لقد عرف بنجامين فرانكلين أنه ذكي، بل أكثر ذكاء من معظم نظرائه، لكنه كان أيضاً ذكياً بما فيه الكفاية ليفهم أنه لا يستطيع أن يكون محقاً في كل شيء. لهذا قال إنه كلما كان على وشك أن يدلي برأيه في نقاش ما، فإنه يبدأ بقول شيء على غرار: "قد أكون على خطأ، ولكن ...". إنّ قول ذلك جعل الناس يشعرون بالراحة وساعدهم على تقبل اختلاف الرأي والاستماع إلى وجهات نظر الآخرين بطريقة أكثر موضوعية ، كما ساعده ذلك نفسياً أيضاً ليكون منفتحاً على الأفكار الجديدة.
يشهد التاريخ أننا نميل إلى اختيار القادة السياسيين ورجال الأعمال الذين يتميزون بالصلابة والحزم والوضوح، ولكن الأبحاث تشير إلى أنّ القيادة التي نحتاجها تتميز بعكس ذلك، أي بالإبداع والمرونة. فنحن بحاجة إلى أشخاص يمكن أن يصبحوا مثل فرانكلين في ذكائه وإرادته القوية بما فيه الكفاية لإقناع الناس بإنجاز أشياء عظيمة، وفي الوقت نفسه التمتع بمرونة كافية للتفكير بشكل مختلف، والاعتراف بالخطأ، والتكيف مع الظروف المتغيرة. إنّ تغيير أساليبنا وعقولنا أمر صعب ولكنه مهم في عصر تلوح فيه مخاطر زعزعة الاستقرار دوماً في الأفق. في الثقافة الشعبية، قد نطلق على هذا النوع من المرونة المعرفية اسم "الانفتاح العقلي". ومع تزايد الانقسامات في المجتمع، فإنّ بقاء أعمالنا ومجتمعاتنا قد يعتمد بشكل كبير على قادتنا الذين يتمتعون بهذه المرونة، بدءاً من البرلمان وحتى درجة كبار المسئولين التنفيذيين.
لسوء الحظ، ظل الأكاديميون يتجادلون لعقود في دوائر مفرغة حول تعريف الانفتاح العقلي، وما قد يجعل الشخص أقل انفتاحاً أو أكثر انفتاحاً، وهو ما يرجع جزئياً إلى عدم وجود طريقة موثوقة لقياس مثل هذه الأشياء. لكن في الآونة الأخيرة، أعطانا علماء النفس طريقة أفضل للتفكير في الانفتاح العقلي، بل وتحديده كمياً.
حدثت هذه النقلة النوعية عندما بدأ الباحثون باللعب بمفهوم يرجع أصله إلى الدين وهو مفهوم "التواضع الفكري". كان الفلاسفة يدرسون لماذا يتشبث بعض الناس بالمعتقدات الروحية الخاطئة بعناد حتى عند عرض دليل يفيد بضرورة تخليهم عنها، ولماذا يتبنى آخرون بسرعة معتقدات جديدة بديلة. ذكر الفلاسفة إنّ التواضع الفكري هو الفضيلة التي تقع في الوسط بين هذين التجاوزين، وهو الاستعداد للتغيير مع التحلي بالحكمة اللازمة لمعرفة متى لا ينبغي عليك القيام بذلك.
قبل بضع سنوات، بدأ علماء من جامعات مختلفة بنقل هذه الفكرة إلى عالم علم النفس اليومي، ثم في عام 2016 قام أساتذة من جامعة بيبرداين بتقسيم مفهوم التواضع الفكري إلى أربعة عناصر ونشروا تقييماً لقياسها. العناصر الأربعة هي:
1- احترام وجهات نظر الآخرين.
2- عدم الثقة المفرطة بالأفكار الخاصة.
3- فصل "الأنا" عن الأفكار الشخصية.
4- استعداد المرء لإعادة النظر في وجهة نظره.
سوف يسجل الشخص المتواضع فكرياً درجة عالية على كل هذه الأصعدة، ولكن من خلال تقسيم المفهوم على هذا النحو، توصل أساتذة جامعة بيبرداين إلى طريقة ذكية للمساعدة في تحديد ما يعرقل التعامل بعقلية متفتحة. (سجلت شخصياً درجة منخفضة فيما يخص فصل "الأنا" عن أفكاري!).
ومع ذلك، يرى الفلاسفة الذين ركّزوا عملهم على هذه المفاهيم أنّ هناك عقبات أخرى غير هذه. يشرح جيسون بير من جامعة لويولا ماريماونت: "أنا شخص صعب من هذا الجانب". يُعرّف بير الانفتاح العقلي على أنه سمة "الاستعداد والقدرة في حدود الممكن على تجاوز وجهة النظر المعرفية الافتراضية من أجل التعرف بجدية على مزايا وجهة النظر المعرفية المختلفة". تتلخص وجهة نظره في أنه يمكنك أن تكون متواضعاً فكرياً (أي منفتحاً على تغيير رأيك في الأشياء)، ولكن إذا كنت لا تشعر بالفضول الكافي للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، فأنت لست في الحقيقة منفتحاً عقلياً بالقدر الكافي.
ومع ذلك، يشير الدكتور بير إلى سمة ضمن نموذج السمات الشخصية "الخمس الكبرى" الذي تم اختباره منذ وقت طويل ويساعد في سد هذه الفجوة. هذه السمة هي "الانفتاح على التجربة" أو الرغبة في تجربة أشياء جديدة أو الحصول على معلومات جديدة. إذا كان الانفتاح على التجربة يعني أنك ترغب في تجربة آيس كريم بنكهة النعناع، فإنّ التواضع الفكري يعني أنك على استعداد لقبول إعجابك به، حتى وإن ظننت في البداية أنه لن يعجبك. من المرجح أن يكون الشخص الذي يحرز درجات عالية في كلا الموقفين لديه القدرة على الاستماع للناس، بغض النظر عمن هم، ولديه نوع من المرونة المعرفية التي تمتع بها بن فرانكلين بعد الاستماع إليهم.
من أجل كتابي الأخير "فرق الأحلام" (Dream Teams)، قمت بمزج التقييمين التاليين، وهما اختبار بيبردين للتواضع الفكري واختبار الانفتاح على التجربة ضمن نموذج السمات "الخمس الكبرى"، وأجرينا سلسلة من الدراسات على آلاف العمال الأميركيين لإيجاد علاقات متبادلة بين الأشخاص المنفتحين والطريقة التي يعيشون ويعملون بها. يمكنك إجراء هذا التقييم على نفسك. أشارت النتائج إلى أنّ معظم الناس يبالغون في تقدير أنفسهم، حيث صنف 95% من الناس أنفسهم على أنهم أكثر انفتاحاً من المستوى المتوسط، وهذا بالطبع لا يمكن أن يكون صحيحا! إلا أنّ ذلك يشير إلى أنّ معظم القادة لا يعرفون حجم التواضع الفكري الذي يمارسونه في عملهم.
أظهرت دراساتي أنّ أنشطة معينة ترتبط عموماً بتواضع فكري أعلى في جميع المجالات، فالسفر كثيراً أو حتى العيش لفترات طويلة في بلدان أجنبية والاختلاط بثقافات شعوبها يجعلنا أكثر رغبة في إعادة النظر في وجهات نظرنا. بعد كل هذا، إذا عرفنا أنه من الصحيح تماماً أن نعيش بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نعيش بها حالياً، فمن المنطقي أن تتحسن درجة قبول عقولنا طرق التعاطي الجديدة مع مشاكل العمل. ويتوافق هذا مع الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب حول دور السرد القصصي في مساعدة الأشخاص على التعاطف مع الآخرين، حيث يميل قراء القصص الخيالية إلى تسجيل درجات أعلى في التواضع الفكري، وربما يرجع ذلك إلى أنّ عقولهم مدربة بشكل أفضل قليلاً على البحث عن قصص تختلف عن قصصهم الخاصة، والنظر في احتمال صلاحية تجارب الآخرين وآرائهم. تكشف لنا الأبحاث التمهيدية أيضاً أنّ ممارسة التأمل الذهني ومعرفة جميع التفاصيل عن "الأنا" الخاصة بك باستخدام إطار عمل مثل الإنياجرام، وهو أحد نماذج تحليل الشخصية الشهيرة حول العالم، وتعلم المزيد عن نظرية الأسس الأخلاقية من خلال برامج مثل "منصة العقل المنفتح" Open Mind Platform يمكن أن يساعدنا على العمل بتواضع أكثر.
هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به لاستكشاف طرق لزيادة تواضعنا الفكري، بما في ذلك البحث في كيفية زيادة الدرجات التي نسجلها بشكل نهائي في كل عامل من العوامل المؤثرة في ذلك. ولكن في الوقت الراهن، يعرض بن فرانكلين خطوة واحدة على الأقل يمكننا القيام بها جميعاً بشكل فوري، وقد استخدمها شخصياً لأنه أراد أن يتعلم ويتطور ويعمل على التنفيس عن ثقته الفكرية. فلم تكن الخدعة القائلة بأنه "قد يكون على خطأ" مجرد وسيلة لجعل خصومه في المحادثة أقل دفاعية فقط، بل استخدمها أيضاً كطريقة لإجبار نفسه على أن يكون منفتحاً ومتقبلاً لتغيير رأيه. في النهاية، إذا كان الشخص قد رد بالحجة وفاز في نقاش، فلا يزال بإمكانه أن يقول: "انظر.. لقد قلت أنني على حق ولكني قد أكون على خطأ، وقد كنت كذلك بالفعل!".