة، جواد، أن يستأنف عملية البحث عن مرشح جديد لمنصب الرئيس التنفيذي للعمليات، لكن ساورها القلق نتيجة فقدانها الثقة في المرشحين الذين يختارهم جواد؛ لأنه كان مسؤولاً عن اختيار المرشحَين السابقَين اللذين أثبتا فشلهما الذريع في أداء مهام المنصب، فكيف تثق في حُسن اختيار المرشح للوظيفة هذه المرة؟
كنت أعمل مدرّبة مهارات تنفيذية مع سلمى منذ سنوات عدة، وعندما عرضت عليّ هذه المشكلة، سألتها على الفور: "كيف تعيدين النظر في عملية التوظيف بعد الفشل في المرتين السابقتين؟"
فماذا كانت إجابتها؟ "لم أُعِد النظر فيها أصلاً!"
ثمة قول مأثور ينص على أن تعريف الجنون هو فعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتوقُّع نتيجة مختلفة، وقد لاحظت بحكم خبرتي مع عملائي أن أغلبنا يتصرف مثل سلمى في كثير من الأحيان. ينبع هذا السلوك من أسباب عدة، مثل الرغبة في إثبات كفاءتنا، ما يدفعنا إلى الاعتماد على أساليب فكرية مجرَّبة من قبل وغير واعية إلى حدٍّ كبير.
تعلمت أيضاً من أبحاثي حول عملية صناعة القرار وكتابتي عنها أننا نرفض غالباً بذل الوقت والجهد الذهني لإعادة النظر في الماضي، خاصة إذا كان ينطوي على هفوات مزعجة، لكن التريُّث والتأمل في أخطاء الماضي يساعداننا على اتخاذ قرارات أفضل في المستقبل.
اعتبِر قراراتك السابقة حزمة بيانات تلجأ إليها متى شئت للحصول على رؤى ثاقبة؛ فهي تساعدك على تحديد التحيزات والافتراضات التي قد تمنعك من إحراز التقدم، كما تساعدك على وضع استراتيجيات لتغيير سلوكك في المستقبل، والثقة في قدرة قراراتك على تحقيق نتائج إيجابية.
وأنصح بطرح الأسئلة التالية لتطبيق الدروس المستفادة من قراراتك السابقة على المواقف الحالية:
1. ما هو القرار الذي أنت بصدد صنعه الآن؟
الخطوة الأولى في عملية صنع قرار مدروس هي التأكد من فهم المشكلة التي تريد حلها بوضوح تام. قد تبدو هذه الخطوة بديهية، لكنني ألاحظ غالباً أن الكثيرين يُغفِلونها، ما قد يسفر عن حلول منقوصة أو غير مُرضية. وفي بعض الأحيان يبدأ الإنسان حلّ المشكلة دون محاولة رؤية الصورة الشاملة ويقتصر على منظوره الضيق عنها، بل قد يتخطى المشكلة نفسها أحياناً ويقفز مباشرة إلى الحل الذي يرغب في تحقيقه.
على سبيل المثال، عرَّفت سلمى مشكلتها في البداية على النحو التالي: "أريد استحداث منصب ’الرئيس التنفيذي للعمليات‘ وتعيين شخص يمتلك قدرات تؤهله لأداء مهام هذا المنصب، بحيث يتوافق مع مؤسستنا ويبقى في المنصب أعواماً عدة".
لكن هذا التعريف يعبّر في المقام الأول عن آمالها وأحلامها، ولا يتناول صُلب المشكلة التي يجب حلها في الأساس.
طلبتُ من سلمى أن تأخذ وقفة وتلقي نظرة على سياق قرارها، وعندئذ أدركتْ أن المشكلة الحقيقية التي يجب حلها تتعلق بعملية التعيين نفسها، فقالت: "أريد اتخاذ قرار بشأن التقدم في عملية اختيار المرشح الجديد لمنصب الرئيس التنفيذي للعمليات وتعيينه كي أعثر على شخص يمتلك قدرات تؤهله لأداء مهام هذه الوظيفة على الوجه الأمثل، بحيث يتوافق مع مؤسستنا ويبقى في المنصب أعواماً عدة".
2. ما الذي يسبّب لك التوتر بشأن القرار الحالي، وما هو النهج الذي تتبعه تلقائياً لحل هذه المشكلة؟
يساعدك هذا السؤال على تقليل عدم اليقين بطريقتين؛ أولاً: يؤدي تحديد ما يقلقك بشأن القرار الذي أنت بصدده إلى تسليط الضوء على جوانب عدم اليقين كي تستطيع استكشافها على نحو أشمل من خلال الإجابة عن الأسئلة التي تدرس عثراتك السابقة. وهذه الخطوة مفيدة لأن التوتر يؤثر سلباً في عملية صناعة القرار إذ يستنفد مواردنا المعرفية، وقد يحدّ هذا بدوره من قدرتنا على صنع قرارات غير تقليدية والتكيف مع المتغيرات، ما يوجه الذهن إلى إيثار السلامة واتخاذ قرارات مألوفة.
ثانياً: أثبتت الأبحاث أن التوتر قد يعزز التحيزات المعرفية المترسخة في أذهاننا. ويساعدنا تخصيص جزء من الوقت لتحديد مسببات التوتر على التصدي للاختصارات الذهنية والافتراضات غير المفيدة.
وإذا عدنا إلى سلمى، فسنجد أن فشلها في تعيين الشخص المناسب في المرتين السابقتين جعلها تخشى ألا تستطيع الحصول على مرشحين مؤهلين للمنصب إذا وسّعت المؤسسة نطاق البحث. وكانت مقتنعة بأن أفضل نهج هو تضييق نطاق البحث و"الاكتفاء بإجراء مقابلات العمل مع المرشحين الذين يمتلكون مؤهلات ذات صلة مباشرة بالدور والذين شغلوا منصباً مماثلاً من قبل".
3. ما هو القرار أو القراران السابقان اللذان تريد التعلم منهما؟ وأين مكمن الخطأ؟ ولماذا وقع الخطأ، برأيك؟
لن تتمكن من تغيير أيٍّ من سلوكياتك، وعلى رأسها السلوكيات المرتبطة بعملية صناعة القرار، إلا بعد مواجهتها. وتساعدك هذه الأسئلة على إلقاء نظرة مباشرة على الأخطاء السابقة لفهم أسبابها.
اختارت سلمى دراسة أسباب فشل قرارَي التوظيف الأخيرين. وقالت: "لقد تعلمت أشياء مختلفة من كلٍّ منهما"؛ إذ عيّنت في الحالة الأولى شخصاً لا يمتلك خبرة في القطاع الذي تعمل به المؤسسة، وهو ما أوضحته قائلة: "افترضت أن المرشح للمنصب سيبادر إلى اكتساب الخبرة اللازمة للعمل في قطاعنا، لكنه لم يفعل". وكان الخطأ في الحالة الثانية هو "عدم صراحة المرشح وسوء أسلوبه في التواصل".
4. عند التأمل في أخطاء الماضي وفهمها تماماً، ما هي الافتراضات التي هيمنت على تفكيرك حينها وربما أسهمت في النتيجة التي وصلت إليها؟
تتيح لك الإجابة عن هذا السؤال فرصة استخلاص الدروس المستفادة من قراراتك السابقة، وقد تؤدي إجاباتك إلى تعزيز شعورك بالثقة تجاه جانب معين نال إعجابك في قرار ما، أو إجراء تغيير محدَّد عليه إذا كنت تفضل تغيير جانب فيه.
اعتقدت سلمى عند تعيين الموظفَين السابقَين أنها كانت تختار أفضل المرشحين المتاحين، لذلك ألقت اللوم على اتساع مجموعة المتقدمين للوظيفة عندما أثبتت الأيام سوء اختياراتها.
لكن عندما راجعت قراراتها السابقة، أدركت أن المشكلة الحقيقية لم تكن ترتبط بمجموعة مرشحي الوظيفة؛ إذ اعترفت سلمى بأنها لم تسأل المرشح الأول عما سيفعله لمواكبة مستجدات هذا القطاع، قائلة: "افترضتُ أنه لن يدخر وسعاً لمعرفة كل صغيرة وكبيرة في القطاع بما أنه تقدم للوظيفة، لكن لأن اختياري له كان قائماً على فرضية ولم أسأله مباشرة، لم أتمكن من تقييمه بالطريقة الصحيحة".
فيما يتعلق باختيار الموظف الثاني، أدركت سلمى أنها تجاهلت المؤشرات على سوء أسلوبه في التواصل؛ إذ قالت: "عندما أرسلنا رسالة إلكترونية إلى المرشح، لم يرد إلا بعد أن راسلناه 3 مرات أخرى، وعندما رد علينا أخيراً، اعترف بأنه ظنّ أننا لسنا جادين بشأن اختياره. لم أُعر انتباهاً للإشارات التحذيرية التي أثارها أسلوبه، ولم أتمكن مجدداً من تقييمه بالطريقة الصحيحة".
5. كيف تطبّق ما تعلمته على القرار الذي أنت بصدد اتخاذه حالياً؟
يتيح لك هذا السؤال تحويل ما تعلمته إلى رؤى ثاقبة وإجراءات عملية من أجل مستقبل أفضل؛ فعند تحليل مشكلات الماضي وتفسيرها، ستزداد قدرتك على رؤية الأفعال والعادات والأنماط الحالية التي قد تخفى عليك. يساعدك هذا المنظور المحوري على تجنب الوقوع في الأخطاء نفسها مجدداً في المستقبل.
وبعد إمعان التفكير، أدركت سلمى أن مشكلتها الحقيقية لم تكن في اتساع مجموعة المتقدمين للوظيفة، بل كانت ترتبط أيضاً بالأسلوب الذي تتبعه في إجراء مقابلات العمل مع المرشحين وتقييمهم، وهما إجراءان كانت تمتلك قدراً أعظم من السيطرة عليهما والتأثير فيهما؛ إذ قالت: "تبيَّن لي عند مراجعة القرارات السابقة أن أفعالي أسهمت في سوء النتيجة التي وصلنا إليها؛ إذ كان بمقدوري إجراء مقابلات عمل أكثر عمقاً ومراجعة رسائل التوصية بصورة أدق".
6. ما هو الحل الآن؟
عند الإجابة عن هذا السؤال، ستلاحظ تطوُّر قدرتك على صناعة القرار؛ فقد درستَ أفكارك ومشاعرك وسلوكياتك وقيّمتها، ما يمنحك القدرة على استخلاص ملاحظات حول ماضيك توضح رؤيتك للمضي قدماً في اتجاه جديد.
وبينما كانت سلمى تستعد لجولة توظيفية أخرى، قررت عدم تضييق نطاق مجموعة المتقدمين للوظيفة والذي ينحصر في المرشحين الذين شغلوا المنصب نفسه من قبل، بل أرادت توسيع نطاق البحث.
وفي المقابل أدخلت تغييرين على عملية تقييم المرشحين، تقول: "أولاً: أعتزم طلب تفاصيل محددة من المرشحين حول ما سيفعلونه لمواكبة مستجدات الوظيفة التي يجرون المقابلة من أجل الحصول عليها كي أقيّم مدى فهمهم لمهامها ومجموعة مهاراتهم والتزامهم بالنجاح في أدائها على الوجه الأكمل. ثانياً: سأراجع رسائل التوصية الخاصة بالمرشحين على نحو أدق للتعرف إلى مواطن القوة والضعف لديهم ومدى ملاءمتهم للعمل بمؤسستنا".
كتبت بتوسُّع عن أثر محطات التوقُّف الاستراتيجية في تمكيننا من استثمار بيانات الماضي لمساعدتنا على المضي قدماً في صناعة القرارات بوعي وفعالية أكبر. وبمقدور هذه الأسئلة منحك القدرة على وضع خطة عملية لاتخاذ القرارات بثقة أكبر.
وقد تفاجأت سلمى بسرعة اكتسابها الرؤى اللازمة لإجادة صناعة القرار لدرجة أنها أطلعت زميلها في قسم الموارد البشرية، جواد، على الأسئلة وأجوبتها، ما دعاه إلى إجراء تعديلات على المنهجية التي يتبعها في إجراء مقابلات العمل؛ إذ يطلب الآن من المرشحين المميزين كتابة التفاصيل المرتبطة بكيفية أدائهم للمهام التي تفرضها عليهم أدوارهم ومسؤولياتهم الجديدة، كما يحرص على مراجعة رسائل التوصية بدقة تامة؛ فماذا كانت النتيجة؟ عيّنت سلمى موظفة احتفلت مؤخراً بالذكرى السنوية الأولى لمسيرتها الناجحة في المؤسسة، على الرغم من عدم شغلها منصب الرئيسة التنفيذية للعمليات من قبل.
لدينا جميعاً عشرات القرارات التي يتعين علينا اتخاذها كل يوم، ونريد حسمها بسرعة في كثير من الأحيان؛ لأننا نظن أن سرعة اتخاذ القرار لا تقل أهمية عن كفاءته، لكن الكفاءة الحقيقية تستلزم أحياناً التريُّث والوعي، والأهم من ذلك التفكير والتأمل في القرارات التي اتخذناها في السابق ولم تحقق النتيجة المأمولة.
فالخطأ الحقيقي هو الخطأ الذي لا نتعلم منه. وعندما نخصص الوقت للتعلم من قراراتنا السابقة، تصبح أخطاء الماضي وأحداثه المخيبة للآمال ركيزة أساسية لمستقبل أفضل.