تعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة بأنها "حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز". فكيف يمكن كفالة الصحة في الأزمات العالمية بشكل صحيح؟
قبل هذه الجائحة العالمية، كانت المشكلات المتعلقة بالصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق تكلف الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار سنوياً، وفقاً للأمم المتحدة. وفي حين أن السلامة البدنية تتصدر الشواغل العالمية الحالية، إلا أن الصحة النفسية والاجتماعية المتدهورة تتجه إلى التحول إلى أزمة في حد ذاتها.
تأثير الظلم الاجتماعي طويل الأمد
صرح الأمين العام لمنظة الصحة العالمية أن "الاكتئاب يصيب 264 مليون شخص في العالم، وأن ما يقرب من نصف عدد الحالات المصابة باضطرابات في الصحة النفسية أُصيبت بها بداية من سن الرابعة عشرة". ويُتوقع أن يزداد هذا الرقم؛ حيث يكافح الكثيرون للتأقلم مع الواقع الذي فرضته الظروف الحالية.
تتضمن الضغوط النفسية الناجمة عن هذه الجائحة الانعزال عن العائلة والأصدقاء وزيادة فرص التعرض للإيذاء وسوء المعاملة وفقدان الوظائف ما يؤدي إلى صعوبات اقتصادية أخرى وشعور بالقلق والخوف الشديد من المستقبل. كما أن هؤلاء الذين يجدون صعوبة في التكيف أو الذين لم يتمكنوا من مواجهة التحديات التي كانت موجودة قبل أزمة فيروس كورونا، يتعرضون لخطر شديد يتمثل في عدم قدرتهم على مواجهة المحن والشدائد الناشئة عن أزمة عالمية بهذا الحجم.
اقرأ أيضاً: كيف نجحت الإدارة الحكيمة للأزمة في نيوجيرسي في تخفيف الآثار السلبية لعاصفة ساندي؟
في المنطقة العربية، حيث ساعدت هذه الجائحة على الكشف عن تحديات منهجية، ثمة أدلة على أن التهديدات التي تشكِّلها الصدمات الاجتماعية الاقتصادية قد تكون آثارها مروعة على الفئات الضعيفة التي تحتاج إلى أعلى مستوى من الحماية. فمثلاً تتحمل النساء وأصحاب الهمم ذوي الحالات الخاصة والمسنون واللاجئون العبء الأكبر لأنهم يضطرون إلى الاعتماد على آلية لا يُعول عليها للحماية الاجتماعية، ما يعني أنها ببساطة ليست معدَّة لحمايتهم، على الأقل حتى الآن.
التحديات القائمة على النوع الاجتماعي
من بين الفئات الأكثر ضعفاً، تواجه النساء مصاعب إضافية لأنهن المهيمنات على الاقتصاد العالمي غير الرسمي. حيث إن عدم الاستقرار المالي يعني بالنسبة إليهم التعافي الاقتصادي لفترة طويلة من آثار الوباء، ومع محدودية فرص الحصول على الرعاية الصحية يزيد خطر الإصابة بالفيروس.وفي حين أن الصراعات الاقتصادية تفرض تحديات كبيرة، إلا أن العيش تحت تهديد التعرض للعنف الذي لا سبيل للسيطرة عليه هو أمر آخر وقد يُعد حتى أكثر إثارة للقلق. ويتوقع صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) زيادة عدد حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي بمقدار 15 مليون حالة لكل شهر من تطبيق الحظر الشامل. وفي إحاطة إعلامية قدمها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) للدول الأعضاء، أعلن أحد كبار المسؤولين التنفيذيين أن النساء يتأثرن بالوباء أكثر من الفئات الأخرى، وأن المنظمة تركز على كفالة الصحة النفسية للجنسين مع مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي ازداد منذ بداية تفشي هذا الوباء.
النساء في الخطوط الأمامية
في الخطوط الأمامية تقود النساء والرجال من جميع أنحاء العالم المعركة ضد "كوفيد-19"، ولكن وفقاً لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن النساء يشكلن الغالبية العظمى من مقدمي الرعاية وبذلك فإنهن حتماً أكثر عرضة للإصابة بالفيروس إلى جانب الضغوط النفسية التي يواجهنها أثناء كفاحهن لتحقيق التوازن بين تقديم الرعاية الصحية والمسؤوليات العائلية.
تكثف الأمم المتحدة ووكالاتها الجهود ليس فقط لمكافحة الفيروس ولكن أيضاً لضمان الحد من تزايد أعداد المصابين بالأمراض غير المعدية، مثل تلك المتعلقة بالصحة النفسية، التي تؤثر سلباً على العاملين في الخطوط الأمامية.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للرؤساء التنفيذيين القيادة بإيثار في أوقات الأزمات؟
اتباع نهج متعدد الأطراف تجاه الصحة والرفاهة
يعتمد تحقيق التنمية المستدامة على قدرتنا على إدراك أهمية كفالة صحة سكان العالم ورفاههم. وقد اعتمدت الدول الأعضاء جدول أعمال عالمي لعام 2030 يشتمل على 17 هدفاً للتنمية المستدامة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
في أبريل/نيسان الماضي، أكد قرار الجمعية العامة بشأن التعاون الدولي لمكافحة مرض "كوفيد-19" من جديد على أهمية الحفاظ على الصحة والرفاهة وتحقيق الهدف رقم 3 من أهداف التنمية المستدامة الذي ينص على أننا يجب أن نسعى إلى "ضمان تمتُّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار".
وفي عام 2012، عقدت الأمم المتحدة اجتماعاً رفيع المستوى حول "الرفاهة والسعادة: وضع نموذج اقتصادي جديد". ومن المتوقع أن يساعد هذا النموذج الجديد في معالجة اختلال التوازن في التركيز على الاستهلاك والإنتاج، والدعوة إلى بناء مستقبل أكثر استدامة، حيث يمكن للأشخاص العيش في وئام مع الكوكب. كما أن إمكانية الحصول على الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية من المتوقع أن تساعد في ضمان الوفاء بمعايير الرفاهة، خاصة عندما تكون الصحة النفسية "جزءاً أساسياً من تحقيق الرفاهة".
أهمية تغطية الرعاية الصحية
تفرض الأزمة الصحية العالمية الحالية تحديات كبيرة أمام إحراز تقدم في التنمية المستدامة والرفاهة بوجه عام. فوفقاً للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا" (ESCWA) التابعة للأمم المتحدة، فُقدت 1.7 مليون وظيفة في المنطقة العربية، ما أدى إلى زيادة معدل البطالة الحالي بنسبة 1.2%.
ووفقاً لأحدث تقرير للأمين العام للأمم المتحدة حول التقدم المحرز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فإن "55% من سكان العالم، ما يقدر بحوالي 4 مليارات نسمة، لم يستفيدوا من أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية". كما أن "ما لا يقل عن نصف سكان العالم لا يزالون محرومين من التغطية الكاملة للخدمات الصحية الأساسية، و22% فقط من العمال العاطلين عن العمل مشمولون بإعانات البطالة". ومن المرجح أن ترتفع هذه الأعداد نظراً إلى الأزمة الصحية الحالية.
الفقدان المتزايد لتغطية الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية هو نتيجة أيضاً للارتفاع الكبير في عدد الوظائف التي فُقدت. فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية، في إحاطة عالمية قدمتها للدول الأعضاء في 11 مايو/أيار، أنه تم فقدان على الأقل 300 مليون وظيفة بدوام كامل، في حين أنه تم فقدان 20 مليون وظيفة فقط أثناء الأزمة المالية عام 2008.
اقرأ أيضاً: كيف تقود فريقك بعد ذروة الأزمة؟
تُصدر منظمة الصحة العالمية إرشادات للصحة النفسية للأطفال والبالغين الذين يواجهون ضغوطاً متزايدة أثناء أزمة "كوفيد-19". وتدعو هذه الإرشادات أيضاً إلى تقليل محفزات الضغط والقلق الأخرى. تُعد تغطية الرعاية الصحية من الأصول بالغة الأهمية لكل امرأة ورجل وطفل، خاصة في أوقات تفشي الأوبئة كالوباء الذي نواجهه في الوقت الحالي.
تمهيد الطريق للمضي قدماً من أجل كفالة الصحة في الأزمات العالمية
قد لا تكون فكرة العودة إلى "العمل بالطريقة المعتادة" مطروحة في الأفق القريب. ولكن ما نحتاج إلى فعله في الوقت الحالي هو توجيه التركيز صوب تنفيذ برامج الرعاية الصحية الوقائية وإعادة بناء بنيتنا التحتية للحماية الاجتماعية.
يُعد الشعور بالضغط والتوتر جزءاً من حياتنا اليومية ولكن الاعتقاد بأننا يمكن أن نتخلص من هذا الشعور نهائياً هو فكرة غير قابلة للتصديق وتفتقر إلى الحكمة، على عكس ما هو متوقع، حيث يجب الحفاظ على شعورنا بالتوتر الإيجابي لأنه قد يكون محركاً للتقدم. على سبيل المثال، بإلقاء نظرة فاحصة على نتائج تطبيق إجراءات التباعد الجسدي، اتضح أن هناك أدلة على أنه يمكن الحفاظ على روح الجماعة والتضامن بل وحتى تعزيزها أيضاً في بعض الحالات.
ساعدت التكنولوجيا في التعافي من الجائحة وسيستمر دورها كلما تعمقنا بشكل أكبر في رحلة التعافي. وستتطلب جهود التعافي إجراء البحوث بشكل مستمر والتواصل وبناء المجتمع وتقديم الدعم الاجتماعي، ولكن الأهم من ذلك هو مشاركة استراتيجيات مواجهة الأزمة لكل من الأطفال والبالغين.
ربما السبيل إلى تحقيق ذلك هو تعلم كيفية زيادة قدرتنا على التحمل والصمود في الأوقات العصيبة. وعلى المستويين الفردي والمجتمعي يمكننا الاستفادة من تكثيف جهودنا لضمان أن نُظم الرعاية الصحية الوقائية وسريعة الاستجابة تتناول الأبعاد الكاملة لضمان أقصى قدر من الصحة والرفاهة.
أعلن الأمين العام لمنظة الصحة العالمية مؤخراً عن موجز سياسات حول مرض "كوفيد-19" والحاجة إلى اتخاذ إجراءات بشأن الصحة النفسية، وينص على أن الوباء لا يسبب أزمة جسدية فقط، ولكنه أيضاً يسبب "أزمة نفسية كبيرة". وقد تم تشجيع المجتمع العالمي على تقديم الدعم اللازم لمواجهة الضغوط النفسية الناجمة عن الوباء.
يوصي الموجز بما يلي:
1- "تطبيق نهج يشمل المجتمع بأكمله لتعزيز الصحة النفسية وحمايتها والاهتمام بها".
2- "ضمان التوافر واسع النطاق لخدمات الصحة النفسية الطارئة والدعم النفسي الاجتماعي".
3- "دعم التعافي من آثار مرض "كوفيد-19" من خلال توفير الخدمات المتعلقة بالصحة النفسية في المستقبل".
من المؤكد أن آثار تفشي هذا الوباء كانت عميقة وواسعة النطاق، كما أن السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية للأفراد في جميع أنحاء العالم قد تضررت بشكل كبير. ولكن هذا الوباء ليس أول وباء تواجهه البشرية وعلى الأرجح لن يكون الأخير. ولذلك فإن المعرفة التي نُسلِّح أنفسنا بها والإجراءات التي نتخذها من أجل كفالة الصحة في الأزمات العالمية سيكون لها في نهاية المطاف عظيم الأثر في تعافينا بشكل سريع من تلك الأزمة وتلبية أهداف التنمية المستدامة.
اقرأ أيضاً: كيف تعاملت الشركات الصينية مع أزمة كورونا والدروس المستفادة