أحدثت الابتكارات التقنية تحولاً جذرياً في مشهد الأعمال من عدة أوجه على مدى القرنين الماضيين، بدايةً من استحداث القدرة البخارية، وحتى غزو الإطارات ذات الطيات القُطرية للأسواق. وأثبتت الأبحاث المتعلقة بموضوع التحولات الرقمية الناجحة، التي أجرتها شركة "ماكنزي آند كومباني" (McKinsey & Company) و"مركز ماكنزي العالمي" (McKinsey Global Institute)، أن الرقمنة لها أثر جذري مثيل. وتحرياً للدقة، فقد أثبت بحثنا كيف أن الرقمنة يمكن أن تُحدث ضرراً جسيماً بالشركات الراسخة في العديد من الصناعات، فسوف تستنفد ما يُقدر بنصف النمو في إيراداتها وثلث نمو أرباح ما قبل الفوائد والضرائب للشركات التي تهمل تبني الابتكارات الرقمية.
ولم يفُت الأوان بعد على الشركات الراسخة لأن تبطل اللعنة الرقمية وتُعيد خلق مسار أكثر ربحية للنمو، إذا كانت على استعداد للاستثمار بقدر أكبر في التقنية الرقمية، ولديها القدرة على ذلك مقارنةً بأقرانها بل والإمساك بزمام المبادرة عبر إعادة تنظيم محافظ استثمار أنشطتها، وتعزيز الأنشطة المتبقية بنماذج عمل جديدة. والأهم من ذلك كله، أنه من الحكمة أن تختار الشركات الراسخة "نموذج محاكاة المنصة"، فتخلق قيمةً بالتوسط في المعاملات بين الأطراف الأخرى، مثل الموردين والمستهلكين - لأنها تفتح الطريق أمام تحقيق قيمة أكبر في سلاسل الصناعة المُزعزعة.
ورغم المنافع المثبتة لهذا المسار الذي نُطلق عليه جميعاً اسم "إعادة الاكتشاف الرقمي"، لم يتبناه بالكامل سوى قلة من الشركات. في أبحاثنا الأولى المستندة إلى بيانات عام 2016، اكتشفنا أن 16% فقط من الشركات اتخذت خطوات نحو إعادة الاكتشاف، ما يعني أنها أعادت هيكلة محافظها الاستثمارية (فتخلت عن الأعمال المتراجعة، ووسعت نطاق أعمالها المربحة)، وضخت أموالاً أكثر من أقرانها في استراتيجية رقمية طموحة وفقاً لنماذج عمل منصات جديدة. وفي أبحاث أحدث، أُجريت منتصف عام 2017، ما زالت بياناتنا المستخلصة من 1,650 شركة حول العالم تؤكد أن أقل من 20% من الشركات سلكت درب "إعادة الاكتشاف الرقمي". ورغم تحذيراتنا لأنفسنا وتحذيرات الآخرين لنا، قدّرنا أن غالبية الشركات الراسخة سوف تخفق في تعديل مسارها لتتكيف مع العصر الرقمي.
ستة عوامل مهمة من أجل اكتشاف التحولات الرقمية الناجحة
ومن ثم، جاءت أبحاثنا الجديدة التي تركز على فهم كيفية التشجيع على إعادة اكتشاف رقمي أكثر تواتراً (وأكثر ربحية). ولقد اكتشفنا ستة عوامل مهمة وقوية إحصائياً تتنبأ باحتمالية أن تختار الشركة الراسخة مسار إعادة الاكتشاف. وهي كالتالي، مرتبةً بحسب الأهمية:
1. الهوس بالاضطرابات التي تلوح في الأفق
تميل الشركات الراسخة عموماً إلى المعاناة من الزعزعة لأنها تتجاهل مؤشرات الاضطرابات، وعلى النقيض تماماً، نجد أن الشركات التي تعي درجة الاضطراب الرقمي هي الأكثر تحمساً لتبني موقف هجومي، والشركات التي تعمل في القطاعات الأكثر تقدماً من الناحية الرقمية، مثل التقنية المتقدمة، تشعر بالفعل بضغوط الرقمنة، وبالتالي فهي أكثر جنوحاً لتبني موقف هجومي. وفي دراستنا، اكتشفنا أن ربع شركات التقنية المتقدمة تتبنى موقفاً هجومياً ضعفين ونصف أكثر من جميع الشركات والقطاعات. وفي المقابل، لدى صناعة السيارات، بالكاد، نصف معدل الشركات المعيدة لاكتشاف نفسها رقمياً.
واللافت بقدر أكبر، هو أوجه الاختلاف داخل الصناعات، إذ يشجع مفهوم الخطر على التحرك والفعل. ففي صناعة التقنية المتقدمة، اكتشفنا أنه عندما تخلُص الشركات إلى أن نموذجها الحالي ليس صالحاً، وأنه لا بد أن يتكيف بالكامل مع الظروف الجديدة (في مقابل إجراء تعديلات رقمية هامشية فقط على النموذج الحالي)، فهي تُعيد اكتشاف نفسها رقمياً بنسبة 40% أكثر من متوسط الصناعة. وتختلف نقطة التحول الداعية لاتخاذ إجراء باختلاف الصناعة، ففي صناعة التقنية المتقدمة، غالباً ما تقفز الشركات قفزتها عندما يُعتقد أن المزاحمة الذاتية بلغت 25% من إيراداتها التقليدية. وفي صناعة الصيرفة، تُقدر نقطة التحول لخطر المزاحمة الذاتية بحوالي 25%. وعلى أي حال، عند تلك النقاط الحاسمة يصبح القرار سهلاً نسبياً بالتزامن مع هيمنة التقنية الرقمية.
2. استيعاب المخاطر كافة، وليست تلك المتعلقة بالشركات الناشئة فقط
من الأخطاء التي عادةً ما تقع فيها الشركات الراسخة النظر إلى مؤشرات الاضطرابات الآتية فقط من الشركات الوافدة الرقمية. ولكن مقابل كل شركة رقمية ناشئة في صناعة ما، من الأرجح أيضاً أن تكون هناك شركة راسخة تُعيد اكتشاف نفسها في الوقت ذاته.
تخيل شركة تعمل في صناعة يزاحمها فيها تسعة منافسون، وأحد المنافسين شركة رقمية ناشئة داخل الصناعة، وآخر شركة رقمية ناشئة من صناعة قريبة، والمنافسون السبع الباقون شركات راسخة داخل الصناعة. وهذه الأمثلة ليست افتراضية محضة، وإنما هي تقديرات لهيكل صناعة نموذجي بناءً على بياناتنا. وتواجه الشركات عادةً مزيجاً من المنافسين التقليديين والوافدين الجدد على صناعتها، والوافدين الجدد من مجالات قريبة. لكننا اكتشفنا أيضاً أن في المتوسط 3 من هؤلاء المنافسين التقليديين، من الأرجح أن يكونوا قد استقروا بالفعل على الانخراط في الرقمنة بقوة، وأن واحداً منهم ربما بصدد التحول فعلياً إلى شركة رقمية تُعيد اكتشاف ذاتها.
اقرأ أيضاً: كيف نجحت إحدى الرئيسات التنفيذيات في قيادة عملية التحول الرقمي؟
وإجمالاً، يعني ذلك أن الشركة المعنية تواجه هجمات شرسة من ثلاث شركات رقمية، لا شركة واحدة، إحداها منافس معروف قرر أن ينحرف عن الممارسات المعترف بها في الصناعة، وهو ما يُعرف باسم "تأثير الملكة الحمراء". علاوة على ذلك، كلما كانت الصناعة مُرقمنة، زادت حالات مبادرة الشركات الراسخة بالخوض في تجربة إعادة الاكتشاف الرقمي. ومن بين ثلاث شركات طَموحة في المتوسط، اكتشفنا أن المتوسط زاد إلى 5.5 شركة، أو أكثر من 50% من إجمالي المنافسة في صناعات التقنية المتقدمة شديدة الرقمنة.
ولكي تعيد الشركة اكتشاف نفسها دوماً، من الحكمة ألا تراقب الشركات الرقمية الجديدة الوافدة فقط، وإنما تُلقي نظرةً فاحصة على المنافسين التقليديين الذين يمكن أن يصبحوا شركات رقمية معيدة لاكتشاف نفسها أيضاً، ولا بد أن تحتاط للشركات الراسخة التي تتقاطع مع حدودها الصناعية.
3. شَن هجمة مزدوجة بالتركيز على العمق وعلى التنويع
كثير من الشركات اليوم تضع نصب أعينها الدفاع عن أعمالها الأساسية أولاً، ثم الانطلاق عبر التنويع ثانياً، والشركة الراسخة النموذجية تركز فقط حوالي 30% من مواردها على أنشطة خارج أعمالها الأساسية، وفي المقابل، تكرس الشركات المعيدة لاكتشاف نفسها رقمياً قدراً مكافئاً من الموارد لمراجعة نماذج أعمالها الأساسية والاستثمار خارج أعمالها الأساسية.
ومع ذلك، فقد اكتشفنا أن التركيز فقط على الأنشطة غير المتعلقة بالأعمال الأساسية ربما كان خطأً جسيماً: أولاً، تميل الإيرادات، ونمو الأرباح بقدر أقل، إلى الوهن والضعف بسبب التنويع، لأن الشركات تستغرق وقتاً طويلاً لترسيخ وجودها في كل مجال جديد. علاوة على ذلك، فإن أصول الشركات وكفاءاتها خارج نطاق أعمالها الأساسية لم تصل بعد إلى مرحلة الشمول والرسوخ بقدر ما هي عليه في سوقها الحالية. ثانياً، كما ناقشنا آنفاً، ما زالت الأعمال الأساسية مصدر حياة كثير من الشركات، وربما أدت إعادة الاكتشاف الرقمي في الأعمال الأساسية رغم ذلك إلى مسار نمو أفضل.
اقرأ أيضاً: مجلس الإدارة اللازم للتحول الرقمي
عندما تزيد الشركات المعيدة لاكتشاف ذاتها رقمياً من إجراءاتها الهجومية في أعمالها الأساسية والرقمية على حد سواء، نجد أن إجمالي إيراداتها، وكذا نمو أرباحها، قد تحسن. والأثر ليس كبيراً إحصائياً - فهو ينحصر في نطاق نمو سنوي في الإيرادات بنسبة تتراوح بين 0.5% و1% إضافةً إلى المعيار المرجعي وفقاً للصناعة - غير أن الأثر أكبر ثلاثة أمثال على الأرباح، وعلاوة على ذلك فإن هذه الزيادة تكتسب زخماً بمرور السنين.
4. إصلاح مهارات القيادة أولاً
كثير من الشركات الراسخة ما زال يواجه عثرات كبرى على الطريق في رحلة الرقمنة. من ناحية، هذا أمر طبيعي، فقد كُللت جهود الشركات الراسخة بالنجاح عندما رسّخت الإجراءات الروتينية والكفاءات على مدار السنين. وعموماً، كلما كانت تلك الكفاءات أنجح في توفير أصول يستحيل استنساخها، كان من الأصعب التخلي عنها. غير أن ما اكتشفناه في تحليلنا الإحصائي هو أن الشركات، من الأرجح، أن تسلك درب إعادة الاكتشاف الرقمي عندما يلتزم قادتها باتخاذ إجراءات، ومثال على ذلك، أن يرعى الرئيس التنفيذي البرنامج بقوة، وأن يُعيّن المجلس التنفيذي مدراء محددين لتحمل مسؤولية التحول، إلخ.
5. ترتيب أولويات نشاط الأعمال المرتكز على الطلب
ذكرنا آنفاً أن الشركات الراسخة تشهد عوائد أعلى عندما تحوِّل نماذج العمل إلى نموذج محاكاة المنصة، وهذا الأثر أعظم حتى للشركات الراسخة التي تظهر المؤشرات الأخرى لإعادة الاكتشاف الرقمي. وتعيد دراستنا الجديدة تأكيد هذا الكشف، لكننا اكتشفنا أيضاً فارقين بسيطين: أولهما، أن أحد الأسباب التي تجعل المبادرين الرقميين أنجح غالباً من الراسخين في السوق، هو أنهم يختارون نموذج محاجاة المنصة باعتباره أولويتهم القصوى بمعدل ضعفين ونصف اتخاذ الراسخين قراراً بالخوض في عملية إعادة الاكتشاف الرقمي. وثانيها، هو أن نموذج المنصة الذي يُعيد التركيز على جانب الطلب يزيد من فرصة كون الشركة معيدة لاكتشاف نفسها رقمياً، وفرصة تحقيق تقدم أفضل من جانب الأرباح. وهذه الوصفة لتحقيق الربحية الرقمية هي نتيجة لإمكانات التأثير الكبير لشبكة الطلب، بحسب ما يرد التأكيد عليها في أدبيات إدارة المنصات.
6. تجربة التقنيات المتطورة
إن إعادة الاكتشاف الرقمي تؤتي ثمارها فقط لو أتقنت الشركات البنية التقنية الرقمية السليمة. وبما يتسق مع النتائج الصادرة عن أبحاث موازية، فقد اكتشفنا أن الشركات المعيدة لاكتشاف نفسها رقمياً تضمن أنها تبنت النطاق الكامل للتقنيات الرقمية، ووزعتها في شتى أرجاء المؤسسة لدعم التطبيقات الحساسة للمهمة والعمليات. علاوة على ذلك، فهي تستثمر بالفعل في تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل تحديث خوارزميات تعلم الآلة وتحويلها إلى خوارزميات تعلم عميق، أو الاستثمار في الجيل التالي للروبوتات الذكية، باعتباره وسيلة للتمتع بميزة فارقة. ومن المذهل أننا لا نرى دليلاً على تحقيق قفزات نوعية في بياناتنا، فالشركات التي تنطلق في مجال الذكاء الاصطناعي دون إتقان الموجة الأولى من التقنيات الرقمية، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، أو الهواتف المحمولة، ليست نادرة الوجود وحسب، وإنما لا تحصل أيضاً على العائد الكامل لاستثماراتها. على الشركات إتقان كل جيل من التقنية، وبسرعة، لتصبح معيدة لاكتشاف ذاتها رقمياً، وتحقق أرباحاً عالية على استثماراتها التقنية، وذلك في سبيل تحقيق التحولات الرقمية الناجحة.
اقرأ أيضاً: