تقضي نظرية "التدمير الخلّاق" (Creative Destruction) للاقتصادي الشهير جوزيف شومبيتر بـ "تفكيك الممارسات المتجذرة والراسخة منذ فترة طويلة من أجل إفساح المجال للابتكار والإبداع، ويُنظَر إليه على أنه قوة دافعة للنمو الاقتصادي"، فصناعة السيارات على سبيل المثال أدت إلى زوال مهنة العربات التي تجرها الخيول، والإنترنت أدت إلى انحسار الجرائد الورقية والبريد "التقليدي"، والدفع الإلكتروني حل محل الدفع "التقليدي" في الكثير من المجالات.
الشعب السوري الذي عانى ويلات الحرب استطاع بدوره "تفكيك" النظام الذي حكم لما يقرب من 5 عقود ونصف، وها هو ذا يشق طريقه عبر مرحلة انتقالية تسودها حالة يسمّيها الخبراء "فوكا" (VUCA)، وهي مصطلح مأخوذ من المجال العسكري لوصف البيئات التي تتسم بـ : التقلب (Volatility) وعدم اليقين (Uncertainty) والتعقيد (Complexity) والغموض (Ambiguity). على الرغم من الضبابية والمخاطر المرتبطة بالمراحل الانتقالية في حياة الدول، فإن الكثير من المؤشرات تبعث على التفاؤل والسير في الاتجاه الصحيح، ولا سيما في ظل إعادة بناء العلامة التجارية (Re-branding) التي تقوم بها الحكومة المؤقتة لهدفين رئيسيين على الأقل: أولاً، تغيير الفكرة التي ترسخت في ذهن الشعب السوري عنها في أثناء مرحلة "التفكيك"، وثانياً، استيعاب جميع أطياف المجتمع السوري الثري بالتاريخ والثقافة والاختلاف. وفيما يلي بعض المؤشرات التي لها جذور في عالم الأعمال وتبعث على التفاؤل بمستقبل مزدهر لسوريا:
1. الشعور السائد "حقبة جديدة، بداية جديدة"
درست أستاذة الاقتصاد السلوكي كاتي ميلكمان الفترات التي يُحسّ فيها الإنسان بأنه متفائل ومستعد للتغيير الإيجابي، وقادها بحثها مع زميلتها هنغتشن داي للتوصل إلى نتيجة لافتة: لا ينظر الإنسان إلى مرور الوقت في حياته على أنه سلسلة مستمرة ومتصلة، لكن يصور الزمن في مخيّلته على أنه "حلقات" أو فصول منفصلة يمثل كلّ منها قصة وأحداثاً بارزة في حياته. على سبيل المثال، قد يسجل الإنسان في ذاكرته مرحلة ما قبل دخول المدرسة ضمن حلقة اسمها "الطفولة واللعب"، ثم حلقة "العزوبية" لتصف مرحلة ما قبل الزواج وحلقة "العائلة" لفترة ما بعد الزواج، وحلقة أخرى تبدأ من أول يوم في الوظيفة اسمها "المسار المهني"؛ لذلك فإن كل شخص سوري، بغض النظر عن سنه، لديه فصل محفور في ذاكرته اسمه "حِقبة نظام الأسد" وفصل آخر (لا أعرف اسمه بعد) يصف "حقبة ما بعد نظام الأسد"، غالباً سيكون اسمه مرتبطاً بالحرية، وهو الفترة المثالية لما يُسمى "أثر البداية الجديدة" (Fresh Start Effect)، حيث يكون فيها الإنسان متفائلاً بالتغلب على العقبات التي منعته سابقاً من تحقيق أهدافه (أي خلال الفصل المُنتهي). لاحظنا بالفعل الكثير من الشواهد على هذا الشعور والتفاؤل الذي انعكس في سلوكيات تصب في المصلحة العامة للبلد، مثل إرجاع بعض المقتنيات التي اختفت في خضم المعارك، والتطوع لتنظيف الشوارع، وتنظيم حركة المرور في ظل غياب الخدمات الحكومية، وتحمّل المسؤولية تجاه الأخبار المضللة والإشاعات المغرضة، حيث نُظم الكثير من حملات التوعية الإلكترونية للإبلاغ عنها ومحاربتها، وتم إنشاء حسابات موثقة على السوشال ميديا لهذا الغرض يديرها خبراء في المجال، كما أعرب الكثير من رواد الأعمال وأصحاب الشركات والأطباء والمهندسين من خارج سوريا عن نيتهم العودة إلى الوطن والإسهام في إعماره.
2. أثر التعلم المتوقع: نظرية التعلم التنظيمي
تُعد سوريا منجماً يزخر بالمواهب والشخصيات المبدعة، إذ يكفي الإشارة إلى أن والد ستيف جوبز البيولوجي هو سوري، وآلاف الأطباء في ألمانيا هم مهاجرون من سوريا، وآخر فائز في جائزة نوابغ العرب عن فئة الهندسة والتكنولوجيا هو أيضاً سوري؛ لذلك، واستمراراً لآثار المؤشر السابق، فالعودة المتوقعة لآلاف الكفاءات ستحفز دون شك "التعلم التنظيمي" على العديد من المستويات: أولاً، المعرفة القيّمة التي سيجلبها المهاجرون العائدون من الدول المتقدمة، واحتكاكهم المباشر بالعمالة المحلية، إذ يُعدّ العمل المشترك أفضل وسيلة لنقل المعرفة الضمنية (Tacit Knowledge)، وهي المعرفة التي لا يمكن نقلها بالأدوات المعتادة مثل الكتب أو برامج التدريب أو أدوات نقل المعرفة الصريحة، وهي أهم أنواع المعارف التي تبحث عنها الشركات الكبرى لأنها تنطوي على خبرة قيّمة نتجت عن سنوات طويلة من العمل. ثانياً: التعاون بين الكفاءات من مختلف البيئات والخلفيات التي من المزمع اجتماعها من جديد يحفز عنصر "الربط" الذي اعتبره الراحل كلايتون كريستنسن من أهم مهارات الابتكار، ومعناه إيجاد رابط بين مجالات تبدو غير ذات صلة. تخيّل تطوير بعض الابتكارات التي اعتمد عليها السوريون في ظل شُح الكهرباء وإنتاج مولدات منخفضة التكلفة للمصانع أو السيارات الكهربائية.
3. اختصار الطريق
خرجت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ببنية تحتية مدمرة بالكامل، بعد أن ألقى عليها الحلفاء آلاف الأطنان من المتفجرات، لكن شركاتها العريقة مثل بي إم في (BMW) وآليانتس (Allianz) ومرسيدس بنز لم تَعد لمربع البداية، بل غيّرت مجال نشاطها من العسكري إلى المدني واستغلت التكنولوجيا والمعرفة التي جمعتها على مر عقود طويلة في اختصار طريق إعادة البناء. مع الانفتاح الاقتصادي المتوقع في سوريا وعودة العشرات من رواد الأعمال والشركات الناشئة وحتى فروع الشركات المتعددة الجنسيات، فإن الفرصة مواتية لاختصار الطريق والارتكاز على المعرفة والخبرة المحصّلة في بلدان أخرى لبناء نسيج اقتصادي متماسك، ولا سيما في ظل الطلب الذي سيُخلق على المنتجات والخدمات التي كانت محظورة سابقاً، وخلق أسواق جديدة تتميز بروح الابتكار والتآزر بين المهارات المحلية والمهارات السورية العائدة إلى أرض الوطن.
كبير العلماء في مؤسسة غالوب شين لوبيز يعرّف الأمل بناءً على دراسته المتعمقة له بأنه: "الإيمان بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر مع الإيمان بأنك قادر على جعله كذلك". هذا المزيج من التفاؤل والقدرة الشخصية على التحكم بمسار الحياة هو ما يميز الأمل عن غيره من المشاعر الزائفة مثل التظاهر بالشجاعة والتمني دون عمل. وهذا ما يحتاج إليه السوريون: الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل بكثير مما عاشوه خلال العقود المنصرمة.