يقال إن أبراهام لينكولن كان يملك صوتاً رفيعاً وحاداً، وعندما كان يشرع في إلقاء خطبه، يتساءل الجمهور في البداية عما إذا كان هذا الرجل الطويل هو ذاك الخطيب المفوه الذي لطالما سمعوا عنه.
ولكن ما إن تنساب كلمات لينكولن إلى آذانهم ويندمج في الخطابة، سرعان ما تنجذب أفئدتهم إلى سحر كلماته وأسلوبه في الإلقاء.
عندما كان كلايتون كريستنسن، الأستاذ بكلية "هارفارد للأعمال"، يشرع في إلقاء خطاب، كان الأمر يسير على نحو مشابه؛ فلم يكن يرعد ويبرق، بل يتكلم بنبرة بطيئة ومنهجية، ناعمة ومتواضعة. لكن ما إن ينخرط هذا الرجل طويل القامة (متران وبضع سنتيمترات) في قصصه ويبدأ الحديث عن كيفية سير العالم من حولنا، سرعان ما يكتسب طاقة هائلة ويبهر الجمهور المشدوه بسحر كلماته.
عندما شاركت هذه الملحوظة مع كريستنسن - أو كلاي، كما اعتدت مناداة مرشدي وصديقي وشريكي في التأليف وشريكي المؤسس – قلّل من أهمية المسألة بتواضعه المميز المعهود، ولكن هذا لا ينفي صحة الملحوظة.
في المئات من المواقف التي رأيت فيها كلاي يلقي كلمة، حتى بعد تعرضه لأول سكتة دماغية وحرمانه من الكلام، كان يخطف ألباب الجمهور ببلاغة أفكاره وعمق رؤاه.
يكمن السر في تلك الكلمات التي يستخدمها وأنماط التفكير، إلى جانب ما تمتع به من إنسانية وعطف وتواضع، تلك الصفات الأساسية التي سأفتقدها كثيراً مع رحيل كلاي يوم 23 يناير/كانون الثاني، فقد العالم نجماً ساطعاً ترك وراءه كنزاً لا يقدر بثمن من الكتابات والتسجيلات والعلاقات المؤثرة التي ستلهم المبدعين والمفكرين لأجيال وأجيال في كافة المجالات.
كان كلاي أستاذاً في فن استخدام القياس بالمقارنة مع مجالات تبدو مختلفة ولا علاقة لها بالموضوع محل المقارنة، وذلك لتفكيك المشكلات المعقدة وردها إلى أصلها ورؤية الحلول التي لا يمكن لغيره تصورها. كان يهتدي في تفكيره بالمخططات البيانية والقصص التي مكّنته من تطوير مجموعة من النظريات القابلة للتعميم على نطاق واسع من المجالات والتي حازت قوة توضيحية في مختلف القطاعات. كان بمقدوره مواجهة تحديات تبدو غير ذات صلة ببعضها كنمو الشركات، والاستثمار المالي، والتعليم، والرعاية الصحية، والازدهار العالمي، والطاقة الخضراء، وغيرها الكثير، لأنه من وجهة نظره المتميزة، قد تعامل مع بعض المشاكل نفسها في مجالات أخرى من قبل.
وفي خلال عمله في مختلف المجالات، بدلاً من افتراض خطأ الحقائق أو عدم دقة الملاحظات، كان كلاي ينظر إلى موطن الخلل في نظرياته لا باعتبارها مشاكل أو "ضوضاء إحصائية"، بل كفرص لتنقيحها وتحسينها - أو لتصحيح طريقة تطبيقه لها، ولهذا كان يعلق لافتة على باب مكتبه تقول "الخلل مطلوب".
كان لكلاي عيوب بالطبع كسائر البشر، وكما هو الحال مع الكثيرين غيره، غالباً ما كانت هذه العيوب تمثل الجوانب المحببة من شخصيته، إذ كان متواضعاً لدرجة عدم التصدي للأفكار في بعض الأحيان، حتى وإن أدى ذلك إلى استمرار سوء الفهم، فإذا أخبرك أن الفكرة التي أعربت عنها "مثيرة للاهتمام"، فإنه عادة يصدقك القول في ذلك، لكنه غالباً ما كان يتصرف كمدرب صبور، بحيث يساعدك على اكتشاف النقطة الغائبة عن بالك دون الصدام معك.
كان أستاذاً بارعاً في الأسلوب السقراطي - والذي تحرص كلية "هارفارد للأعمال" على تعليمه لأعضاء هيئة التدريس بها - فلم يكن يسعى إلى تقديم إجابات، بل طرح الأسئلة لمساعدة الغير على تعلم كيفية التفكير وليس تقديم الأفكار نفسها. كان يحرص على تجنب الصراعات، وكان يرى أن لا أحد يستحق التوبيخ لتجاوزه حدود النزاهة أو الأمانة الفكرية إلا في أحوال نادرة عندما يتعمد بعضهم توجيه انتقادات حادة ولاذعة، ولكن في معظم الأحيان كان يتلقى الانتقادات بصدر رحب، وينظر إلى التحديات كفُرص وإلى التفاعلات كفرص للإلهام والإطراء على الغير.
تعلمت من كلاي أهمية صياغة الهيكل التنظيمي الصحيح عندما عرفت أن المنطق يضيع من دونه. كان كلاي مولعاً بقول إنه لا يعرف أبداً مدى تعقيد شيء ما حتى يحاول الكتابة عنه، لكن الكتابة يمكن أن تساعد في حل العديد من التحديات حتى يحين وقت التنفيذ والاختبار والتعلم.
بمجرد أن ترى العالم من خلال نظريات كلاي المميزة للتجديد والابتكار، لن يمكنك نسيانها، فهي تتغلغل في كل شيء في حياتك. إنها العدسات التي أنظر من خلالها إلى كل ما أراه في العالم فأفكر بشكل جديد، لدرجة أن أسلوبي في الكتابة والحديث لا يزال متأثراً حتى هذه اللحظة بأسلوب كلاي من نواحٍ كثيرة، تلك هي الحقيقة.
لم أتأثر بكلاي من هذه الزاوية فحسب؛ فكثيراً ما كنا نتحدث عن أشجار التدريب في كرة القدم وكرة السلة، وبالإضافة إلى ما لا يحصى عدده من المؤسسات والرؤساء التنفيذيين والطلاب الذين غير مصيرهم، ترك كلاي نفسه شجرة وارفة؛ فبداية من بوب موستا إلى سكوت أنتوني ومايكل راينور، ومن كارين ديلون وجيمس أولورث إلى إيفوسا أوجومو والكثيرين غيرهم، لم يقتصر إرث كلاي على إنتاجه في هذا الحقل، بل يمتد ليشمل كل من تأثروا به.
كان كلاي كثير الفخر بالأشخاص الذين ساعد في نجاحهم، فقد بذل الكثير من الجهد في هذه المساعي - أتخيل ذلك جزئياً، لأنه كان يعتقد دائماً أنه حصل على أفضل وظيفة في العالم، حيث يتعلم من طلابه أكثر مما يتعلمونه منه، حتى أن كلاي نفسه تساءل يوماً: "كيف تقيس جودة حياتك؟":
"لقد توصلت إلى أن الكثيرين منا قد يعتادون قياس نجاحهم أو فشلهم في الحياة من خلال الإحصائيات المقتضبة، مثل عدد الأشخاص الذين ترأسهم أو عدد الجوائز التي حصل عليها أو الدولارات المدخرة في حساباته البنكية، وما إلى ذلك، إلا أن المقياس الوحيد الذي سأهتم به حقاً في حياتي هو الأفراد الذين تمكنت من مساعدتهم، واحداً تلو الآخر، حتى يصبحوا أفضل. عندما ألقى الله سأعول على الذين تمكنت من تعزيز تقديرهم لذاتهم، والذين استطعت تقوية ثقتهم بأنفسهم، والذين تمكنت من تهدئة مخاوفهم - فاعل الخير، بغض النظر عن مهمة التي أوكلت إلي. هذه هي المقاييس المهمة لنجاحي أو فشلي في حياتي".
لهذا السبب كان ينظر إلى الإدارة باعتبارها أنبل المهن - ليس بسبب قدرة المدراء على تنفيذ الخطط أو كسب المال، ولكن بسبب قدرتهم على التأثير في حياة البشر الذين يديرونهم، وبالتالي تغيير حياة أسرهم وأصدقائهم للأفضل. إنه أثر موجة واحدة جيدة، والذي يعادل أثر موجة واحدة سيئة، ولكنه أكثر عمقاً.
عند تدبر حياته، سأظل أتذكر أن كلاي قد اتخذ من المعاملة الحسنة مبدأ له في الحياة، فكان دائماً ما يضع العنصر البشري في المقام الأول، حيث كان يسعى دوماً إلى مساندة الآخرين والتعلم منهم وتحسين العالم معهم.