عندما انتُخب دانييل كعضو منتدب في شركته الاستشارية، أبدى زملاؤه حماسة شديدة تجاه هذه الخطوة. فقد كان دانييل صغير السنّ نسبياً ومفعماً بالطاقة، وكان قد تدرّج سريعاً ليصل إلى مكانة مرموقة في شركته. كما أنه حظي بدعم واسع النطاق من أقرانه، ولاسيما الشركاء الأصغر سناً، الذين شعروا أنّ بعض زملائهم الأكبر سنّاً كانوا يستفيدون دون بذل جهد مع اقترابهم من سنّ التقاعد. كان العملاء قد لاحظوا حصول تراجع في جودة أعمال الشركة، وكانوا يهدّدون بالانشقاق والتخلّي عنها. وخلال الحملة التي خاضها دانييل للترويج لقيادته، عرض خططاً طموحة لإعادة ضخّ الدماء في عروق الشركة واستعادة المركز الأول الذي كانت تشغله سابقاً في السوق. أمّا الشركاء الذين أعجبوا بثقته بهم وشعروا بالانجذاب إلى الرؤية التي يحملها للشركة، فقد انتخبوه بغالبية كبيرة.
ولكن بعد مرور 18 شهراً، رفض الشركاء مقترحات دانييل مباشرة وطالبوا باستقالته. فما الخطأ الذي حصل؟
ضمن سياق الشركات التقليدية، يُتوقع من القادة أن يُلهموا موظفيهم وأن يوجّهوهم – فالقيادة هي أمر يمارسونه مع الأتباع. أمّا في الشركات التي تقدّم خدماتها في مجال المهن الفكرية، تختلف ديناميكيات القيادة، لأنّ العلاقات السلطوية مختلفة؛ فشركات الاستشارات، والمحاسبة، والقانون، والبنوك الاستثمارية عادة ما تزخر بمحترفين معتدّين برأيهم، لا يقبلون أداء دور التابع بسهولة – وقد لا يكونوا مستعدّين لشغل منصب القائد أيضاً. ففي هذا السياق، تصبح القيادة جهد جماعي، وليست جهداً فردياً، وهي تُمارسُ من خلال التفاعل بين أقران أقوياء.
تكمن السلطة في المؤسسات في أيدي الأشخاص الذين يمتلكون الموارد الرئيسة. وفي شركات خدمات المهن الفكرية، هذه الموارد هي الخبرات المتخصّصة، والعلاقات مع العملاء الأساسيين، والسمعة في السوق. قد تحاول الشركات تنظيم هذه الموارد والبناء عليها والاستفادة منها، لكنّ هذه الموارد لا يمكن أن تُفصل عمن يمتلكها. وفي الشراكات، والعديد من شركات خدمات المهن الفكرية تقوم على مبدأ الشراكة أصلاً، يُحدّد هذا الأمر ضمن الهيكلية القانونية للشركة، لأنّ أصحاب المهن الفكرية الكبار هم من يمتلكون الشركة.
نتيجة لذلك، تكون السلطة ضمن شركات خدمات المهن الفكرية موزعة بشكل كبير؛ فالاستقلال الذاتي شامل، والسُلطة مشروطة. حيث يحتاج أصحاب المهن الفكرية الكبار إلى الاستقلال الذاتي لصياغة خدماتهم وفقاً لاحتياجات عملاءهم. ورغم أنّهم يختارون أقرانهم أو يعيّنونهم في مواقع قيادية، إلا أنهم لا يتخلّون عن السلطة لهم إلا بشروط، بحيث يحتفظون بحق تحدّيهم، أو تجاهلهم، أو حتّى التخلّص منهم.
رغم أنّ كبار أصحاب المهن الفكرية يختارون أقرانهم أو يعيّنونهم في مواقع قيادية، إلا أنهم لا يتخلّون عن السلطة لهم إلا بشروط، بحيث يحتفظون بحق تحدّيهم، أو تجاهلهم، أو حتّى التخلّص منهم.
يفرض هذا الأمر عوائق كبيرة على قادة شركات خدمات المهن الفكرية، الذين يعتمدون اعتماداً كاملاً على الدعم المستمر من أقرانهم لإنجاز أي شيء. وكما أخبرني أحد الشركاء في واحدة من أكبر أربع شركات محاسبة في العالم، بين الزملاء ممن هم بمستواه، "بصراحة، لا أحد مضطر إلى اتباع أيّ أحد". كما وصف أحد كبار الشركاء في مكتب للمحاماة الطريقة التي يعمل بها مع زملائه الشركاء على النحو التالي: "لا يقوم الأمر على إخبارهم بما يجب عليهم القيام به، بل يقتصر على تقديم الإيحاءات والأفكار. وبالتالي فإنّ القيادة تحدث بشكل أو بآخر".
إذا كنتم قد تولّيتم منصباً قيادياً في شركة خدمات مهن فكرية مؤخراً، فقد يبدو ذلك مضنياً ومتعباً. فكيف بوسعكم أن تنجزوا أيّ شيء؟
أدرس شخصياً قادة هذا النوع من الشركات، وأقدّم لهم المشورة منذ أكثر من 25 عاماً. وتشمل أبحاثي دراستين رئيستين مموّلتين من حكومة المملكة المتّحدة للقيادة والحوكمة في شركات خدمات المهن الفكرية، تتضمّنان إجراء مقابلات مع أكثر من 500 من كبار أصحاب المهن الفكرية في مجموعة واسعة من القطاعات في 16 بلداً.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
يبدو أنّ الحكمة التقليدية في مجال القيادة تفشل في سياق خدمات المهن الفكرية. إذ لا يكفي محاولة تحفيز الاتباع لتحقيق رؤية معيّنة.
لماذا تحصل
يُعد العنصر الأهم الذي تمتلكه شركات خدمات المهن الفكرية هو الشركاء ذوي الخبرات العالية والمعتدّين برأيهم، الذين يستمتعون بممارسة الاستقلال الذاتي. نتيجة لذلك، فإنّ سلطة القائد مشروطة بموافقتهم، والتي قد تُسْحَبُ بسرعة.
الحل
ينبغي الإدراك أنّ القيادة في سياق خدمات المهن الفكرية هي عملية جماعية، يجب فيها على القائد المعيّن أن يتقن ثلاث ديناميكيات تفاعلية، وهي: تأسيس المشروعية، والمناورة السياسية، والتفاوض الدائم. في صميم كل واحدة من هذه الديناميكيات هناك توتّر يجب على القائد أن يعمل على الدوام للمحافظة على توازنه.
من خلال هذه الأبحاث، وبمساعدة زميلي "يوهان آلفيهوس" في جامعة لوند، توصلت إلى ثلاث ديناميكيات متمايزة ولكنها مترابطة – وهي تحقيق المشروعية، والمناورة السياسية، والتفاوض الدائم – وهي تشرح الكيفية التي تُمارس بها القيادة الجماعية بين أصحاب المهن الفكرية. وفي صميم كلّ واحدة من هذه الديناميكيات، يوجد توتّر بين الأفعال التي يقوم بها الأشخاص الذين يحتلّون مواقع قيادية، وكيفيّة تجاوب الزملاء مع هذه الأفعال وتفسيرهم لها. تخلق هذه التوترات حالة من التوازن الذي يتّصف بعدم الاستقرار المتأصّل. ولكي يحافظ قادة الشركات على التوازن، عليهم أن يعملوا مع زملائهم باستمرار للتعامل مع هذه التوترات. في الصفحات التالية، سأشرح أفضل السبل التي تساعدهم على مواجهة ذلك التحدّي.
تحقيق المشروعية
غالباً ما يُنصح النجوم الصاعدون في المؤسسات التقليدية بإبراز إمكانياتهم من خلال السعي إلى تولّي المسؤوليات القيادية. أمّا في شركات خدمات المهن الفكرية، تقتضي الحكمة توخّي الحذر. فعندما يدعوكم مديركم إلى تولّي منصب "قيادي" فإنّه ربما يحاول أن يلقي عن كاهله عبء المسؤوليات الإدارية المُتعبة. يعرّضكم هذا الأمر لخطر تشتّت انتباهكم عن العمل الذي تؤدّونه مع العملاء والذي يولّد لكم الدخل، كما يعرّضكم لخطر أن ينظرَ أقرانُكم إليكم على أنكم مجرد إداريون يُبالغ بتقدير أعمالهم.
هناك خطأ آخر غالباً ما يرتكبه أصحاب المهن الفكرية، ألا وهو الاعتقاد بأنّهم قادرون على الارتقاء في شركاتهم بمجرّد إنجاز عملهم التقني بطريقة متقنة – أي أن يكونوا خبراء يحترمهم زملاؤهم ويقدّرونهم. فهذا أمر أساسي للنجاة من الرفض المتدرّج من الموظفين في المراحل المبكرة من حياتكم المهنية، لكنّ اللعبة تتغيّر مع اقترابكم من مرتبة الشراكة. إذ من النادر أن يرتقي المختصّون التقنيون إلى المناصب القيادية العليا. ولا يحصل أبداً أن تُدار كبريات شركات القانون والمحاسبة من رئيس قسم الضرائب، على سبيل المثال.
وبين صفوف أصحاب المهن الفكرية، تعتمد مشروعية القائد في نهاية المطاف على قدرته على تحقيق الإيرادات – أي بعبارة أخرى، أن يكون "صانع المطر" كما يُقال مجازاً باللغة الإنكليزية. فقد توصّل بحثي إلى أنّ الأشخاص الذين يصلون إلى قمّة الهرم في شركات خدمات المهن الفكرية بارعون جدّاً في الحصول على عملاء وفرص عمل جديدة، وفي إدارة العملاء الأكثر تطلّباً ممن يُدرّون الدخل للشركة، كما أنهم يعملون بجد أكبر ولفترات أطول لكسب الأتعاب مقارنة بأقرانهم (ضمنَ بيئةٍ المعيارُ الطبيعي فيها هو العمل لفترات أطول). وبما أنّ الزملاء ينظرون إليهم بوصفهم نماذج تُحتذى، فإنّهم مستعدّون للتنازل عن السلطة لهم.
تكمنُ المفارقة في أنّ العديد من هؤلاء الأشخاص الذين يشكّلون نماذج تحتذى غير مهتمّين بأن يصبحوا قادة. فهم يريدون أن يركّزوا على العمل الذي يحبونه– أي العمل الذي ينجزونه مع عملائهم – وهم متردّدون في التقدم لشغل منصب قادة لمكاتبهم أو شركاتهم.
تُعتبرُ كريستين مثالاً تقليدياً على ذلك. فهي أكثر من يحقق الإيرادات لشركتها المتخصّصة بالمحاسبة، وقد باعت أكبر المشاريع إلى أفضل العملاء. لكنّها كانت تشعر بالإحباط من مدير قسمها الذي فرض ضوابط مفرطة أعاقتها عن إنجاز عملها مع العملاء. في الماضي، كانت كريستين تتعمّد تجنّب تولّي المناصب القيادية، لكنّ زملاءها الآن طلبوا منها أن تأخذ زمام المبادرة، وأن تتحدّى مدير القسم، لكي تزيل العوائق التي تزعج الموظفين، وتستعيد الاستقلالية التي كانت محط احتفاء من الجميع.
شعرت كريستين بالتردد، لكن عندما أدركت أنّ رئيس القسم يسعى إلى إعادة انتخابه لدورة جديدة، أعلنت أمام الآخرين عن رغبتها بشغل المنصب. كان ذلك هو كل التشجيع الذي احتاجه زملاؤها الشركاء. ولجأوا إلى الشريك الأول في الشركة ليحصلوا على الدعم منه، قائلين إنّهم قد فقدوا الثقة في مدير المكتب لكنّهم أبدوا استعدادهم للعمل مع كريستين. تشرح كريستين الأمر قائلة: "انشدّ الناس إليّ. كان لديّ اتباع حتّى قبل أن أتولّى منصباً قيادياً لأنني كنت الشريك الأساسي الذي يعمل مع عميل كبير. لذلك أوجدت الفرص للناس، وكنت ناجحة، وقد استمتعوا بالعمل معي ومع عملائي". بعبارة أخرى، كان أقرانها ينظرون إليها بوصفها قائدة محتملة لأنها كانت ناجحة في السوق، ولأنها كانت مستعدّة لمشاركتهم نجاحها.
مع ذلك، ورغم أنّ هذا أعطاها المشروعية لتقود الشركة، إلا أنّه لم يضمن براعة كريستين في القيادة، كما اكتشفت بعد وقت قصير. فلكي ينجح أصحاب المهن الفكرية في إدارة شركاتهم بفاعلية، فإنهم بحاجة إلى فهم ديناميكيتين أخريين للقيادة.
المناورة السياسية
رغم أنّني لا أسأل من أجري مقابلات معهم أبداً عن الألاعيب السياسية التي تدور في المكاتب، إلا أنهم غالباً ما يسعون إلى إخباري بمدى نفورهم من أحابيل السلوك السياسي. وقد صرّح رئيس إحدى شركات الاستشارات في دراستي قائلاً: "بالنسبة لي، الألاعيب السياسية هي أساليب خبيثة من قبيل بناء التحالفات في الأروقة، وفي المكاتب خلف الكواليس، ومن قبيل الأجندات الرامية إلى التلاعب بالموظفين بطريقة تؤدّي إلى خلق أمر واقع لا يمكن إلا الرضوخ له. أعتقد أنّ هذه السلوكيات غير موجودة في هذه الشركة".
ربّما يعيش هذا الرئيس حالة إنكار، أو أنّه ببساطة لا يقول الحقيقة. في الواقع، كانت الألاعيب السياسية مستشرية ضمن مؤسسته على نطاق واسع، تماماً كما هي منتشرة في معظم شركات خدمات المهن الفكرية التي درستها. وليس بالضرورة أن يكون ذلك أمراً خبيثاً؛ ففي بيئة تتّسم بالاستقلال الذاتي والسلطة المشروطة، تعد المناورة السياسية الطريقة التي تُمارس بها القيادة. حيث يحتاج القادة إلى الوصول إلى حالة من الإجماع في الرأي والمحافظة عليه بين صفوف الأقران، وتقديم الحوافز إليهم على انفراد لإقناعهم بتقديم دعمهم علناً. ولكي ينفّذ القادة هذه المهمّة بنجاح، ولكي يحافظوا على سلطتهم، فإنّهم بحاجة إلى امتلاك أربع مهارات سياسية أساسية، وهي: القدرة على نسج العلاقات، والنفوذ الشخصي، والذكاء الاجتماعي، والصدق الظاهر. وتدرج العديد من الشركات السياسة ضمن أنظمة الحوكمة فيها؛ حيث تعقد الانتخابات لشغل المناصب القيادية العليا التي يصدر فيها المرشّحون بيانات، ويديرون حملات، ويشاركون في المناظرات.
لا يثق أصحاب المهن الفكرية بزملائهم الذين يبدون راغبين بالسيطرة عليهم. لا بأس في أن يكون المرء طموحاً بما يخصّ الشركة، لكن لا يجب أن يبدو راغباً بتحقيق طموحاته من أجل مصلحته الشخصية. لذلك، إذا كنتم في موقع القائد، يجب عليكم أن تقنعوا زملاءكم أنّكم توظّفون مهاراتكم السياسية لفائدتهم وليس لفائدتكم الشخصية. فإذا كان بوسعكم فعل ذلك، فلن ينظروا إليكم وقتها كأشخاص مسيّسين بل سيعتبرونكم أشخاصاً نزيهين.
تتمثل إحدى طرق إقناع أقرانكم بنزاهتكم في وضع رؤية جذّابة للشركة، وإيصالها إلى الآخرين. لنأخذ مثلاً أنطونيو، و وهو الشريك في مكتب كبير للمحاماة. رغم أنّه كان يدير قسماً صغيراً نسبياً، إلا أنّه كان يتمتّع بطموحات كبيرة، وقرّر الترشّح لمنصب شريك أوّل في المكتب. خاض أنطونيو حملة ضدّ ثمانية مرشّحين آخرين، وعمل جادّاً على كسب الدعم من خارج قسمه. حيث اجتمع بعدّة مئات من زملائه الشركاء، سواء بشكل فردي أو ضمن مجموعات صغيرة، ليصغي إليهم، وليعرف ما يشغل بالهم، وليشرح لهم كيف ستسهم رؤيته في تحقيق ما يصبون إليه.
أثناء المناظرة المخصّصة للمرشّحين، ألقى خطاباً مؤثراً، شرح فيه رغبته بإطلاق العنان لما وصفه بالقدرات الريادية الكامنة لدى الشركاء من خلال "إعادة الشراكة إلى أيدي الشركاء". وطرح فكرة برنامج استثماري طموح لتمويل مبادرات جديدة بقيادة الشركاء. شعر أقرانه بالتأثّر بما رأوه من التزامه الشغوف بالشركة، وإيمانه بقدرتهم، فانتخبوه بأغلبية ساحقة. تجلت النزاهة التي تصوّروها لدى أنطونيو في الطريقة التي وصفه بها أحد زملائه قائلاً: "هو شخص لا يمارس الألاعيب. طموحاته في هذا العالم صادقة ونقية للغاية ".
ثمّة ارتباط واضح بين القدرة الكبيرة على تحقيق الإيرادات لشركته والبراعة في إدارة الحملات. فالشخص الذي يتمتّع بالقدرة على نسج العلاقات، والنفوذ الشخصي، والذكاء الاجتماعي، والصدق الظاهر لإدارة العملاء الأقوياء قادر أيضاً على استعمال هذه المهارات لإدارة الشركاء الأقوياء. لكنّ ممارسة القيادة في شركة خدمات مهن فكرية تتطلّب أكثر من ذلك.
التفاوض الدائم
ليس من السهل تحقيق التوازن بين ممارسة الاستقلال الذاتي وتأكيد السيطرة. فهو ينطوي على تفاوض دائم. وهذه هي الديناميكية الأساسية الثالثة للقيادة الجماعية في شركات خدمات المهن الفكرية. فمعرفة الأفعال التي يجب الإقدام عليها تشكل جزء فقط من التحدّي. أنتم بحاجة إلى معرفة توقيت الإقدام على هذه الأفعال، ومع من، وكيف تقنعون زملاءكم أنّكم تعملون بهدف خدمة مصالحهم الفضلى، وليس خدمة مصالحكم الذاتية.
على سبيل المثال، في بداية العام المالي، قد ينظر زملاؤكم إلى محاولاتكم لتأكيد السيطرة بوصفها تعدّياً غير مقبول على استقلالهم الذاتي. ولكن إذا انتظرتم حتى تصبح المصاعب المالية واضحة، فإنهم قد يتذّمرون من وجود "فراغ في القيادة". وإذا ما اعترضتم على السلوك غير المناسب لشريك محبوب ويحظى بالشعبية، فإنّ زملاءكم قد يحتجّون. ولكن إذا فشلتم في توبيخ شريك مهمش ويحظى بإعجاب أقل على السلوك ذاته، فإنهم قد يشكّكون بقيادتكم الأخلاقية. شرح أحد كبار الشركاء المشاركين في دراستي المشكلة على النحو التالي: "يقول الشركاء: "أنت متشدّد، ارخِ قبضتك قليلاً". وعندما ترخي قبضتك، يقولون: "الوضع فوضوي، احكم قبضتك قليلاً".
شبّه أحد رؤساء مجالس الإدارة العملية بأنّها "كالسير على الحبل؛ فأنا أساعد الشركاء على الشعور كأنهم مالكون للشركة، والشعور أنّهم منخرطون، ومتفاعلون، ولكن دون الهيمنة عليهم، ودون اعتراض سبيلهم، ودون التصرّف بغرور، ممّا يجعلهم يشعرون وكأنهم في موقع رئيس مجلس الإدارة الذي ينطلق في رحلته. في الوقت ذاته، التمتع بالقوة كقائد، ومنحهم الثقة أننا نسير في اتّجاه محدّد".
دعونا نعود إلى دانييل، العضو المنتدب الذي واجه صعوبات في أداء واجبه وخسر دعم أقرانه. فبعد أن فاز بالانتخابات، وظّف مدير عمليات من شركة كبيرة لإجراء إصلاح شامل وجذري لقاعدة التكاليف في شركته، مع التركيز على إنفاق الشركاء. قاد دانييل بنفسه فريق العمل الذي عكف على إعادة تصميم نظام تقييم الشركاء، وتشديد المقاييس، وتوضيح التبعات المترتّبة على عدم تقديم الأداء المطلوب، وتعزيز نظام المكافآت في حال النجاح. بعبارة أخرى، فعل بالضبط ما انتخبه الشركاء للقيام به، أي فرض السيطرة من خلال استعمال ضوابط مالية أكثر صرامة استناداً إلى الأداء.
أثناء الانتخابات، تحدّث دانييل عن إخضاع الشركاء "المستفيدين دون بذل جهد" إلى مساءلة أكبر، لكنّه كان غامضاً بشأن التفاصيل. وبعدما وصل إلى منصبه، بدأ زملاؤه يتساءلون: من هم الشركاء الذين يعتقد أنهم مستفيدون دون بذل جهد؟ كم هو عددهم؟ وما الذي يعنيه بالضبط بعبارة "مساءلة أكبر"؟ بدأ الشركاء غير الراضين عن الوضع الجديد يتحدثون فيما بينهم أنّ دانييل على ما يبدو مستمتع بسلطته أكثر مما يجب، وأنّه لا يُظهرُ لأقرانه ما يكفي من الاحترام. وشجّعوا زملاءهم على الاعتقاد أنّهم هم المقصودون بعبارة "المستفيدين دون بذل جهد" الذين كان دانييل يشير إليهم. وقد أدت هذه الأحاديث في الخفاء إلى نتائج ملموسة. فعندما طرح دانييل النظام الجديد لتقييم الشركاء، ثارت ثائرة زملائه، وأُجبر على التخلّي عن خططه.
لم يعلم دانييل أنّ شركاءه عندما طلبوا منه بسط سيطرته، كانوا يقصدون السيطرة على زملائهم ولكن ليس عليهم هم شخصياً. كانوا مستعدين للتخلّي عن بعض الاستقلال الذاتي، ولكن لم يكونوا مستعدين لأن يُسحب منهم بالكامل. ومن خلال رفضهم لمقترحات دانييل، كانوا يحاولون تلقينه درساً، ألا وهو أنّه بوصفه قائداً منتخباً، فإنه كان يعمل في نهاية المطاف لديهم، وليس العكس. ولكن بما أنّه كان قد صوّر نفسه على أنّه مخلّص الشركة، كان قد أصبح مقتنعاً بخطابه واعتقد أنّه قادر على إنجاز المهمّة بنفسه. ولم يفهم أنّه كان بحاجة إلى كسب الشركاء إلى صفّه، أي أنّ قيادة شركات خدمات المهن الفكرية هي مهمّة جماعية، وأنّ واجب إدارة الأقران هو أمر خاضع لإعادة التفاوض والتجديد المتواصلين.
التوازن غير المستقر
إضافة إلى التفاوض الدائم، يجب على قائد شركة خدمات المهن الفكرية أن يستمر في مراقبة الديناميكيتين الأخريين المتغيرتين على الدوام. فلكي تحتفظوا بمشروعيتكم، أنتم بحاجة إلى المحافظة على نجاحكم في السوق، على الرغم من عدم قدرتكم على تخصيص كامل وقتكم للأنشطة التي تحقق لكم الأتعاب بعد الآن. يجب عليكم أن تمارسوا المناورات السياسية على الدوام، حيث أنّ التحالفات بين الشركاء تتبدّل، كما أن سلطتهم النسبية تصعد وتهبط. وتذكّروا أيضاً أن الأمر لا يقتصر فقط على ما تقومون به كقادة أفراد، وإنما على كيفية تفسير زملاؤكم لما تقومون به وكيفية تجاوبهم معه (الاستنتاج بأنّكم تتمتعون بالقدرة على القيادة، والتصوّر بأنكم تتمتعون بالنزاهة، والشعور بحرية ممارسة الاستقلال الذاتي).
تتضخّم حالة عدم الاستقرار نتيجة الترابط القائم بين ديناميكيات القيادة الثلاث. فإذا ما اكتشف أقرانكم مناورتكم السياسية، فإنهم سرعان ما سيشكّكون بمشروعيتكم. وهذا سيقوّض قدرتكم على التفاوض لتحقيق التوازن بين السيطرة والاستقلال الذاتي، تماماً كما سيقوّضُ هذه القدرةَ فشلُكم في إقناع الناس أنّكم تتصرّفون بما يخدم مصالحهم الفضلى وليس مصالحكم الذاتية.
هل تتذكّرون كريستين؟ لقد أراد زملاؤها منها أن تتولّى قيادة مكتبهم لأنها كانت ناجحة في الفوز بالعملاء. لكنّها سرعان ما أُثقلت بسبب تعقيد المنصب الجديد، وأدركت لماذا بدا رئيس المكتب السابق متحكّماً جدّاً؛ فقد كان هناك الكثير من الأشياء التي تحتاج إلى تحكّم وسيطرة. كانت كريستين تفتقر إلى الوقت والصبر للتعامل مع غرور الشركاء الذين كانوا قد دعموها وباتوا يتوقعون منها أن تدعهم في مشاريعهم الأثيرة على قلبهم، وفي الأمور التي تزعجهم. وأصبح انتباهها مشتّتاً عن عملها مع العملاء، وهو نقطة قوّتها الأساسية. وبعد أن فشلت في الحصول على مشروعين رئيسين جديدين، بدأ زملاؤها ينظرون إليها من زاوية مختلفة. لم يعودوا مؤمنين بقدرتها القيادية. وبعد أن تراجع أقران كريستين عن تعاونهم، فقدت سلطتها، ومعه فقدت قدرتها على إنجاز الأشياء. لقد اختل التوازن.
وماذا عن أنطونيو؟ في مسعى منه للوفاء بوعده الانتخابي، أطلق خططاً طموحة للإنفاق، فهبطت الأرباح، وبعد أن علم العملاء بمصاعب الشركة، لم يتمكّن أنطونيو من الحصول على مشاريع جديدة. فقد مشروعيته كقائد، وأصبح بالتالي غير قادر على التفاوض بفاعلية. لكنّ مهاراته السياسية، التي كانت قد ساعدته على الفوز بالانتخاب ضدّ معارضيه الشرسين، مكّنته من إنقاذ ماء وجهه. وعندما دعت مجموعة صغيرة من الشركاء النافذين إلى اجتماع للمطالبة باستقالته، عرض أنطونيو عليهم صفقة يكمل بموجبها دورته كشريك أوّل، شريطة أن يتولّى واحد منهم منصب مدير العمليات لإدارة الشركة نيابة عنه. لقد فهم أنطونيو متأخّراً ديناميكيات القيادة الجماعية.
وضع القيادة الجماعية موضع التطبيق العملي
كيف تبدو القيادة الجماعية عندما تُطبق بشكل ناجح؟ تمتّع بيتر وبول، الشريك الأول والعضو المنتدب في مكتب عالمي للمحاماة بفهم فطري للقيادة الجماعية عندما أدارا شركتهما في خضمّ أسوأ أزمة عصفت بها خلال تاريخها الممتد على مدار 70 عاماً. فبعد الأزمة المالية التي حصلت عام 2008، أدركا أنّ شركتهما يجب أن تخضع لعملية إعادة هيكلة رئيسة، وأنهما سيضطرّان إلى الطلب من عدد كبير من الشركاء البالغ عددهم 500 شخص مغادرة الشركة. لم يحدث شيء من هذا القبيل في الشركة من قبل، وكانت قواعد الحوكمة فيها تستدعي تصويت جميع الشركاء على قرار بهذا الحجم.
كان بيتر وبول من بين كبار الشركاء المنتجين الذين يستقطبون الأعمال والقضايا إلى الشركة، وكانا يحظيان باحترام كبير من زملائهما. ومع ذلك، فقد أدركا أنّهما إذا تعاملا مع الشركاء بشكل غير صائب، وأساءا إدارة العملية، فسرعان ما سيخسران مشروعيتهما في القيادة.
عقد الاثنان اجتماعاً ضمّ مجموعة صغيرة من أقوى الشركاء في الشركة، وطلبا منهم العمل معاً من أجل اتخاذ قرار بخصوص الزملاء الذين ُسيُطلب منهم المغادرة. على مدار الأشهر القليلة التالية، عملت هذه المجموعة سرّاً على تحليل بيانات الأداء، وتناقش أعضاؤها مطوّلاً بخصوص قائمة المرشّحين للمغادرة. كان العديد من الشركاء قد عملوا معاً لأكثر من 20 عاماً، وقاوم بعض أعضاء المجموعة وضع أسماء أصدقاء وزملاء قدامى على اللائحة. ولكن تدريجياً، استقطب بيتر وبول المزيد والمزيد من الشركاء إلى عملية اتخاذ القرار، حتى وصل عدد الشركاء المعنيين بالمداولات السرّية في نهاية المطاف إلى 50 من أصل 500 شخص.
المبادئ الإرشادية لقيادة شركة خدمات مهن فكرية
ركّزوا أولاً على الأساسيات.
لن يتقبلكم أقرانكم في موقع القيادة إلا إذا أدركوا أنكم تضاهونهم جودة في أدائكم لعملكم على الأقل. أنتم بحاجة إلى بناء سمعة كأشخاص قادرين على إنجاز أعمال بارزة والفوز فيها في مرحلة مبكرة من حياتكم المهنية. وعندما تتولّون منصباً قيادياً بارزاً، لا تنغمسوا فيه انغماساً مفرطاً إلى الحد الذي يجعلكم تهملون الاستمرار في استقطاب عمل جديد.
اصقلوا مهاراتكم السياسية.
افهموا التفاصيل المخفية والدقيقة للألاعيب السياسية التي تجري في المؤسسات. لا تفترضوا أنّ الزملاء البارعين فيها ليسوا محطّ ثقة. فكّروا في آخر مرّة نجح فيها شخص ما في إقناعكم بقضية هامّة. ما الذي قاله ذلك الشخص وفعله؟ ثم فكّروا في ما فعلتم وما لم تفعلوا في آخر مرّة فشلتم فيها في الحصول على ما تريدونه. التأثير في الآخرين بطريقة استراتيجية لا يجعلكم غير صادقين؛ هذا أمر بديهي فحسب.
خذوا وقتكم لبناء حالة من الإجماع في الآراء، ولكن كونوا مستعدين لفرض السيطرة.
إذا كانت لديكم رؤية قوية، قد تكونون مستعجلين لتنفيذها. لا تستعجلوا. فأنتم بحاجة إلى استقطاب أصحاب المصالح المتنافسة إلى جانبكم، والإصغاء باحترام إلى الاعتراضات، وإفساح المجال أمام المطالب (لكي تثبتوا أنكم تصغون). حافظوا على الصبر وأنت تراقبون زملاءكم من بعيد يمارسون حقّهم المشروع في "نشر الفوضى"، لأنهم سيقدّمون أداءً أفضل في نهاية المطاف إذا تعلّموا بأنفسهم. لكن يجب أن تتولّوا زمام السيطرة في الوقت المناسب، وإلا فسيشتكي الزملاء من وجود فراغ في القيادة.
كونوا طموحين فيما يخصّ شركتكم (وفيما يخص مصالحكم الذاتية).
حماستكم تجاه شركتكم واهتمامكم بها يجب أن يبدوا في أعين الناس على أنّهما صادقين، بغضّ النظر عن مدى طموحكم الشخصي. اجعلوا أقرانكم يصدّقون أنّكم تهتمّون بمصالحهم بقدر اهتمامكم بمصالحكم الذاتية.
اعرفوا متى تكونوا "اتباعاً" جيّدين.
ستضطرون كقادة باستمرار إلى دغدغة الغرور لدى زملائكم. فكلّما ارتقيتم أكثر، عليكم أن تحاولوا إقناع من حولكم أن "رؤوسكم لم تكبر". وبوصفكم قادة في شركة خدمات مهن فكرية، عليكم أن تكونوا متقدّمين بضع خطوات على شركائكم، وأن تكونوا قادرين أن تميزوا الوقت الأفضل للتراجع وإظهار استعدادكم لاتّباع إرادة الشركاء.
كان أحد المفاصل الأساسية للعملية هو الطريقة التي تدخّل بها بيتر وبول بطريقة انتقائية، ممّا سمح للمجموعة الموسّعة من الشركاء بأن تتمتّع بالاستقلال الذاتي لقيادة العمل، إلا أنهم كانوا يبسطون سيطرتهم عندما يشعرون أنّ أعضاء المجموعة لم يكونوا يحرزون التقدّم الكافي.
قسّم بيتر وبول الأدوار فيما بينهما. فكما شرح أحد الزملاء: "عمل بيتر وراء الكواليس متحدّثاً إلى كلّ واحد منّا على انفراد، وفارضاً الضغط على كل واحد منّا ليضمن أنّه قد قطع شوطاً كافياً". لم تكن هذه المقاربة ناجحة دوماً، وفي تلك الحالة، كان بول يتدخّل. يقول بول: "كنت مضطراً إلى ممارسة الضغط لضمان وجود أسماء كافية على اللائحة. ولكن ما إن نتوصّل إلى اتفاق، حتّى تقصُر القائمة خلال يومين. كنت أضطر إلى العودة إليهم عدّة مرّات لأقول لهم: "هذا ليس كافياً". أخيراً، وبعد انقضاء خمسة أشهر على اندلاع الأزمة المالية، أصبح بيتر وبول جاهزين ليتحدثوا إلى الشركاء جميعهم. خلال بضع ساعات من الاتصالات أو الاجتماعات الشخصية حول العالم، طلبوا من 15% من الشركاء – ومجموعهم 75 شخصاً– المغادرة أو قبول تخفيض نصيبهم من حقوق المالكين. في مساء ذلك اليوم، دعا بيتر وبول إلى اجتماع طارئ للشركاء للإعلان عن عمليات المغادرة. وحيث أنّ بقيّة الشركاء شعروا بالارتياح لأنّ الخيار لم يقع عليهم، فإنّهم لم يصرّوا على الحق في الدعوة إلى التصويت على إعادة الهيكلة.
نجح بيتر وبول لأنّهما عملا مع مجموعة فرعية متزايدة من الشركاء، لضمان ضمّ النقّاد الأقوياء المحتملين إلى عملية اتخاذ قرار جوهري صعب للغاية. لقد منحهما سجلّهما الحافل في النجاح في السوق المشروعية التي احتاجا إليها لإقناع الزملاء بالتعاون. كما أنّ مهاراتهما السياسية مكّنتهما من المناورة في التعامل مع الآراء المتنافسة لأقرانهما. وأتاح توقيتهما المناسب لبسط السيطرة في حين، وترك الزملاء يمارسون الاستقلال الذاتي في حين آخر في التفاوض للوصول إلى حالة من التوافق في الآراء.
رغم أنّ قصّة بيتر وبول تتعلّق بأزمة تحصل لمرّة واحدة، من المهم التّذكر أنّ القيادة الجماعية أمر مستمر. وديناميكيات القيادة في حالة من التحرّك الدائم، حيث أنّ التوازن يمر بحالة دائمة من عدم الاستقرار والعودة إلى الاستقرار. وفي بعض الأحيان، قد يتقدّم أحد الأفراد ويتولّى القيادة، وسيسمح له الزملاء بفعل ذلك. وفي أوقات أخرى، قد يتراجع ذلك الفرد ويصبح تابعاً جيّداً، حتى لو كان هو المسؤول اسمياً. لذلك فإنّ القيادة الجماعية ليست أمراً يُمارس على الاتباع وإنما مع الزملاء.
يشمل فريق القيادة في شركات خدمات المهن الفكرية جميع الشركاء. وفي بعض الشركات، تحتاج القيادة الجماعية إلى الحصول على آراء مئات من الأفراد ودعمهم. وعندما تكونون في منصب العضو المنتدب أو الشريك الأول، فإنّ أقرانكم قد يتطلّعون إليكم لتكونوا قادتهم الأبطال، وقد تشعرون بإغراء لبس هذا الثوب. لكنّكم بحاجة إلى الاستمرار في عكس تحدّي القيادة عليهم، وتذكيرهم وتذكير أنفسكم أنّ القيادة هي نشاط جماعي. فإذا شعرتم بالوحدة وأنتم في قمّة الهرم، ربما يكون السبب في ذلك عدم قيامكم بالمهمّة المطلوبة منكم بالشكل الصحيح.
يشمل فريق القيادة في شركات خدمات المهن الفكرية جميع الشركاء؛ وفي بعض الشركات تحتاج القيادة الجماعية إلى الحصول على آراء مئات من الأفراد ودعمهم.