يضع التفكير التقليدي العمل في كفة وما تبقى من حياتنا في كفة أخرى. لكن اتخاذ خطوات ذكية للدمج بين العمل والبيت والمجتمع والذات في بوتقة واحدة سيجعلكم قادة أكثر إنتاجية، وأشخاصاً أكثر شعوراً بالإنجاز.
في أبحاثي وأعمال الإرشاد والتوجيه التي اضطلعت بها على مدار العقدين الماضيين المتعلقة الغنى والقيادة، قابلت العديد من الناس الذين يشعرون أنهم قد حققوا إنجازات في حياتهم، أو أنهم معرضون لضغوط شديدة، أو أنهم يراوحون مكانهم لأنهم يتنازلون عن حسن الأداء في واحد أو أكثر من جوانب حياتهم. فهم لا يستغلون قدراتهم القيادية في جميع مناحي حياتهم من عمل وبيت ومجتمع وذات (العقل والجسد والروح). بطبيعة الحال، سيظل هناك شيء من التوتر القائم بين مختلف الأدوار التي نؤديها في الحياة. ولكن خلافاً للحكمة الشائعة، ليس هناك من سبب للاعتقاد أننا أمام لعبة ليس فيها مجال إلا للربح أو الخسارة. فالمنطقي أكثر هو أن تسعوا كقادة إلى تقديم أداء متميز في جميع هذه المجالات الأربعة - وتحقيق ما أطلق عليه اسم "الانتصارات الرباعية الاتجاه" - وليس مقايضة واحد بالآخر، وإنما العثور على القيمة المشتركة بينها.
هذه هي الفكرة المركزية في برنامج أسميه "القيادة الكلية" الذي أدرسه في كلية وارتون، وفي شركات، وورش عمل في أنحاء العالم. انتقيت كلمة "الكلية" لأن البرنامج هو حول الشخص بأكمله، بينما وقع اختياري على كلمة "قيادة" لأن الغاية هي تحقيق تغيير مستدام لا يكون لفائدتكم فقط وإنما لفائدة أهم الأشخاص المحيطين بكم.
تبدأ عملية وضع علامات للانتصارات رباعية الاتجاه بتبني نظرة واضحة لما تريدونه لكل مجال من مجالات حياتكم، وما يمكنكم تقديمه لكل واحد منها، الآن وفي المستقبل، مع إيلاء الاعتبار المتأني للناس الأهم بالنسبة لكم والتوقعات الموجودة لدى كل واحد منكم تجاه الآخر. تأتي بعد ذلك خطوة التصميم والتنفيذ المنهجيين لتجارب مصاغة بعناية - أي فعل شيء جديد لفترة قصيرة من الزمن لتروا كيف يؤثر على المجالات الأربعة كلها. وإذا لم تنجح تجربة معينة، بوسعكم إيقافها وتعديلها، ولا تكونون بذلك قد خسرتم الكثير. وإذا ما نجحت، فإنها تشكل نصراً صغيراً، ومع مرور الوقت، تتراكم هذه الانتصارات بحيث تتركز جهودكم الإجمالية بصورة متزايدة على الأشياء والناس الأهم. ولكن في كلتا الحالتين، ستتعرفون أكثر على طريقة قيادتكم في هذه الأجزاء الأربعة كلها من حياتكم.
لا تحتاج هذه العملية إلى مجازفة زائدة. لا بل على العكس من ذلك، هي تنجح لأنها تنطوي على توقعات واقعية، وتغييرات قصيرة الأجل خاضعة لسيطرتكم، والدعم الصريح من محيطكم. لنأخذ مثلاً كينيث تشين، وهو مدير التقيته في ورشة عمل في 2005. (جميع الأسماء الواردة في المقال هي أسماء وهمية لشخصيات حقيقية). كان هدفه المهني هو أن يصبح الرئيس التنفيذي، لكن كانت لديه أهداف أخرى أيضاً، ربما بدت ظاهرياً متعارضة ومتضاربة. كان قد انتقل مؤخراً إلى فيلادلفيا وأراد المزيد من الانخراط في مجتمعه. كما رغب في تعزيز الأواصر مع عائلته. ولكي يمضي قدماً في تحقيق كل هذه الأهداف، قرر الانضمام إلى مجلس إدارة منظمة مجتمعية في مدينته، الأمر الذي لم يكن ليسمح له بصقل مهاراته القيادية فحسب (دعماً لهدفه المهني) وإنما كان سيضمن له تحقيق مكاسب أيضاً على الصعيد العائلي. وكانت هذه الخطوة ستعزز القواسم المشتركة بينه وبين شقيقته المدرسة التي كانت تتبرع بوقتها كل يوم لصالح المجتمع، وكان يأمل بمشاركة خطيبته أيضاً، بحيث يمكنهما ذلك من فعل شيء ما معاً خدمة للصالح العام. كما أن ذلك سينعش روحه أكثر، وهذا بدوره سيزيد من ثقته بنفسه في العمل.
الآن، وبعد مرور ثلاث سنوات تقريباً، يقول كينيث إنه لا يشغل عضوية مجلس إدارة المنظمة المجتمعية إلى جانب خطيبته فحسب، وإنما هو على مسار رسمي لخلافة الرئيس التنفيذي في منصبه أيضاً. وهو قائد أفضل في جميع جوانب حياته لأنه يتصرف بطرق أكثر اتساقاً مع قيمه. كما أنه يعزز أداءه بأسلوب خلاق في جميع مجالات حياته ويقود الآخرين إلى تحسين أدائهم من خلال تشجيعهم على تحقيق تكامل أفضل في الأجزاء المختلفة من حياتهم أيضاً.
ليس كينيث وحيداً. فالمشاركون في ورشة العمل يُخضَعُون أنفسهم للتقويم في بداية البرنامج ونهايته، وهم يعلنون بصورة متسقة عن تحسينات في فاعليتهم، إضافة إلى إحساس بقدر أكبر من الانسجام بين مجالات حياتهم التي كانت تتنافس يوماً.
في دراسة امتدت على مدار أربعة أشهر وشملت أكثر من 300 مهني في قطاع الأعمال (يبلغ متوسط عمرهم 35 سنة تقريباً)، ازداد معدل رضاهم وسطياً بما يقارب 20% عن حياتهم المهنية، و28% عن حياتهم الأسرية، و31% عن حياتهم المجتمعية. ولعل الأهم هو أن رضاهم في مجال الذات - صحتهم الجسدية والعاطفية ونموهم الفكري والروحي – ازداد بمقدار 39%. لكنهم أفادوا أيضاً بتحسن أدائهم في العمل (بنسبة 9%)، وفي البيت (15%)، وفي المجتمع (12%)، وعلى المستوى الشخصي (25%). تكمن المفارقة في الأمر في أن هذه المكاسب تحققت حتى مع أن المشاركين أمضوا وقتاً أقل في العمل، ووقتاً أطول في الجوانب الأخرى لحياتهم. وهم يعملون بطريقة أذكى – وهم أكثر تركيزاً وشغفاً والتزاماً بما يقومون به.
رغم خضوع مئات القادة، وعلى جميع المستويات، لهذا البرنامج كل عام، إلا أنكم لستم بحاجة إلى ورشة عمل لتحديد التجارب التي تستحق أن تُخاض. فالطريقة واضحة ومباشرة تماماً، وإن كانت غير بسيطة. في الأقسام التالية من هذا المقال، سأعطيكم لمحة عن العملية، وأطلعكم خطوة بخطوة على أساسيات تصميم التجارب وتنفيذها للوصول إلى الانتصارات رباعية الاتجاه.
عملية القيادة الكلية
يستند مفهوم القيادة الكلية إلى ثلاثة مبادئ:
كونوا واقعيين: تصرفوا بطريقة حقيقية من خلال توضيح ما هو مهم.
كونوا متكاملين: تصرفوا بطريقة متكاملة من خلال احترام الإنسان بأكمله.
كونوا مُبتكرين: تصرفوا بطريقة خلاقة من خلال تجريب طرق مختلفة لإنجاز الأشياء.
ابدؤوا العملية بالتفكير والكتابة والحديث مع أقرانكم من الموجهين لتحديد قيمكم الأساسية، ورؤيتكم للقيادة، ومدى التوافق الحالي بين تصرفاتكم وقيمكم - وتوضيح ما هو هام. يُعتبرُ التوجيه الذي يقدمه الأقران أمراً قيماً للغاية، في هذه المرحلة وخلال كل المراحل، لأن وجود منظور خارجي يوفر لكم أذناً صاغية لسماع أفكاركم والتعليق عليها، ويتحداكم، ويمنحكم طريقة جديدة لرؤية الاحتمالات الممكنة للابتكار، ويساعدكم في تحمل مسؤولية التزاماتكم.
بعد ذلك حددوا الناس الأهم – الذين سأسميهم "المعنيين الأساسيين" - في جميع المجالات، وتوقعات الأداء المتبادلة بينكم وبينهم. ثم تحدثوا إليهم: إذا كنتم مثل معظم المشاركين، فإنكم ستفاجؤون عندما تكتشفون أن ما يحتاجه المعنيون الأساسيون منكم، وحجم ما يحتاجونه، يختلفان تماماً عما كنتم تعتقدونه سابقاً، وأقل بكثير مما تتوقعون.
التجارب الفضلى هي التغييرات التي يتوق المعنيون الأساسيون من حولكم إلى رؤيتها لديكم بذات توقكم لرؤيتها، إن لم يكن أكثر.
تمنحكم هذه الاستنتاجات فرصاً لتركزوا انتباهكم بطريقة أذكى، مما يشجعكم على القيام بأفعال مبتكرة. الآن، وبعد أن تكون الأرضية الصلبة قد تشكلت بخصوص الأهم، وبعد تكون صورة أكثر اكتمالاً عن دائرتكم الداخلية، ستبدؤون برؤية طرق جديدة لتحسين حياتكم، وحياة من حولكم أيضاً.
تتمثل الخطوة التالية في تصميم التجارب، ومن ثم اختبارها ضمن فترة زمنية مضبوطة. والتجارب الفضلى هي التغييرات التي يتوق المعنيون الأساسيون من حولكم إلى رؤيتها لديكم بذات توقكم لرؤيتها، إن لم يكن أكثر.
تصميم التجارب
السعي وراء تحقيق "الانتصارات رباعية الاتجاه" يعني إدخال تغيير تتمثل الغاية منه في تحقيق عدة أهداف تفيد كل منحى من مناحي حياتكم. في مجال العمل، يمكن لقائمة الأهداف المعتادة لتجربة معينة أن تندرج تحت واحد من العناوين العريضة التالية: اغتنام الفرص الجديدة لزيادة الإنتاجية، والتقليل من التكاليف المخفية، وتحسين بيئة العمل. أما الأهداف الخاصة بالبيت والمجتمع فتميل إلى التموضع حول تحسين العلاقات وتقديم إسهامات إضافية إلى المجتمع. وفيما يخص الذات، عادة ما يتعلق الهدف بتحسين الصحة والعثور على معنى أكبر في الحياة.
عندما تفكرون في الأهداف التي تريدونها من تجاربكم، تذكروا دائماً مصالح المعنيين الأساسيين من حولكم، وآراءهم هم وأي شخص آخر قد يتأثر بالتغييرات التي ترونها. فعندما كان كينيث تشين يستكشف فكرة الانضمام إلى مجلس إدارة المنظمة المجتمعية، على سبيل المثال، طلب المشورة من مديره، الذي كان عضواً في العديد من هذه المجالس، وكذلك من مدير القسم الخيري في الشركة، ومن نائب الرئيس لشؤون المواهب. بهذه الطريقة، حصل على دعمهم. وبالنسبة لموظفيه، فقد كان بوسعهم أن يروا كيف ستكون مشاركته في مجلس إدارة منظمة مجتمعية معينة مفيدة للشركة من خلال تطوير مهارات كينيث القيادية وشبكته الاجتماعية.
بعض التجارب قد تكون مفيدة لمجال واحد فقط بشكل مباشر، في حين تكون فائدتها بالنسبة للمجالات الأخرى غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، تخصيص ثلاث مرات في الصباح كل أسبوع لممارسة الرياضة يحسن الصحة مباشرة لكنه قد يمنحكم بصورة غير مباشرة المزيد من الطاقة لمزاولة عملكم بهمة أكبر، ويرفع من تقديركم لذاتكم، وهذا بدوره قد يجعلكم آباءً أو أصدقاء أفضل. وثمة أنشطة أخرى - مثل المشاركة في سباق نصف ماراثون مع أطفالنا لجمع التبرعات لصالح جمعية خيرية ترعاها شركتنا – تحصل في المجالات الأربعة جميعها في وقت واحد، وتكون مفيدة لها جميعاً. وسواء أكانت المنافع مباشرة أو غير مباشرة، فإن تحقيق نصر رباعي الاتجاه هو - الهدف. وهذا ما يجعل التغييرات مستدامة، لأن الجميع يستفيد. لكن المكاسب المتوقعة قد لا تتحقق إلا في وقت ما في المستقبل، لذلك تذكروا أن بعض المنافع قد لا تكون واضحة - مثل التقدم بعيد المدى في المسار المهني، على سبيل المثال، أو التعرف على شخص معين قد يقودكم إلى إقامة علاقات قيمة في نهاية المطاف.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
الحياة هي لعبة ليس فيها مجال إلا للربح أو الخسارة، أليس كذلك؟ فكلما سعيتم أكثر نحو الفوز في أحد الجوانب (مثل العمل)، يجب على الجوانب الثلاثة الأخرى (الذات والبيت والمجتمع) أن تعاني من خسارة أكثر. لكن فريدمان لا يرى الأمر من هذا المنظار. فأنتم لستم مضطرين إلى المقايضة بين مختلف مناحي الحياة، ولا يجب عليكم إجراء هكذا مقايضة لأنها يمكن أن تقودكم إلى شعور بالإنهاك، أو عدم تحقيق الهدف، أو العزلة. كما أنها تؤذي أهم الناس في حياتكم.
المقاربة
إذا أردتم التميز في جميع مناحي الحياة، استعملوا عملية يطلق عليها فريدمان اسم "القيادة الكلية". أولاً، حددوا أهم الأشخاص والأشياء في حياتكم. ثم جربوا من خلال إدخال تغييرات صغيرة تعزز رضاكم وأداءكم في الجوانب الأربعة كلها. على سبيل المثال، ممارسة الرياضة ثلاث مرات في الصباح كل أسبوع تمنحكم الطاقة التي تحتاجونها في العمل، وتحسن من تقديركم لذاتكم وصحتكم، مما يجعلكم أهلاً أو أصدقاءً أفضل.
النتائج
تشير أبحاث فريدمان إلى أن الناس الذين يركزون على مفهوم القيادة الكلية يحققون زيادة بنسبة 20% إلى 39% في رضاهم عن جميع مناحي حياتهم، وتحسناً بنسبة 9% في الرضا الوظيفي – حتى لو كانوا يعملون لعدد أقل من الساعات في الأسبوع.
حددوا الاحتمالات الممكنة. كونوا منفتحي الذهن على ما هو ممكن، وحاولوا أن تفكروا بأكبر عدد ممكن من التجارب، واصفين بجملة واحدة أو جملتين ما الذي ستفعلونه في كل واحدة منها. هذا هو الوقت المناسب لتطلقوا العنان لخيالكم. لا تقلقوا عند هذا الحد من جميع العوائق المحتملة.
من النظرة الأولى، قد تبدو مهمة تخيل تجارب تحقق مكاسب في جميع العوالم المختلفة مهمة شاقة. ففي نهاية المطاف، لو كانت سهلة، لما كان الناس سيشعرون بهذا القدر من التوتر بين العمل والراحة في حياتهم. لكنني وجدت أن معظم الناس يدركون أن الأمر غير صعب جداً عندما يواجهون التحدي بطريقة منهجية.
وكما هو حال الأحجية، فإن هذا التمرين يمكن أن يكون ممتعاً، ولاسيما إذا أخذتم بالاعتبار أن التجارب يجب أن تتناسب مع ظروفكم الخاصة. ويمكن للتجارب أن تتخذ عدداً هائلاً من الأشكال وهي فعلاً كذلك. لكن أنا وفريق الأبحاث لدي وبعد أن راجعنا تفاصيل تصاميم مئات التجارب توصلنا إلى أن هذه التجارب تندرج عادة ضمن تسعة أنماط عامة. بوسعكم الاستعانة بالأنماط التسعة الموصوفة في الشكل الذي يحمل عنوان "كيف بوسعي أن أصمم تجربة لتحسين جميع مجالات حياتي؟" لكي تنظموا أفكاركم.
تشمل إحدى فئات التجارب إدخال تغييرات على مكان إنجاز العمل وزمانه. حاول أحد المشاركين في ورشة عمل، وهو مدير مبيعات لدى شركة عالمية متخصصة بإنتاج الإسمنت، أن يعمل عن طريق الإنترنت من المكتبة العامة في منطقته مرة في الأسبوع ليحرر نفسه من الرحلة الطويلة التي يقضيها في التنقل بين بيته وعمله. كان ذلك بمثابة خروج عن ثقافة الشركة التي لم تكن تقليدياً تدعم فكرة عمل الموظفين عن بعد، لكن هذا التغيير كان مفيداً للجميع. فقد أصبح لديه وقت أطول للاهتمامات الخارجية، وكان أكثر تفاعلاً مع العمل، وأكثر إنتاجية فيه.
هناك فئة أخرى لها علاقة بالتأمل الذاتي المنتظم. فعلى سبيل المثال، بوسعكم الاحتفاظ بسجل يضم أنشطتكم، وأفكاركم، ومشاعركم على مدار شهر لتروا كيف تؤثر الأفعال المتنوعة على أدائكم، وجودة حياتكم. ومع ذلك فإن هناك فئة أخرى تركز على تخطيط وقتكم وتنظيمه، مثل تجريب تكنولوجيا جديدة تنسق ما بين الالتزامات في العمل والالتزامات في المجالات الأخرى.
عادة ما تميل المحادثات الخاصة بالعمل وبقية مناحي الحياة إلى التشديد على الفصل بينها وتقسيمها إلى فئات مختلفة: كيف ابتعد عن عملي المكتبي عندما أكون مع عائلتي؟ كيف بوسعي التخلص من كل ما يشتت ذهني لأركز انتباهي الكامل على العمل؟ ولكن في بعض الحالات، قد يكون من الأفضل رسم حدود مائعة بين مختلف مناحي الحياة وليس حدوداً سميكة. فذات التكنولوجيات التي تصعب علينا المحافظة على حدود فاصلة صحية بين مختلف المجالات تمكننا من مزجها بطرق لم تكن تخطر في بال أحد قبل عقد من الزمن، وبوسعها أن تجعلنا أكثر إنتاجية وأكثر شعوراً بالإنجاز. وهذه الأدوات تمنحنا الخيارات. لكن التحدي الذي نواجهه جميعاً هو أن نتعلم كيف نستخدمها بحكمة، والتجارب الذكية تمنحكم الفرصة لزيادة مهاراتكم في فعل ذلك. تتمثل النقطة الأساسية في تحديد الاحتمالات الممكنة التي ستنجح بشكل جيد في وضعكم الخاص.
تتطلب التجارب الفاعلة كلها تشكيكاً في الافتراضات التقليدية بخصوص كيفية إنجاز الأشياء، تماماً كما فعل مدير المبيعات. من الأسهل أن تشعروا أنكم أحرار في فعل ذلك، وأن تُقدِموا على فعل مُبتكر، عندما تعلمون أن هدفكم هو تحسين الأداء في جميع المجالات وأنكم ستجمعون البيانات حول أثر تجربتكم لتقرروا إذا ما كانت تنجح بحق - بالنسبة لكم وللمعنيين الأساسيين من حولكم.
مهما كان النوع الذي تختارونه، فإن التجارب الأنفع تبدو من النوع السهل الممتنع، فهي ليست لا شديدة السهولة ولا مضنية في الوقت ذاته. قد تكون مهمة عادية جداً في نظر شخص آخر، لكن ذلك لا يهم. فالأمر الأساسي جداً هو أنكم ترونها بمثابة تحد معتدل الصعوبة.
اختاروا بضعة منها، وانطلقوا، وتكيفوا. وضع الاحتمالات الممكنة هو تمرين يقوم على إطلاق العنان للمخيلة. ولكن عندما يحين موعد الفعل، من غير العملي اختبار أكثر من 3 تجارب في وقت واحد. في العادة، يتضح أن تجربتين منهما ناجحتان نسبياً في حين أن الثالثة تخفق أو تخرج عن المسار المرسوم، لذلك ستحققون بعض المكاسب الصغيرة، وستتعلمون شيئاً مفيداً عن القيادة، دون أن تتكبدوا مشقة مهمة تفوق طاقتكم على الاحتمال. تتمثل الأولوية الآن في تضييق القائمة إلى أكثر ثلاث تجارب مرشحة واعدة من خلال مراجعتها وتحديد أيها:
ستمنحكم أفضل عائد إجمالي على استثماركم
ستكون الأكثر تكلفة من حيث الندم والفرص الفائتة إذا لم تفعلوها
ستسمح لكم بالتدرب على أكثر مهارات قيادية تريدون تطويرها
ستكون الأكثر إمتاعاً من خلال تضمينها المزيد مما تريدون فعله
ستقربكم أقرب مسافة ممكنة نحو رؤيتكم الخاصة بالطريقة التي تريدون أن تعيشوا حياتكم بها
ولكن بعد أن تختاروا تجربتكم وتبدؤوا بالسير في طريق تنفيذها، استعدوا للتكيف مع الأحداث غير المنظورة. لا تغرقوا في بحر التفاصيل الخاصة بخطة أي تجربة معينة، لأنكم ستُفاجؤون في لحظة ما وستحتاجون إلى إدخال تعديل. اختار أحد التنفيذيين، ودعوني اسميه ليم، تجربة تتمثل في الجري في ماراثون شيكاغو. كان يشعر أن وزنه يزداد، وهذا بدوره قلل من طاقته وتركيزه في العمل وفي البيت. كانت زوجته جوانا حاملاً بطفلهما الأول وهي دعمت الخطة في بادئ الأمر لأنها كانت تؤمن أن التركيز الذي كان يحتاجه التدريب والمردود البدني الذي يعطيه سيوفران له ما سيجعل من ليم أباً أفضل. كما كان لدى العائلة تراث عريق في ممارسة الرياضة، وجوانا نفسها كانت رياضية من أصحاب الإنجازات. كان ليم يتدرب مع مديره وزملائه الآخرين، واتفقوا جميعاً على أن هذه الخطوة ستكون مجهوداً صحياً سيحسن من التواصل المهني (بما أنهم كانوا يعتقدون أنه سيكون هناك ما يكفي من الوقت للتآلف وتمتين الأواصر بينهم أثناء التدريب).
ولكن مع اقتراب موعد وضع جوانا لمولودها، بدأت تشعر بالخوف وعبرت لليم عن خشيتها من أنه قد يُصاب. لكن خوفها الحقيقي كان من أنه يقضي وقتاً زائداً عن اللزوم في النشاط الرياضي إلى الحد الذي قد يستنزف طاقته في لحظة ما عندما تكون العائلة بأمس الحاجة إليه. واحد من التعديلات التي أجراها ليم لتطمين جوانا وتأكيد التزامه بالعائلة هو إطلاق تجربة جديدة اتخذ فيها الخطوات المطلوبة التي تسمح له بالعمل انطلاقاً من البيت بعد الظهر في أيام الخميس. كان مضطراً إلى استخدام تكنولوجيات جديدة، والموافقة على إرسال مذكرة شهرية إلى مديره تلخص ما كان ينجزه خلال فترات بعد الظهر هذه. كما اشترى أيضاً حمالة أطفال يضعها حول صدره مما يسمح له بإبقاء ابنه الجديد معه أثناء وجوده في البيت.
في النهاية، لم تكن جوانا ورضيعها قريبين من ليم لإسعاده أثناء جريه في الماراثون، وإنما انتهى بها المطاف وقد انضمت إليه في النصف الثاني من السباق لتعطيه دفعة إيجابية عندما رأت طاقته تتراجع. أما أرقام قسمه التجاري فقد تحسنت خلال الفترة التي كان يتدرب فيها ويعمل انطلاقاً من البيت. وتحسنت المعنويات في قسمه أيضاً - فقد بدأ الموظفون ينظرون إلى الشركة على أنها أكثر مرونة، وشجعهم ذلك على أن يكونوا خلاقين أكثر في طريقة إنجاز أعمالهم - وعم الخبر في أرجاء المكان. بدأ التنفيذيون في عموم الشركة بطرح أفكارهم الجديدة بخصوص الطرق التي تسمح لهم بإبداء اهتمام أكبر بالجوانب الأخرى في حياة موظفيهم، بما يساعدهم في بناء إحساس أكبر بالروح الجماعية في العمل.
إن الاستثمار في تجربة مصممة تصميماً جيداً يُؤتي أكُلَهُ دائماً لأنكم تتعلمون كيف تعيشون كل جانب من جوانب حياتكم بطرق خلاقة وجديدة. وإذا ما أفضت تجاربكم إلى نتائج إيجابية - كما هو الحال عادة ولكن ليس دائماً - فإن ذلك سيكون مفيداً للجميع: لكم، ولشركتكم، ولعائلتكم، ومجتمعكم.
قياس التقدم المحرز
الطريقة الوحيدة للفشل في تجربة ما هي الفشل في التعلم منها، وهذا يجعل المقاييس المفيدة أمراً جوهرياً. لا شك أن من الأفضل أن تحققوا النتائج التي تسعون إليها على أن تفشلوا، لكن تحقيق المستهدفات لا ينقلكم بحد ذاته إلى تبوؤ مكانة القائد التي تطمحون إلى تبوئها. فالتجارب الفاشلة، تمنحكم أنتم ومن حولكم المعلومات التي تساعدكم في صياغة تجارب أفضل في المستقبل. يبين الشكل الذي يحمل عنوان "كيف أعلم إذا كانت تجربتي ناجحة؟" كيف قاس كينيث تشين تقدمه المُحرز. وقد استعمل هذا الجدول البسيط لتحديد المنافع المنشودة من تجربته في كل واحد من المجالات الأربعة، وكيف سيقوّم ما إذا كان قد حقق هذه المنافع أم لا. ولكي تنشئوا جدولكم الخاص بكم، استعملوا ورقة منفصلة لكل تجربة، في أعلى الصفحة، اكتبوا توصيفاً مختصراً لها، ثم سجلوا أهدافكم لكل مجال في العمود الأول. وفي العمود الأوسط، صفوا مقياس نتائجكم، أي كيف ستقيسون ما إذا كانت أهدافكم في كل مجال قد تحققت أم لا. وفي العمود الثالث صفوا مقياس أفعالكم - الخطة الخاصة بالخطوات التي ستتخذونها لتنفيذ تجربتكم. بعد أن تبدؤوا بتنفيذ خطتكم، قد تجدون أن مؤشراتكم الأولية عمومية أو غامضة زيادة عن اللزوم، لذلك نقحوا جدولكم مع مرور الوقت ليكون أكثر فائدة لكم. النقطة الأساسية هي أن تكون لديكم طرق عملية لقياس نتائجكم والتقدم الذي تحرزونه باتجاهها، والمقاربة التي تبنونها يجب أن تكون ناجحة بالنسبة لكم وللمعنيين الأساسيين من حولكم فقط.
في العادة، يتضح أن تجربتين تنجحان نسبياً في حين أن الثالثة تخفق أو تخرج عن المسار المرسوم.
استعمل المشاركون في ورش العمل كل أنواع المقاييس مثل التوفير في التكاليف جراء تقليل السفر، وعدد حالات سوء التفاهم المتجنبة، ودرجة الرضا عن وقت العائلة، والساعات المخصصة للتطوع في مركز للشباب، وهكذا دواليك. يمكن للمقاييس أن تكون موضوعية أو ذاتية، وكمية أو نوعية، ورأيكم أنتم أو رأي غيركم، وقابلة للملاحظة بشكل متكرر أو متقطع. عندما يتعلق بالتواتر، مثلاً، قد يكون من المفيد أن تأخذوا بالحسبان طول المدة التي ستكونون قادرين خلالها على تذكر ما فعلتم. على سبيل المثال، إذا كنتم تتبعون حمية صحية لكي تحسنوا صحتكم، وتزيدوا من طاقتكم، وتحسنوا علاقاتكم الأساسية، فإن كمية الطعام التي تتناولونها ستكون مقياساً هاماً. لكن هل ستكونون قادرين على أن تتذكروا ما أكلتم قبل يومين؟
انتصارات صغيرة من أجل تغيير كبير
لا يجب أن تكون التجارب عبارة عن تحولات هائلة أو شاملة في طريقة حياتكم. فالتصاميم ذات الطموح المفرط تفشل عادة لأن التعامل معها قد لا يُطاق. والتجارب الفضلى هي تلك التي تدعكم تجربون شيئاً جديداً مع التقليل من المخاطر الحتمية المرافقة للتغيير إلى الحدود الدنيا. عندما تكون المهام أصغر حجماً، من الأسهل التغلب على الخوف من الفشل الذي يثبط الابتكار. فأنتم تبدؤون برؤية النتائج، والآخرون ينتبهون إليها، مما يشكل مصدر إلهام لكم للمضي قدماً ويحشد الدعم من المعنيين الأساسيين من حولكم.
ثمة منفعة أخرى من اتباع مقاربة الانتصارات الصغيرة ألا وهي أنها تفتح أبواباً ستكون خلافاً لذلك مغلقة. بوسعكم أن تقولوا للناس الذين لهم مصلحة بالقرار: "دعونا نجرب هذا. فإذا ما فشل، سنعود إلى الطريقة القديمة أو نجرب شيئاً مختلفاً". وإذا ما صورتم التجربة على أنها محاولة، فإنكم بذلك تقللون من المقاومة، لأن الناس أميل إلى تجريب شيء جديد إذا كانوا يعلمون أنه ليس دائماً، وإذا ما كانوا يمتلكون زمام السيطرة ليقرروا ما إذا كانت التجربة تسير وفقاً لتوقعاتهم الخاصة بالأداء.
كيف أعلم إذا كانت تجربتي ناجحة؟
استعمل أحد التنفيذيين، ودعونا نسميه كينيث تشين، هذه الأداة بطريقة منهجية ليحدد بالتفصيل أهدافه المختلفة، والمقاييس التي سيستعملها لقياس التقدم الذي يحرزه، والخطوات التي سيتخذها في معرض إجراء تجربة ستعزز هذه الأهداف، ألا وهي الانضمام إلى مجلس إدارة منظمة لا تتوخى الربح. جدول كينيث هذا هو مجرد مثال: فتجارب كل إنسان، وأهدافه، ومقاييسه فريدة من نوعها.
لكن كلمة "صغيرة" هي كلمة نسبية، فالخطوة التي تبدو صغيرة في نظركم قد تبدو قفزة عملاقة بالنسبة لي والعكس صحيح. لذلك لا تتعلقوا بالكلمة كثيراً. لا بل أكثر من ذلك، الأمر لا يتعلق بنطاق التغييرات التي ستتبنونها في نهاية المطاف أو أهمية هذه التغييرات. فالتغيير الواسع النطاق يستند إلى خطوات صغيرة تقود إلى فكرة كبيرة. وبالتالي رغم أن الخطوات في تجربة معينة قد تكون صغيرة، إلا أن الأهداف ليست كذلك. فقد وصف إسماعيل، وهو رائد أعمال ناجح يبلغ الخمسين من العمر ويشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة خدمات هندسية، هدف تجربته الأولى على النحو التالي: "إعادة هيكلة شركتي ومنصبي فيها". ليس هذا الهدف بالصغير أبداً. فقد شعر بأنه فاقد للبوصلة.
ثمة منفعة أخرى من اتباع مقاربة الانتصارات الصغيرة ألا وهي أنها تفتح أبواباً ستكون خلافاً لذلك مغلقة. بوسعكم أن تقولوا للناس الذين لهم مصلحة بالقرار: "دعونا نجرب هذا. فإذا ما فشل، سنعود إلى الطريقة القديمة أو نجرب شيئاً مختلفاً".
صمم إسماعيل خطوات عملية تسمح له بالاقتراب من هدفه الكبير مع مرور الوقت. كانت تجاربه الأولى صغيرة وقابلة للتحقق. استعمل طريقة جديدة يمكن لزملائه وزوجته أن يتواصلوا بها معه. بدأ يخصص وقتاً مقدساً لعائلته ولممارسة واجباته الدينية. وعندما بحث عن طرق تسمح له بتفريغ المزيد من الوقت، أطلق تجارب لتفويض المهام والسلطات إلى الآخرين الأمر الذي أسهم في تبسيط هيكلية الإدارة في مؤسسته. تقاطعت هذه الانتصارات الصغيرة مع عدد من المجالات، وفي نهاية المطاف تمكن فعلياً من إدخال تحولات على شركته وعلى منصبه فيها. عندما تحدثت إليه قبل 18 شهراً بعد أن كان قد بدأ، أقر لي أنه قد وجد صعوبة في التأقلم مع فكرة خسارة السيطرة على بعض المسائل التكتيكية في العمل، لكنه وصف تجاربه على أنها "شاهد على فكرة النصر في المعارك الصغيرة الذي يقود إلى الفوز بالحرب نتيجة لذلك". وقد شعر هو وفريق القيادة لديه بثقة أكبر تجاه الهيكلية التنظيمية الجديدة للشركة.
يجرب الناس برنامج القيادة الكلية لأسباب متنوعة. فالبعض يشعر أنه لم يحقق أهدافه لأنه لا يفعل ما يحب. البعض الآخر يشعر بأنه غير حقيقي لأنه لا يجسد عملياً قيمه التي يؤمن بها. ويشعر آخرون بشيء من الانفصال، والانعزال عن الناس الذين يعنونهم. فهم يتوقون إلى علاقات أقوى، مبنية على الثقة، ويتشوقون إلى بناء شبكات اجتماعية أغنى. وثمة آخرون يشعرون بشيء من الجمود فحسب، ويريدون تفجير طاقاتهم الخلاقة لكن لا يعرفون كيف يفعلون ذلك، وأحياناً يفتقرون إلى الشجاعة للقيام بهذه الخطوة، ويشعرون أنهم فاقدون للسيطرة وغير قادرين على التأقلم مع كل ما هو هام بالنسبة لهم.
يقول لي حدسي إن هناك انتصارات رباعية الاتجاه أكثر بكثير مما تتخيلون متاحة لكم. وهي موجودة وتنتظر من يغتنمها. يجب عليكم أن تعرفوا كيف تبحثون عنها، ومن ثم تعثرون على الدعم والحماسة للسعي وراءها. يوفر هذا البرنامج دليلاً يبين لكم كيف تكونون قادة حقيقيين وكاملين ومُبتكرين في جميع مناحي حياتكم، وهو بذلك يساعدكم على تقديم أداء أفضل وفقاً لمعايير أهم الناس في حياتكم، والإحساس بشعور أفضل في جميع مجالات حياتكم، وتعزيز حصول قدر أكبر من الانسجام بين مختلف المجالات من خلال زيادة الموارد المتاحة لكم لتتأقلموا مع جميع مراحل حياتكم معاً.
بغض النظر عن المرحلة التي وصلتم إليها في مسيرتكم المهنية أو منصبكم الحالي، بوسعكم أن تكونوا قادة أفضل وأن تتمتعوا بحياة أغنى - إذا كنتم جاهزين ومستعدين للارتقاء إلى مستوى التحدي المتعلق بالغنى والقيادة.
اقرأ أيضاً: