أخبرني عن كرسي مكتبك أقُل لك ما مستوى إنتاجيتك

4 دقيقة
shutterstock.com/ShutterDesigner

كنت أعطي ورشة تدريبية قبل 15 عاماً عندما سألني أحد المشاركين عن سبب تفضيلي لجوجل على محركات البحث الأخرى الشائعة. وسرعان ما أجبت بأن المسألة عاطفية وأنه "لو كانت شركة جوجل سيدة لتزوجتها".

ضحك الشاب قبل أن يكتشف أني أتحدث بجدية وأن الأمر مرتبط بتجربتي الشخصية مع الشركة العملاقة واحترامها للعاملين فيها، فقد خضعت لدورة آنذاك مع جامعة أميركية حول دور جوجل في تغيير الإعلام في العالم.

معظم العاملين يا سادة في مقر جوجل الرئيسي، ويُطلق عليهم اسم (Googlers)، لا يمتلكون مكاتب ثابتة، وبمقدور أي موظف في الشركة اختيار المكان الذي يراه مناسباً كل يوم للعمل منه. وبمقدور أي موظف أيضاً اختيار الكرسي الذي يناسبه من بين عشرات الأنواع للجلوس عليه في أي وقت يشاء. في جوجل، يمكنك العمل واقفاً أو جالساً أو متمدداً على مقعد طويل. اختر ما شئت.

إن السياسة هناك هي أن تكون مرتاحاً في أثناء العمل كي تكون مُبدعاً. وما قد يصدمك أيضاً بشأن سياسة العمل في جوجل هو توافر الطعام والشراب في المكاتب، والأدوات الرياضية والألعاب الفردية والجماعية، وقاعات الترفيه، إضافة إلى المزايا القانونية والمادية والعائلية غير العادية.

لستُ في وارد تلميع صورة هذه الشركة، ولكن هذا ما تعلمته وشهدته، وما يهمني من المسألة برمتها هو "كرسي" المكتب.

خسائر اقتصادية وصحية هائلة

تكشف دراسة بعنوان "عبء آلام أسفل الظهر وارتباطه بالمتغيرات الاجتماعية الديمغرافية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" عن أن هذه الحالة الصحية أعلى انتشاراً بين أوساط الذكور في الفئة العمرية ما بين 35 و39 عاماً بنسبة 7.67% من سكان المنطقة. وتشير بيانات الدراسة الميدانية التي غطت السنوات ما بين 1990 و2019 إلى أن تركيا تشهد أعلى حالات آلام الظهر في الشرق الأوسط.

على صعيد موازٍ، يخسر اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية نحو 635 مليار دولار سنوياً بسبب آلام أسفل الظهر!

هذا الرقم المهول الموثق علمياً مرتبط بنفقات العلاج الطبي لهذه الظاهرة العالمية التي تطول أغلب العاملين في المكاتب.

لكن الكرسي والمكتب لا يرتبطان فقط بالتخلص من الألم الجسدي، بل بالإنتاجية في العمل وهذا ما خبرته مراراً، وهي مسألة مُثبتة علمياً.

فقد وجد الأستاذ كورين هوبين (Corine Hoeben) في العام 2014، أن الكراسي المريحة والأقل قابلية للتعديل يمكن أن تقلل من الألم وتشنج العضلات، مع زيادة محتملة في الإنتاجية في أوساط العاملات في المكاتب. وبالتوازي أكدت دراسة أجراها التركي محمد يالتراكلي، ونُشرت في دورية المؤتمر الدولي المعني بالهندسة التطبيقية والعلوم الطبيعية في العام 2023، العلاقة الوثيقة ما بين تصميم كرسي المكتب وإنتاجية الموظفين.

وفي دراسة تجريبية ميدانية عام 2003، قارنت مجموعة من الباحثين بيانات ما قبل التدخل في تصميم كراسي خاصة للمكاتب وما بعده ليتوصلوا إلى أن الكراسي المريحة قللت كثيراً من الألم وأدت إلى تحسين الإنتاجية. وشملت الدراسة نفسها تحسينات أخرى في هندسة مساحة المكاتب.

تجربتي الشخصية

في العشرينيات من عمري، كان جلوسي في العمل يطول حتى 20 ساعة أحياناً، خاصة في الليالي التي تسبق تسليم فيلم وثائقي أو عند ورود أخبار دولية طارئة تستلزم مواكبة مستمرة. وبطبيعة الحال، بدأت أعاني أوجاعاً دائمة في فقرات العامود الفقري بسبب نمط الحياة هذا حتى عندما كنتُ أحاول التحايل على نفسي بممارسة الرياضة أو السباحة.

وكما هو مألوف بين من يعانون آلاماً نتيجة الجلوس لفترات طويلة، تتنوع التجارب للتخفيف من وطأة الحالة، بدءاً باستخدام مساند طبية للظهر، ثم وضع أجهزة رياضية تحت المكتب لتحريك القدمين باستمرار، إلى الخضوع لجلسات علاج فيزيائي. وإذا ما أهملت هذه الأوجاع فغالباً ما سيمتد الألم ليشمل الرقبة وكذلك القدمين، ثم سيتطور إلى ديسك متعدد الفقرات.

غير أنك سرعان ما تكتشف مع التقدم في العمر أن المسألة تتطلب حلاً جذرياً يشمل تغييراً في نمط الحياة بأسرها مثل اختيار أفضل كرسي يتناسب مع حركتك ووزنك وطولك ومدة جلوسك.

ولطالما فوجئ مدراء الموارد البشرية في الوظائف التي شغلتها بسؤالي عن نوع كرسي المكتب قبل التفاوض على الراتب والتقديمات الأخرى، قبل أن أقرر في منتصف الثلاثينيات أن العمل يأتي في المرتبة الثانية بعد العائلة وأتخذ قراراً بالتحول إلى العمل الحرّ من المنزل. وهكذا لجأت إلى صديقي النجار وطلبت منه تصميم مكتب مستدير بطريقة تتيح لي إسناد يديّ طوال الوقت على سطحه كيفما استدرت.

ومن ثم خصصت ميزانية "محترمة" لشراء كرسي مكتب مناسب اخترته بعد شهر من البحث قبل 15 عاماً ولا يزال بحالته الممتازة كما هو حتى الآن.

منذ ذلك الوقت، لم أعد أذكر آخر مرة شعرتُ فيها بأي ألم في أسفل الظهر أو الرقبة أو مفاصل اليدين، مع أني ما زلت أطيل الجلوس أحياناً في الأسابيع التي تسبق تسليم سيناريو فيلم أو عند إجراء بحث عميق.

نصائح وحلول

في الوقت الراهن، يعاني نحو 619 مليون شخص حول العالم آلام أسفل الظهر. هذا الرقم مرجح للارتفاع حتى يشمل 843 مليون شخص بحلول العام 2050، بحسب منظمة الصحة العالمية. وتُعد فترات الجلوس الطويلة من أبرز مسببات هذه الظاهرة العالمية، لكن حلّها يتطلب جملة خطوات وسلوكيات:

راقب طريقة جلوسك: الانحناء إلى الأمام يضع المزيد من الضغط على فقرات ظهرك ورقبتك. من المهم جداً تعديل ارتفاع الكرسي كي يكون نظرك بمستوى شاشة جهاز الكومبيوتر المرتفع أيضاً عن سطح المكتب.

حدد استراحات قصيرة: ربما سمعتم بتقنية بومودورو (Pomodoro) الشهيرة للعمل مدة 25 دقيقة ثم الاستراحة لخمس دقائق على مدار 4 جولات قبل أخذ استراحة طويلة لنصف ساعة. قد يكون تطبيق هذه التقنية صعباً على من يمارسون الكتابة أو الأعمال الإبداعية نظراً لعدم رغبتهم في قطع تسلسل أفكارهم، لكن يمكن تعديل فترة العمل الأولى لتناهز الأربعين دقيقة ثم الاستراحة لوقت أطول قليلاً. والاستراحة هنا تعني القيام عن الكرسي والمشي أو ممارسة تمارين خفيفة للحفاظ على ليونة المفاصل. هذا النوع من الاستراحات مفيد جداً أيضاً لصحة العيون خاصة وللصحة النفسية عامة.

مارس الرياضة: أنت لا تحتاج بالضرورة إلى الذهاب إلى النادي. يكفي مزاولة حركات يومية داخل المنزل أو في المكتب أو ممارسة رياضة سهلة كالمشي للحفاظ على لياقتك. في كثير من الأحيان، يكمن السر في المثابرة على العادة الرياضية نفسها بغض النظر عن طول الوقت المخصص لها أو حجم الجهد. إحدى أفضل العادات وأسهلها التي يمكن أن تحفظ قوامك هي القفز مدة 60 ثانية يومياً بشكل خفيف في مكانك. من شأن هذا التمرين أن يساعد على توزيع الدم والأوكسيجين في أنحاء الجسم وحتى مساعدة الكبد والأعضاء الحيوية على أداء مهامها.

انتبه إلى طعامك: من الضروري أن يحتوي النظام الغذائي لأي شخص يستهلك أداء عضلاته وعظامه في الجلوس لفترات طويلة على الكميات اللازمة من الكالسيوم والبروتين. هذا يقودنا أيضاً إلى الحديث عن ضبط الوزن الصحي تطبيقاً لنظرية "وزن أقل = ضغط أقل على العامود الفقري".

اختر كرسياً يناسبك: ليس بالضرورة أن يكون الكرسي الأغلى ثمناً هو الأفضل لك. الكرسي المناسب لك هو الذي يتوافق مع طول قامتك ووزنك وحجمك ومدة جلوسك ومدى قابليته للتعديل وعشرات المعايير التي قد لا يلاحظها الكثيرون. من المهم تجربة الكرسي لفترة معقولة قبل اختياره اختياراً نهائياً.

إلى جانب هذه النصائح الفردية، على أصحاب العمل الاستثمار مالياً أكثر في أثاث المكاتب، خاصة على صعيد حجم المكاتب وارتفاعها ونوع الكراسي وجودتها.  ولا يُعد هذا الاستثمار رفاهية إذا عرفنا أنه من شأن بيئات العمل المكتبية المريحة تعزيز الإنتاجية بنسبة تصل حتى 27%.

ويمكن لأرباب العمل أيضاً دمج أدوات بسيطة في المكاتب بهدف تعزيز الصحتين الجسدية والنفسية للعاملين مثل تخصيص مساحة لوضع مقاعد للاسترخاء أو كراسي للتدليك فضلاً عن ألعاب رياضية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .