يواجه مجال التنوع والمساواة والشمول في الشركات نقطة تحول مهمة، فقد أثبتت الأبحاث والدراسات الدقيقة والمكثفة على مدار عقدين من الزمن أهمية جهود تحقيق التنوع والمساواة والشمول بالنسبة للشركات. تُظهر الدراسات باستمرار أن الفرق المتنوعة التي تضم أشخاصاً من خلفيات مختلفة تتفوق على منافسيها من حيث تحقيق الربحية، كما أن الشركات التي تشكّل النساء أكثر من ربع أعضاء لجانها التنفيذية تحقق هامش ربح أعلى بمقدار 10 أضعاف مقارنة بتلك التي لا تضم أي امرأة في مجلس إدارتها.
في عام 2020، بعد مقتل جورج فلويد وما تلاه من احتجاجات في الولايات المتحدة، استجابت الشركات لمطالب المستهلكين واعتمدت على هذه الأبحاث لتبنّي جهود التنوع والمساواة والشمول من أجل تعزيز الثقة بين الإدارة وفرق العمل وتحسين أدائها المالي وتقليل التكاليف غير الضرورية. على الرغم من ذلك، فقد أدت ردود الفعل السلبية الواسعة النطاق ضد مبادرات التنوع والمساواة والشمول في العامين الماضيين إلى لجوء العديد من الشركات إلى تقليص الموارد المخصصة لهذه المبادرات والبرامج أو إلغاء الفرق المكلفة بتنفيذ هذه المبادرات بالكامل. قررت مؤسسات أخرى، مثل الجمعية الأميركية لإدارة الموارد البشرية (SHRM) إلغاء عنصر المساواة من مفهوم التنوع والمساواة والشمول وإعادة صياغته باستخدام مصطلحات أكثر حيادية مثل المشاركة والغاية والمجتمع والانتماء.
على الرغم من الدوافع السياسية لهذا الموضوع، فإن السبب الرئيسي لردود الفعل السلبية هذه هو أن طريقة تنفيذ برامج التنوع والمساواة والشمول تؤدي إلى إثارة النزاعات في مكان العمل والشعور بالخجل واللوم والذنب بين الموظفين. وقد استغل المشرّعون والمعارضون المحافظون الذين قادوا هذه الهجمات ضد مسألة التنوع والمساواة والشمول، هذه المشاعر لتسييس هذه القضية، على الرغم من أنها تمثل جزءاً أساسياً من استراتيجيات الشركات في ظل تزايد التنوع في أماكن العمل والعالم.
على الرغم من عدم وضوح مستقبل التنوع والمساواة والشمول عموماً، لا يزال من الضروري تجهيز المدراء وتأهيلهم للتعامل مع النزاعات في أماكن عملهم وتخفيفها، ولا سيما إذا كانوا يشرفون على فرق ذات وجهات نظر وهويات متنوعة ويتحملون مسؤولية تحقيق أهداف شركاتهم. في هذه المرحلة، يمكن للمدراء الاستفادة من علم الأعصاب لمعالجة السبب الأساسي لمعظم التحديات التي تواجه جهود تحقيق التنوع والمساواة والشمول، وهو التحيز.
السبب الأساسي للتحديات التي تواجه جهود تحقيق التنوع والمساواة والشمول: التحيز
بوصفي محامياً وعالم اجتماع، أصبحتُ متخصصاً في التنوع والمساواة والشمول بطريقة غير متوقعة، ففي بداية مسيرتي المهنية في مجال المحاماة، أجريتُ دراسة شملت قطاعات مختلفة في معهد فيرا للعدالة (Vera Institute of Justice) وحددتُ السبب الأساسي للتحديات المتعلقة بالهوية في هذه القطاعات، وهو التحيز، لكن على عكس المعتقدات الشائعة، فقد أظهرت الدراسة أن التحيزات ليست صفة فطرية، فالاعتقاد مثلاً أن الرجال أفضل من النساء في الرياضيات أو أن أصحاب البشرة البيضاء يمتلكون مهارات قيادية أفضل من أصحاب البشرة الملونة ليس جزءاً من طبيعتنا البشرية، بل إن هذه الصور النمطية، مثل أشكال التحيز جميعها، هي عادات مكتسبة تأخذ شكلين:التحيزات الواعية وهي معتقدات خاطئة مكتسبة، والتحيزات اللاواعية وهي عادات فكرية مكتسبة. يؤثر كل من الشكلين في طريقة إدراك البشر للأمور وقدرتهم على التفكير والتذكر وصناعة القرارات.
هذه العادات ليست مسألة شخصية أو فردية؛ إذ يوضح العلم أنها نتيجة تدريب الدماغ البشري على ربط المفاهيم الخاطئة بصفات معينة مثل لون البشرة وملمس الشعر واللهجة ونبرة الصوت والنوع الاجتماعي وغيرها. وقد أشار اختصاصي علم النفس العصبي، دونالد هيب، إلى هذه العملية قائلاً: "إن الخلايا العصبية التي تنشط معاً بصورة متكررة تصبح الروابط بينها أقوى"؛ أي عندما يتكرر ربط فكرتين أو تجربتين معاً في الدماغ تترسخ العلاقة بينهما.
لمعالجة التحيزات الواعية في مكان العمل، تعتمد الشركات غالباً على سياسات الموارد البشرية بالإضافة إلى برامج التدريب والإجراءات القانونية. وعلى الرغم من ذلك، فإن التحيزات اللاواعية التي يصعب اكتشافها ومعالجتها هي سبب معظم التحديات التي تواجه جهود تحقيق التنوع والمساواة والشمول. تتسبب هذه التحيزات في العديد من التحديات، مثل صعوبة توظيف أشخاص من خلفيات مختلفة ومتنوعة وعدم القدرة على استبقاء الموظفين المتميزين وتعطيل فرص التقدم الوظيفي وعدم تقديم التعويضات المناسبة، كما يمكن أن تتمثل التحديات في كل من سوء الفهم الذي يمكن تفسيره على أنه إساءة دقيقة والتفاوت في تقييمات الأداء. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر التحيزات اللاواعية في خدمة العملاء وتطوير المنتجات واستراتيجيات الإعلان.
كما يمكن أن تؤدي التحيزات اللاواعية إذا بقيت دون ضبط وعلاج إلى إنشاء أماكن عمل يفتقر فيها المدراء إلى المهارات اللازمة للتعامل مع النزاعات والخلافات وحالات سوء الفهم، ما يسبب تكاليف باهظة عديدة، مثل زيادة معدلات استنزاف الموظفين والدعاوى القضائية وضعف الأداء. بالإضافة إلى ذلك، تسبب مثل هذه التحيزات إضعاف الثقة وتقلل الشعور بالأمان النفسي بين الموظفين وتؤدي إلى انخفاض أداء الفرق وتراجع فعاليتها. تشير دراسة أجرتها الجمعية الأميركية لإدارة الموارد البشرية (SHRM)، إلى أن التحيز العرقي وحده يكلف الشركات الأميركية ما يصل إلى 54 مليار دولار سنوياً، في حين تبلغ الخسائر المترتبة على تراجع الإنتاجية بسبب مثل هذه التحيزات 59 مليار دولار إضافية سنوياً.
بغض النظر عن مستقبل التنوع والمساواة والشمول في بيئة الأعمال الحالية، فقد أصبح المدراء يتحملون مسؤولية أكبر من أي وقت مضى لبناء الفرق وقيادتها لمواجهة التحيزات اللاواعية، لكن هناك بعض الأخبار الجيدة، مثلما تتشكل التحيزات اللاواعية من خلال التعلم والاكتساب، فإنه من الممكن التخلص منها بفضل الظاهرة المعروفة باسم "المطاوعة الدماغية" (Neuroplasticity). ثمة 5 أدوات قائمة على أسس علمية أُطلِق عليها مجتمعة اسم أدوات "بريزم" (PRISM)، ويمكنها دعم الفرق في التخلص من التحيزات اللاواعية.
التخلص من التحيزات اللاواعية باستخدام أدوات بريزم
تسمية "بريزم" (PRISM) هي اختصار لأسماء 5 أدوات أثبتت فعاليتها في تقليل التحيز بصورة ملحوظة من خلال الممارسة المنتظمة، وهي تبنّي وجهات نظر الآخرين (Perspective-Taking) والسلوك الاجتماعي (Prosocial Behavior) والتفرّد (Individuation) واستبدال الصورة النمطية (Stereotype Replacement) واليقظة الذهنية (Mindfulness)، وتبدأ ممارسة هذه المنهجية بالتدريب على اليقظة الذهنية وصولاً إلى تبني وجهات نظر الآخرين.
باستخدام هذه الأدوات، يدرّب المدراء عقولهم على ملاحظة تدخل الافتراضات والصور النمطية الخاطئة في عملية صناعة القرار وتقليل أثرها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يستخدم القادة هذه الأدوات داخل مكان العمل بطرق خفية وغير مباشرة لمساعدة الفرق على التخلص من عادة التحيز واستبدالها بعادات وسلوكيات تعزز بيئة العمل وتجعله مثمراً ومفيداً، مثل تشجيع العمل التعاوني وحب الاستطلاع وتعزيز القدرة على الإبداع والتعاطف والاستمتاع بالعمل وتحسين مهارات التواصل.
بعد تدريب أكثر من 80,000 شخص متخصص في أكثر من 300 مؤسسة على استخدام هذه الأدوات، استطاعت إثبات قيمتها من خلال بساطتها وإمكانية تطبيقها في أي زمان أو مكان وقدرتها على إحداث تحولات كبيرة ونتائج إيجابية. فيما يلي بعض الطرق التي يمكن للمدراء والقادة من خلالها تطبيق هذه الأدوات في مكان عملهم:
اليقظة الذهنية
أثبتت اليقظة الذهنية فعاليتها الكبيرة في تقليل التحيزات اللاواعية. تشير اليقظة الذهنية في هذا السياق إلى القدرة على ملاحظة الصور النمطية التي تنشأ تلقائياً في ذهن المرء بناءً على هويات الآخرين، وتصنيفها والوعي بها. الغرض من ذلك ليس قمع الأفكار النمطية أو محاكمة الذات أو الشعور بالخجل بسبب وجود مثل هذه الأفكار، بل أن يراقب الفرد تجاربه من خلال ملاحظة هذه الأفكار والاعتراف بها إلى جانب إدراك الأحاسيس الجسدية التي قد تصاحبها.
يساعد هذا الوعي أعضاء الفريق على تصنيف الافتراضات التلقائية على أنها نمطية أو ضارة وتجنب السماح لها بالتأثير في عملية صناعة القرار. من الناحية العصبية، تسهم هذه العملية في إضعاف النشاط العصبي الذي يربط المفاهيم الخاطئة بالهويات البشرية المختلفة، مثل العِرق والنوع الاجتماعي. اليقظة الذهنية هي العنصر الأساسي في هذه المنهجية لأنها تمكّن الفرق من تحويل اللاوعي إلى وعي، فيصبح أفرادها أكثر وعياً بالمشاعر والأفكار التي كانت تحدث دون وعي.
بالنسبة لعميلتي رانيا، التي تشرف على فريق من المحامين في مؤسسة رعاية صحية كبيرة، فإن اليقظة الذهنية تعني ملاحظة الافتراضات التي تنشأ في ذهنها وتصنيفها بصمت في أثناء تعاملها مع فريقها ومع أصحاب المصلحة الخارجيين، وقد سمحت لها هذه الممارسة البسيطة بإضعاف تأثير مثل هذه الافتراضات ورؤية الآخرين على حقيقتهم.
وبصفتها قائدة، فقد شاركت أيضاً تجربتها مع فريقها واقترحت تخصيص دقيقة واحدة في بداية كل اجتماع ونهايته لممارسة اليقظة الذهنية الجماعية، وذلك بهدف مساعدة أفراده على تعزيز اليقظة الذهنية الفردية وتخفيف تحيزاتهم اللاواعية.
استبدال الصورة النمطية
استبدال الصورة النمطية هو ممارسة تخيّلية تساعد المدير على إدراك الصور النمطية التي تنشأ في ذهنه واستبدالها بأمثلة إيجابية وواقعية تدحضها بطريقة فعالة. تدعم هذه الممارسة القادة في عملية بناء نماذج فكرية بديلة حول هويات معينة، ما يؤدي مع مرور الوقت إلى إضعاف تأثير الصور النمطية وتقليل التحيزات اللاواعية.
ساعدت هذه الأداة آدم، وهو مدير في بنك بأميركا اللاتينية يقدّم خدماته في أنحاء الأميركيتين كافة، على الاعتراف بالصور النمطية المختلفة التي تعلّمها عن المجتمعات اللاتينية الأخرى واستخدام أمثلة واقعية تدحضها بدلاً منها. تتطلب عملية استبدال الصورة النمطية بناء عادات عصبية جديدة بطريقة فعالة لإضعاف تأثير التحيزات اللاواعية.
على المستوى المؤسسي، عمل آدم على تطبيق هذه الممارسة في منصة التواصل الداخلية بين الموظفين في شركته من خلال تشجيع زملائه على مشاركة قصص عن قادة من أصول وخلفيات لاتينية مختلفة يظهرون سلوكيات أو إنجازات تدحض الصور النمطية المرتبطة بهم. في نهاية المطاف، أصبحت هذه الأمثلة جزءاً من جهود التسويق في الشركة للقضاء على التحيزات اللاواعية المتعلقة بالعِرق في المجتمعات التي تعمل فيها الشركة.
التفرّد
التفرّد هو ممارسة فصل الفرد نفسه عن الصور النمطية والصفات أو الأحكام التي قد تنطبق على مجموعة معينة، من خلال تنمية حب الاستطلاع والاهتمام. تساعد هذه العملية المدراء على الانفتاح لاكتشاف الجوانب الفريدة في أعضاء فرقهم، بدلاً من التمسك بأفكار ثابتة عنهم بسبب هوياتهم أو سلوكياتهم أو معتقداتهم. وعلى المستوى النفسي، تسهم هذه الأداة في التغلب على الخوف والانفصال اللّذين يشكّلان أساس معظم الصور النمطية.
تتمثل إحدى الطرق البسيطة لممارسة التفرّد داخل الفريق في استخدام عبارة "أخبرني بالمزيد من المعلومات". تنمّي هذه العبارة حب الاستطلاع واستكشاف الآخرين دون إصدار الأحكام المسبقة أو المتسرّعة، ولا سيما في الحالات التي قد تظهر فيها اختلافات في الآراء ووجهات النظر، كما أنها تعزز الفهم والتعاطف على مستوى الفريق من خلال توفير سياق يساعد الأعضاء على تقدير طريقة تفكير زملائهم في الفريق وفهم الطريقة التي يستخدمونها في صناعة القرار.
السلوك الاجتماعي
السلوك الاجتماعي هو مجموعة من الأدوات التي تخفف من التحيزات اللاواعية من خلال توجيه العقل نحو الأفكار والمشاعر العاطفية الإيجابية، ولا سيما التعاطف. تتكون التحيزات اللاواعية عموماً من مفاهيم خاطئة مصحوبة بمشاعر وعواطف سلبية مثل الخوف أو عدم اليقين أو الكراهية والنفور، يعمل السلوك الاجتماعي الإيجابي على إضعاف هذه المشاعر وتغييرها من خلال الاستعاضة عنها بأفكار ومشاعر إيجابية.
عملت نجوى، وهي كبيرة مدراء الإدارة في مؤسسة وطنية غير ربحية تعمل في أكثر من 30 ولاية، على تطبيق هذه الأداة وتعزيزها ضمن فرقِها من خلال إدخال ممارسة تسمّيها "موجة التعاطف". بعبارة أخرى، قبل التوجه إلى اجتماع مع الفريق أو مع أحد العملاء، يخصّص أعضاء فريقها دقيقة واحدة لتخيّل الأشخاص الذين سيقابلونهم وإظهار التعاطف والمشاعر الإيجابية نحوهم من خلال تكرار عبارات بسيطة مثل: "أرجو لك السعادة" أو "أرجو أن تنعم بالطمأنينة وراحة البال". وقد أظهرت الدراسات أن تنفيذ مثل هذه الممارسات البسيطة بانتظام يساعد الفرق على تعزيز المرونة والقدرة على التحمل والشجاعة والشعور بالألفة بين أعضاء الفريق، وهو أمر ضروري للعمل التعاوني وحل النزاعات.
تبني وجهات نظر الآخرين
يعني تبني وجهات نظر الآخرين القدرة على وضع نفسك في مكان الآخرين وتخيّل المواقف من منظورهم. إنها أداة أساسية لتعزيز التعاطف والتخلص من التحيزات اللاواعية لأنها تعزز الطابع الإنساني لدى الأفراد من خلال دعوة الفرق لرؤية المواقف والشعور بها من خلال وجهات نظر وتجارب حياتية مختلفة.
يحرص سامر، وهو منتج في شركة للتسويق بالمحتوى، على تشجيع أعضاء فريقه بانتظام على مشاركة وجهات نظرهم من منظور التركيبة السكانية المتنوعة للمستهلكين عند تنظيم ورش العمل المتعلقة بتطوير المفاهيم والأفكار البصرية. تساعده هذه العملية على تشجيع أفكار المبدعين في فريقه ودمجها مع تقليل مخاطر الصور النمطية. تُظهر الأبحاث أن تبني وجهات نظر الآخرين يساعد الفرق على توليد أفكار مبتكرة وتعلم مهارات جديدة، مثل التخلص من التحيزات اللاواعية، بسهولة أكبر.
في ظل مواجهة ردود الفعل السلبية ضد جهود التنوع والمساواة والشمول، يمكن أن يوفر دمج أدوات بريزم في أماكن العمل للقادة والمدراء الفرصة لتحقيق أهداف جهود التنوع والمساواة والشمول التي تتعلق بتعزيز الثقة والتفاهم والإبداع والسلامة النفسية، لتحسين الأداء المالي وتقليل التكاليف غير الضرورية.
وجد علماء السلوك أنه من الممكن بناء عادات جديدة من خلال الممارسة اليومية في أقل من 18 يوماً. يوفر استخدام هذه الأدوات للشركات فرصة غير مسبوقة لقيادة فرقها المتنوعة بطريقة مختلفة ومكافحة التحيزات اللاواعية، التي تشكّل السبب الأساسي لمعظم التحديات التي تواجه جهود تحقيق التنوع والمساواة والشمول.