الكفاءة أولاً: لماذا تتفوق المواهب على زيادة عدد الموظفين؟

6 دقيقة
كثافة المواهب
مصدر الصورة: أندري أونوفريينكو/غيتي إميدجيز

في مقابلة أجراها معهد سميثسونيان (Smithsonian Institution) عام 1993 مع المؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت، بيل غيتس، حول بدايات شركته، لم يشدد على دور هندسة البرمجيات في نمو الشركة، بل تحدث عن الأثر الحاسم للقرار الذي اتخذه قسم الموارد البشرية بالشركة، وهو تعيين أحد أصدقائه القدامى منذ أيام دراستهما الجامعية الفتى الخجول، ستيف بالمر.

قال غيتس: عندما انضم ستيف إلى الشركة، قضيت الكثير من الوقت معه؛ لأن الجانب المهني والريادي (ريادة الأعمال) كان مهماً. لقد استفدت كثيراً من تجواله بين الموظفين وتعرّفه إلى ما يدور في خَلَدهم وطرق تفكيرهم".

أدى تعيين بالمر بشركة مايكروسوفت إلى إحداث تغيير شامل بها بين عشية وضحاها. لماذا؟ لأنه جلب الكثير من الأفكار والمهارات الريادية الجديدة في شركة كانت قوية، لكنها تأخذ الطابع التكنولوجي وتركز بدرجة كبيرة على الأعمال الهندسية. لم يكن تعيين بالمر مجرد إضافة عادية أسهمت في رفع مستوى الكفاءة الداخلية لشركة مايكروسوفت، بل كان له أثر مضاعف؛ إذ استطاع تحفيز مستوى الطاقة في الشركة بأكملها، ما أدى إلى تحقيق انطلاقة قوية وغير مسبوقة في نموها كما لو كان مفاعلاً نووياً وصل إلى "الحجم الحرج".

يمكن تفسير ما حدث في شركة مايكروسوفت بأن بالمر نجح في زيادة كثافة المواهب بالمؤسسة؛ إذ كان للمهارات والطاقة الجديدة التي أضافها أثر تحفيزي على مَن حوله أدى إلى تحسين إنتاجيتهم.

يتعارض مفهوم كثافة المواهب مع فكرة المنحنى الجرسي التقليدية، وهو نموذج شائع استخدمته الشركات طيلة عقود من الزمن في تعيين الموظفين وتحديد تعويضاتهم المادية، لكنه يرسّخ فكرة قبول الأداء المتوسط باعتباره أمراً طبيعياً، في حين يشدد نهج كثافة المواهب على ضمان أن يكون كل قرار بتعيين موظف أو ترقيته بمثابة عامل مضاعِف للقوة يعزز القدرات الكلية للفريق، ويستند إلى مبدأين رئيسيين:

  1. يستطيع كل فرد تحقيق المزيد بالدعم والتدريب المناسبين.
  2. ثمة أفراد معينون ذوو "أداء فائق"، وينبغي تحفيزهم ومكافأتهم بما يتناسب مع أدائهم المتميز.

نسعى دائماً في الظروف المثالية لتعيين موظفين يتمتعون بمستوى استثنائي من المهارة والفعالية، لكننا نصطدم في الواقع بسياسات وإجراءات الموارد البشرية التي تعوق غالباً تحقيق هذا الهدف.

أولاً: يؤدي تقييم الأداء باستخدام المنحنى الجرسي إلى تثبيط عزيمة الموظفين ذوي الأداء الفائق، وبالتالي امتناعهم عن الانضمام إلى الشركة؛ لأن هذا النموذج يقيد نسبة الموظفين الذين تصنّفهم الشركة ضمن أصحاب الأداء المتميز، مهما كانت جودة أدائهم الحقيقية،

كأن يقول المدرب ستيف كير للاعبي فريق جولدن ستيت ووريورز (Golden State Warriors) إن ستيف كاري هو الوحيد القادر على الانضمام إلى فريق النجوم؛ فلماذا يجتهدون إذا لم تكن ثمة فرصة حقيقية لإبداء تميزهم؟ ثانياً: قد يشعر المدراء بالتهديد من هؤلاء الموظفين المتفوقين، ما يدفعهم إلى تجاهل أصحاب هذه المواهب أو تجاوزهم. ومن المعروف في مجال الموارد البشرية أن المدير المتميز يعيّن موظفين على المستوى نفسه من الكفاءة، في حين يعيّن المدير الأقل كفاءة موظفين أقل منه كفاءة كي لا يكونوا مصدر تهديد له في المستقبل. بعبارة أخرى، قد يكون تعيين موظف يتمتع بمستوى استثنائي من المهارة والفعالية أمراً غير مقبول بالنسبة للمدير الذي يخشى ضياع منصبه.

ونتيجة لهذا تعوق أنظمة الأداء في الشركات غالباً تحقيق مفهوم كثافة المواهب، لكن في عالم يعاني ندرة المواهب وتواجه فيه الشركات ضغوطاً مستمرة للحفاظ على مكانتها الريادية في السوق، علينا أن نقاوم هذه العقلية ونبحث عن طرق علمية أكثر لتطوير قاعدة كفاءاتنا.

التخلي عن نهج "النمو بالتوظيف"

لطالما ركزت الشركات على تعيين أكبر عدد ممكن من الموظفين، ظناً منها أن زيادة عدد الموظفين تؤدي تلقائياً إلى المزيد من النمو. وفي خضمّ سباق الشركات نحو تحقيق ميزة صاحب السبق، تتبع استراتيجية النمو السريع من خلال الإسراع بعملية التوظيف على افتراض أن زيادة الحجم تضمن النجاح.

يرتكز هذا النهج على افتراض خاطئ وهو أن ثمة علاقة طردية بين عدد الموظفين والنتائج التي يحققونها؛ فنحن نعتقد أن زيادة عدد مندوبي المبيعات ستؤدي إلى زيادة المبيعات، وأن زيادة عدد المهندسين ستؤدي إلى زيادة المنتجات، وأن زيادة عدد المسوّقين ستؤدي إلى زيادة عدد العملاء المحتملين، وأن زيادة عدد موظفي خدمة العملاء ستؤدي إلى تلبية احتياجات عدد أكبر من العملاء، لكن هذا الافتراض غير صحيح؛ لأن النجاح لا يتحقق بالعدد وحده، بل بما يمتلكه الموظفون من مواهب.

تؤدي المحاولات المتسرعة للنمو بتعيين موظفين جدد إلى الضغط على المدراء ومسؤولي التوظيف لملء الشواغر بعجالة دون التفكير في فرص تحسين آلية عمل الفريق الحالي أو ترقية العناصر المتميزة من الموظفين الحاليين أو أتمتة آليات العمل لدعم النمو.

والأسوأ من هذا كله أن الإفراط في تعيين الموظفين يؤدي إلى تخفيف كثافة المواهب من خلال تعطيل الفرق الحالية نتيجة ضم موظفين جدد إليها. وخلال فترات النمو الحثيث، تفوّض الشركات مسؤولية تعيين الموظفين الجدد إلى المدراء من المستويات الإدارية الدنيا، ما يؤدي إلى تراجع التركيز على الالتزام بأعلى المعايير في انتقاء المواهب.

في نهاية المطاف، قد تجد المؤسسة أن إنتاجيتها تتراجع باستمرار على الرغم من تعيين الموظفين بأعداد كبيرة. وفي هذه المرحلة، يتساءل الرئيس التنفيذي: "لماذا يعمل لدينا هذا العدد الكبير من الموظفين، إذاً؟" بدأ القادة المستنيرون يدركون أن حجم الفريق أقل أهمية من جودة مهارات أعضائه وقدراتهم وروح العمل الجماعي. والواقع أن عدداً قليلاً من الموظفين هم الذين يحققون القدر الأكبر من القيمة والإنتاجية في الكثير من الشركات، بينما هناك عدد كبير من الموظفين الآخرين يقدمون أداءً أقل تأثيراً. على سبيل المثال، كشفت دراسة شملت 198 فريقاً يضم أكثر من 600,000 موظف أن عدداً صغيراً من الموظفين يحققون أداءً يفوق أداء أقرانهم باستمرار، وغالباً ما يحققون نتائج قد تصل إلى عشرة أمثال متوسط نتائج الفريق.

بناء مؤسسة كثيفة المواهب

يتمحور مفهوم كثافة المواهب حول مساعدة كل موظف وتشجيعه على الوصول إلى قمة المنحنى الجرسي، لكن كيف تحقق المؤسسات ذلك؟ من خلال تنفيذ استراتيجية تركز على تعزيز القدرات المؤسسية الكلية.

أصبحت شركة نتفليكس نموذجاً يُحتذى به في تطبيق معايير كثافة المواهب؛ فمنذ بدايتها في مجال تأجير أقراص الفيديو الرقمية (DVD) عبر الإنترنت عام 1998، واصلت الشركة التطور وتقديم خدمات جديدة على مر السنين. واليوم، تبلغ إيرادات نتفليكس لكل موظف ضعف إيرادات جوجل و7 أمثال إيرادات أمازون، وتمتلك قيمة سوقية تتجاوز 300 مليار دولار، ما يجعلها الشركة الوحيدة التي تحقق أرباحاً في مجال خدمات البث المباشر عبر الإنترنت الذي يتميز بالتنافسية الشديدة.

ومن المثير للدهشة أن نتفليكس تحقق كل هذا بموظفين يبلغ عددهم 13,000 موظف فقط على مستوى العالم. وبدلاً من تعيين الموظفين بهدف التوسع فقط، تركز نتفليكس على فتح باب التعيينات باستمرار والاحتفاظ بأفضل المواهب فقط.

لك أن تقارن هذا الوضع بالموقف في شركات أخرى مثل ميتا أو إنتل؛ فعندما بدأت ميتا "عام الكفاءة" وسرّحت 22% من قوتها العاملة، بدأت أسعار أسهمها الارتفاع الجنوني. وتُجري شركة إنتل عملية مماثلة؛ فقد عيّنت كلتا الشركتين موظفين بأعداد أكثر من اللازم، ما أدى إلى انخفاض كثافة المواهب لديهما، وبالتالي كان عليهما لاحقاً تصحيح المسار لاستعادة الإنتاجية والكفاءة.

انظر إلى كثافة المواهب باعتبارها وسيلة لزيادة الإنتاجية من خلال عملية منظمة يشرف عليها قسم الموارد البشرية. إذا أردت تحسين الإنتاجية، فعلى كل موظف أن يطوّر أداءه باستمرار، بحيث يحقق قيمة مضافة كل عام بدلاً من الاكتفاء بالحفاظ على مستوى أدائه الحالي. ولتحقيق كثافة المواهب، على الشركات تبني 3 استراتيجيات.

1. إعادة النظر في مهمة تعيين الموظفين

على فرق التوظيف أن تتخلى عن التفكير بعقلية مركز تلبية احتياجات الشركات من الموظفين على غرار مركز تلبية الطلبات في أمازون. وبدلاً من ذلك، يتعين على مسؤولي التوظيف تحدي قرارات تعيين موظفين جدد، وحث المدراء على مراعاة كثافة المواهب ومدى إسهام كل موظف جديد في تعزيز إنتاجية الفريق الكلية. قد يعني هذا إعطاء الأولوية لموظفي الشركة الحاليين الذين يتميزون بانسجامهم مع الثقافة المؤسسية والتزامهم بها وقدرتهم على تحقيق إنتاجية أكبر والاستمرار في الشركة فترة أطول من الزمن.

2. نقل الموظفين إلى مناصب تستفيد من مواطن قوتهم

لا ينطبق هذا النهج على الموظفين الجدد فحسب، بل يجب أن يسهم كل عضو في الفريق بقوة في تعزيز الإنتاجية الكلية. وهذا يعني أنك ستحتاج إلى دعم الموظفين كافة وتشجيعهم على تحسين "كثافة مواهبهم" الفردية باستمرار. إذا لم يعمل الموظفون بجد على تطوير مهاراتهم، فقد يتسببون في تخفيف كثافة المواهب الكلية للمؤسسة دون قصد، بغض النظر عن مدة توليهم الوظيفة.

3. دفع رواتب تُعادل أعلى متوسطات الرواتب في السوق أو تفوقها

أخيراً، عليك أن تفكر في الرواتب. ومثلما نرى في الفرق الفائزة ببطولة الرابطة الوطنية لكرة السلة (NBA) أو الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية (NFL)، يستحيل تحقيق التميز من خلال دفع رواتب متوسطة. قد تضطر إلى دفع رواتب أعلى من متوسطات الرواتب في السوق لجذب الموظفين الاستثنائيين الذين يعززون الأداء.

كثافة المواهب ميزة في عصر الذكاء الاصطناعي

ثمة سبب آخر للتركيز على زيادة كثافة المواهب بدلاً من زيادة عدد الموظفين وهو التغيير الشامل في الشركات والمؤسسات الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي.

سيؤثر الذكاء الاصطناعي في الشركات كلها إن عاجلاً أم آجلاً، لذا يجب أن ينصب تركيزك على الاستفادة منه بأسرع ما يمكن لتحقيق ميزة تنافسية ذات مغزى. بيد أن التعامل مع هذا التغيير سيتطلب المزيد من الرشاقة ومرونة التعلم داخل شركتك، وبالتالي تحتاج إلى فريق شديد التركيز ويتمتع بأعلى درجات الانسجام وكثافة المواهب لتعزيز هذا التغيير الشامل. أخبرتني رئيسة قسم الموارد البشرية في شركة أوبن أيه آي (OpenAI) أن عدداً قليلاً من الموظفين يمثّلون محور نجاح الشركة، وأن دورها هو مكافأة المزيد من أصحاب المواهب المماثلة وتحفيزهم وتنميتهم.

وقد اتضح لي بحكم خبرتي الشخصية أن الشركات التي تسعى إلى رفع مستويات أدائها باستمرار هي أماكن عمل مفعمة بالطاقة والحيوية تقدم باستمرار منتجات وخدمات متميزة وتشكل خيارات استثمارية جيدة على المدى البعيد لأصحاب المصلحة، لذا عليك أن تتعلم من أفضل الشركات الناجحة وتقتدي بها من خلال الالتزام بسياسة تقضي باختيار الموظفين الذين يسهمون في زيادة كثافة المواهب الكلية، بدلاً من الاكتفاء بزيادة عدد الموظفين دون النظر إلى جودة إسهاماتهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي