كيف تستخدم قوة الصمت لتجعل الآخرين يستمعون لك؟

4 دقائق
قوة الصمت
shutterstock.com/hxdbzxy

يتقلّد فريد* منصب المدير الإداري في إحدى شركات الخدمات المالية الكبيرة، ويتمتع بقدرة خارقة على إقناع حشد من الحضور يملؤون قاعة بأكملها بوجهة نظره. ولم يكن فريد يحدّث الحضور عن أشياء تروق لهم دائماً، لكنه كان بارعاً في الإقناع.

ولم تكن هذه البراعة تُعزى إلى منصبه الوظيفي، فقد كان يمتلك قدرة هائلة على التأثير في زملائه الذين يساوونه في التراتبية الهرمية. ولم تكن تُعزى إلى ضعفهم، فقد عمل مع أشخاص ذوي قدرات تنافسية عالية. ولم تكن تُعزى أيضاً إلى لهجته البريطانية الرائعة والمميزة، فقد كان يمتلك القدرة على إقناع زملائه البريطانيين على غرار ما يحدث مع أي شخص آخر. ولم يكن أيٌّ منهم يمتلك سجل إنجازات يضاهي سجله الحافل بالقدرة على الإقناع.

كان فريد يتمتع بميزة مختلفة، لم تتضح لي على الفور؛ لأنني كنت أنصت إلى ما يقوله فريد، في حين أن نقطة قوته كانت فيما لا يقوله! وكان فريد أكثر مَنْ يلوذ بالصمت كلما تجاذب أطرافَ الحديث مع الآخرين، وكان آخرَ مَنْ يتحدث في أغلب الأحيان.

أقول “أكثر مَنْ يلوذ بالصمت كلما تجاذب أطرافَ الحديث مع الآخرين”، لأن بعض الناس يظلون صامتين تماماً من دون أن يقولوا أي شيء على الإطلاق، وهؤلاء الأشخاص غير مقنعين؛ فالكثيرون يفسّرون الصمت بالغياب، لكن فريداً لم يكن صامتاً بالمعنى السلبي أو بالمعنى الذي يمكن تفسيره بالغياب. في الواقع، كان ينشغل في أثناء صمته أكثر من الطرف الآخر في أثناء كلامه؛ لقد كان يُرهف السمع! وقد يبدو هذا منافياً للمنطق، لكنه اتضح أن الاستماع أكثر إقناعاً من التحدُّث.

ومن السهل الوقوع في مزلق اعتياد الإقناع بالحجة والجدال، لكن الجدال لا يقنع الآخرين بتغيير آرائهم، وإذا كان له أثر من أي نوع، فهو أنه يجعل الآخرين أكثر عناداً. ويستهين الإنسان على مرّ العصور بالصمت، فلا يراه مصدراً للقوة، ولا يعلم أن الصمت لا يتيح لنا سماع ما يُقال فحسب، بل ما لا يُقال أيضاً. وحين نلوذ بالصمت قد يكون من السهل أن نصل إلى الحقيقة؛ إذ يُضمر المتكلمون في أغلب الأحيان تحت سطح ما يقولونه معاني ضمنية تفوق ما تبوح به كلماتهم، فربما كانوا يضمرون قضايا لا يرغبون في الكشف عنها، أو أجندات لا يريدون إطلاع الآخرين عليها، أو آراء مخالفة للرأي السائد لدرجة أنهم لا يجرؤون على التفوّه بها .فيمكننا سماع كل هذه الأشياء بل أكثر عندما نلتزم الصمت، بل يمكننا حينها أن نستشعر المعاني الضمنية التي تتخفّى وراء الضوضاء.

أستطيع إدراك سر ما يفعله فريد؛ لأنه عندما يقرّر التحدث يستطيع استيضاح موقف الآخرين الذين يتحدثون إليه. وعندما يتحدث عمّا قالوه، ينظر إليهم نظرة تدلُّ على إقراره بما قالوه ويربطه بالنتيجة الأكبر التي كانوا يسعون إلى تحقيقها.

وإليك الجانب المثير للاهتمام: من الواضح أن فريداً قد أنصت إليهم جيداً؛ لذا لم يسع الآخرون إلى مجادلته، ولأنه أنصت إليهم جميعاً، كانت وجهة نظره تبدو بالغة الحكمة وتنال استحسان الجميع.

يرتبط هذا بشيء آخر واظب فريد على فعله باستمرار فجعله جديراً بالثقة وبارعاً في الإقناع؛ إذ كان على استعداد دائم للتعلم من رؤى الآخرين وأفكارهم، فكان يخبرهم عن أثر رؤاهم وأفكارهم في تغيير وجهة نظره حين يغيرها.

ولأن الكلمات تقف حجر عثرة في طريقك في أغلب الأحيان، فقد يساعدك الصمت على توطيد العلاقات؛ لذا جرِّب الاستماع مرة واحدة فقط إلى محاورك، وستجد أنه يخفف من حدة المناقشات لديكما، ويجعلكما أكثر استعداداً ليس لمواصلة الاستماع فحسب، بل لاستيعاب وجهتي نظركما أنتما الاثنان أيضاً.

ولكن إذا اتُّخذ هذا الصمت حيلة أو وسيلة للتلاعب بآراء الآخرين، فسيأتي بنتائج عكسية! سيُفتضح أمرك حتماً، وستفوح رائحة خيانتك التي ستبدو حينها طعنة نافذة في الظهر. فإنك إن خدعت الطرف الآخر للإيقاع به في علاقة زائفة، ثم اكتشف أنه كان ضحية جرى التلاعب بها، فقد لا يثق بك مرة أخرى أبداً؛.لذا عليك أن تستخدم الصمت القائم على الاحترام المتبادل.

وثمة الكثير من الأسباب الوجيهة التي تدعونا إلى الحرص على التزام الصمت الرصين، ومن العجيب أننا لا نُكثِر منه! ونحن لا نُكثِر من التزام الصمت لأنه يُشعرنا بالانزعاج، بل لأن ذلك يتطلب أن ننصت إلى رؤى وأفكار قد نختلف معها أو إلى أشخاص قد لا نحبهم.

لكن هذا ما تفرضه علينا متطلبات العمل الجماعي وتستوجبه ضرورات قيادة الآخرين، أن نرهف السمع إلى الآخرين ونراهم من كل الزوايا ونساعدهم على ربط رغباتهم ورؤاهم وأفكارهم واهتماماتهم بالنتيجة النهائية التي نريد جميعاً تحقيقها في نهاية المطاف.

وثمة شيء آخر نقدمه بوصفنا قادة بارعين في الإقناع عندما نلوذ بالصمت، وهو أن نمنح الآخرين فرصة كافية للإدلاء بدلوهم. يقول الفيلسوف الصيني المعروف، لاو تسو: “أفضل قائد هو مَنْ لا يحس الآخرون بوجوده، وإذا أنجز عمله وتحقق هدفه يقولون: لقد فعلنا ذلك بأنفسنا”. فعندما يسهم الآخرون بأفكارهم الخاصة، سيعملون حتماً بجد واجتهاد في سبيل تحقيقها، بخلاف ما سيحدث لو أنهم امتثلوا لأفكارنا وحدنا!

ويعد الصمت أفضل رهان في جعبتنا لتحقيق هذا المثل الأعلى في القيادة، فكيف نمارس هذا الصمت في الواقع العملي إذاً؟ نعلم كلنا كيف يمكننا أن نكون صامتين، ولكن هل يمكننا مقاومة ضغط الكلام؟

قلّما تجد أحداً يستطيع مقاومته، لذا من النادر أن نجد لحظات يسودها الصمت التام في التجمعات البشرية، ولكن يمكننا استغلال هذا لصالحنا وفقاً لرأي فريد؛ فقد قال لي: “عندما تطرح سؤالاً في مجموعة انظرْ إلى الأمر بعدّه مسابقة، فإذا أجبتَ عن سؤالك بنفسك فقد خسرت؛ لأن هذا سيجعلك تجيب عن أسئلتك طوال اليوم ولن يكلّف أيُّ شخص آخر نفسه عناء أداء هذا العمل؛ لذا انتظر ملتزماً الصمت مهما طال الوقت حتى يتحدث أحد أفراد المجموعة، وسيواصلون بعد ذلك أداء العمل الضروري لقيادة أنفسهم”.

هذا هو سره: اجعل الآخرين يتكلمون ليكسروا حاجز الصمت، وأرهفِ السمع للحقائق الكامنة وراء كلماتهم، ومن ثَم عليك الإقرار بما سمعته، وهو أكثر مما قيل على الأرجح، وفور أن يشعر الآخرون بأنك قد أعرتهم انتباهك وأنصتَّ إلى آرائهم، اعرضْ وجهة نظرك، وحين يوافقونك جميعاً تعلم أنك قد أحسنت استخدام قوة الصمت!

*غيرتُ اسم فريد الحقيقي لحماية خصوصيته.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .