ملخص: واجهت دولة الإمارات العربية المتحدة التحديات بقيادة حكيمة وتنويع اقتصادي وقوة القطاع المالي، فحققت نقلة نوعية في اقتصادها، وأصبحت من الدول الأكثر تنافسية في العديد من المجالات الاقتصادية على مستوى العالم.
أُعلن عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971 حيث وقّعت على اتفاقية اتحادها في الثاني من ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، لكن ما حدث في غضون 50 عاماً يشبه قصص الخيال؛ إذ حققت نقلة اقتصادية نوعية متغلبة على كل التحديات التي واجهتها، وانتقلت من كونها دولة ذات مراكز تجارية متواضعة إلى دولة يُضرب بها المثل ببراعتها الاستراتيجية وازدهارها الاقتصادي وتطورها التكنولوجي. فكيف استطاعت دولة الإمارات أن تحقق هذه القفزة الاقتصادية في فترة قصيرة جداً من الزمن؟
العوامل التي جعلت دولة الإمارات تحقق قفزة اقتصادية نوعية في ظرف قياسي
التنويع الاقتصادي
قد تعزى القفزة الاقتصادية التي حققتها دولة الإمارات العربية المتحدة في المقام الأول إلى التنويع الاستراتيجي في الاقتصاد والتحرك بعيداً عن الاعتماد على النفط؛ إذ استثمرت على نحو كبير في قطاعات أُخرى؛ مثل السياحة والخدمات المالية والتجارة والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا. وقد أعلن وزير الاقتصاد الإماراتي، عبدالله بن طوق المري نقلاً عن وكالة رويترز، ارتفاع الناتج المحلي من القطاع غير النفطي بنسبة 5.9% في الأشهر الستة الأولى من عام 2023. وقال "إن النمو الاقتصادي في دولة الإمارات العربية المتحدة هو شهادة على مرونتنا وتنوعنا والتزامنا بالانفتاح والتعاون الدولي"، وأن البلاد أصبحت أقل اعتماداً على النفط وأكثر اعتماداً على الصناعات القائمة على المعرفة.
ففي قطاع السياحة، دفعت المشاريع الشهيرة مثل برج خليفة ونخلة جميرا، إلى جانب مبادرات مثل مهرجانات التسوق والفعاليات الثقافية والأثر الإيجابي لمعرض إكسبو دبي العالمي، دولة الإمارات العربية المتحدة إلى وجهة سياحية عالمية. ولم يجلب هذا التنويع إيرادات كبيرة فحسب، بل أدى أيضاً إلى إنشاء قطاع ضيافة قوي؛ إذ أسهمت الفنادق والمنتجعات والمرافق الترفيهية الفاخرة في خلق فرص العمل والنمو الاقتصادي.
كما أصبح سوق العقارات أيضاً نقطة محورية أخرى في التنويع، فطفرة البناء المعماري لم تحفز النشاط الاقتصادي فحسب، بل اجتذبت أيضاً المستثمرين الأجانب الباحثين عن فرص عمل في سوق العقارات المزدهر. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار المنازل الراقية في دبي بنسبة 6-7.9% على المدى القريب، وهي واحدة من أعلى الزيادات في أسعار العقارات في العالم، وفقاً للموقع الرسمي لإدارة التجارة الدولية.
فضلاً عن تركيز دولة الإمارات الاستراتيجي على التجارة والخدمات اللوجستية، مستفيدة من موقعها الجغرافي المحوري بين الشرق والغرب. والجدير بالذكر أن موانئ مثل جبل علي في دبي وميناء خليفة في أبو ظبي أدّيا دوراً محورياً في تحويل الدولة إلى مركز تجاري عالمي؛ حيث سهلت هذه الموانئ، المجهزة بأحدث المرافق والبنية التحتية اللوجستية الفعالة، التجارة الدولية السلسة، ما عزز النمو الاقتصادي للبلاد.
واستكمالاً لذلك، أنشأت دولة الإمارات مناطق حرة ومناطق اقتصادية خاصة؛ مثل مركز دبي المالي العالمي وسوق أبوظبي العالمي، بمثابة مناطق مخصصة للشركات، حيث تقدم حوافز ضريبية وأطر تنظيمية مبسطة، من أجل جذب الاستثمار الأجنبي وتشجيع التجارة وتبسيط العملية الشاملة لممارسة الأعمال التجارية. لم يؤدِّ الترابط بين الموانئ الاستراتيجية ومناطق الأعمال إلى تعزيز دور دولة الإمارات العربية المتحدة في التجارة العالمية فحسب، بل اجتذب أيضاً الشركات متعددة الجنسيات التي تبحث عن قاعدة استراتيجية لعملياتها الإقليمية.
إن دولة الإمارات ومن خلال التنويع الاستراتيجي في هذه القطاعات لم تحمِ نفسها من تقلبات أسعار النفط فحسب، بل أنشأت أيضاً اقتصاداً متعدد الأوجه قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، وأسهم في جعلها وجهة جذابة للشركات التي تسعى إلى الاستقرار والنمو والابتكار.
سياسات داعمة للأعمال
أسهمت السياسات الداعمة للأعمال في دولة الإمارات العربية المتحدة في خلق بيئة مواتية لنمو الأعمال، وجذب المستثمرين الباحثين عن الاستقرار والتنوع والفرص طويلة المدى. ولا بد من القول إن الاستقرار السياسي في المنطقة أدى دوراً محورياً في غرس الثقة بين المستثمرين الأجانب. فالتزام دولة الإمارات العربية المتحدة بالحفاظ على مشهد سياسي آمن يمكن التنبؤ به جعلها وجهة موثوقة للاستثمارات طويلة الأجل.
بالإضافة إلى أن التنفيذ الاستباقي للسياسات الصديقة للمستثمرين أدى إلى زيادة تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث تبوأت دولة الإمارات المرتبة 16 عالمياً في تقرير سهولة ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي لعام 2020، وجاء ترتيبها في بعض المؤشرات على النحو التالي: الأولى عالمياً في الحصول على الكهرباء، والثالثة عالمياً في استخراج تراخيص البناء، والتاسع عالمياً في إنفاذ العقود، والعاشر عالمياً في تسجيل الملكية.
ومن السياسات الصديقة للمستثمرين؛ إنشاء ما يزيد على 40 منطقة حرة، ومنح الملكية الأجنبية بنسبة تصل إلى 100% في هذه المناطق وفي 122 نشاط اقتصادي آخر في 13 قطاع، وإعادة الأرباح بنسبة 100%، ومنح تأشيرة الإقامة لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد، وغياب الضوابط على النقد الأجنبي، ووجود تعريفات جمركية منخفضة (بين 0-5% على جميع السلع تقريباً)، وقوانين عمل مبسطة. كما أن التزام دولة الإمارات بالاقتصاد المفتوح وتشجيع نمو القطاع الخاص والمنافسة وتطبيق الأنظمة التي تمنع الاحتكار، اكتمل بعضويتها في الاتحادات التجارية العالمية، ومنها منظمة التجارة العالمية.
الاستثمار في البنية التحتية
يتأثر التحول الاقتصادي في دولة الإمارات العربية المتحدة بشكل ملحوظ بالاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية، والتي تبرز بوصفها محرك رئيسي وراء قفزتها الاقتصادية الملحوظة. وقد وُجهِت هذه الاستثمارات توجيهاً استراتيجياً نحو إنشاء مرافق عالمية المستوى، من أجل تلبية احتياجات النمو السكاني والعدد المتزايد من السيارات، وتماشياً مع خطط الحكومة لتوسيع العمران والسياحة في أبوظبي ودبي.
في الواقع وبالإضافة إلى الاستثمار في توسيع المطارات الحديثة وبناء المطارات والموانئ الجديدة، فإن دولة الإمارات تمتلك مشاريع كبيرة عديدة قيد التنفيذ في مجال النقل والبنية التحتية للطرق؛ مثل مشروع "الاتحاد للسكك الحديدية" بقيمة 11 مليار دولار أميركي، ومشروع "قطار الهايبرلوب" المقترح بقيمة 5.9 مليار دولار أميركي للربط بين دبي وأبو ظبي، ومشروع "طريق الشيخ زايد ذي الطابقين" بقيمة 2.7 مليار دولار أميركي، والمزيد.
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يشهد قطاع البناء والعقارات في دولة الإمارات العربية المتحدة انتعاشاً قوياً في السنوات الخمس القادمة مع نمو قيمة صناعة البناء والعقارات بنسبة تصل إلى 4.7٪ سنوياً. وقد أعلنت حكومة الإمارات في إطار مبادرة "مشاريع الخمسين" عن خطط لتنفيذ سلسلة من المشاريع المعمارية التي تهدف إلى تسريع التنمية الاقتصادية في الإمارات، من أجل تحويل الدولة إلى مركز شامل لجميع القطاعات، وتهدف إلى جذب 149.8 مليار دولار أميركي من الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات التسع المقبلة.
احتضان الابتكار والتكنولوجيا
اتخذت دولة الإمارات خطوات هادفة لتعزيز اقتصاد المستقبل القائم على المعرفة والتكنولوجيا؛ فكانت أول دولة في العالم تنشئ وزارة خاصة بالذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، بغية رقمنة الحياة ودمج الذكاء الاصطناعي في جميع قطاعات الحكومة، التي تشمل النقل والصحة والفضاء والطاقة المتجددة والمياه والتكنولوجيا والتعليم والبيئة والمرور. بالإضافة إلى إنشاء مبادرات طموحة ترعى الشركات التقنية الناشئة وتزودها برأس المال والبنية التحتية اللازمة؛ مثل منصة أبوظبي Hub71، وواحة دبي للسيليكون، وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك، أطلقت حكومة الإمارات العديد من السياسات لتعزيز استخدام البيانات المفتوحة، كما أنشأت صندوق الإمارات لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بغية تعزيز مشاريع البحث والتطوير المبتكرة في هذا القطاع، فضلاً عن الاستثمار في العديد من المجالات التكنولوجية؛ مثل الحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبلوك تشين وغيرها. يُذكر أنه من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنحو 14% من الناتج المحلي الوطني بحلول 2030، أي ما يعادل 96 مليار دولار أميركي.
تطوير قطاع خدمات مالية قوي
غدت دولة الإمارات العربية المتحدة دولة رائدة في مجال الخدمات المالية في الشرق الأوسط، وذلك بمساعدة السياسات الحكومية الداعمة، وتنفيذ البرامج الجذابة سواءً في المناطق المحلية أو الحرة. وقد جسدت المراكز المالية الرئيسية مثل مركز دبي المالي العالمي وسوق أبو ظبي العالمي، التزام دولة الإمارات العربية المتحدة بتعزيز النظام الإيكولوجي المالي وتوفير إطار تنظيمي يتماشى مع المعايير الدولية، ما جذب البنوك والمؤسسات المالية متعددة الجنسيات وشركات التكنولوجيا المالية للاستثمار فيها. لكن التطور في قطاع الخدمات المالية لا يشمل الخدمات المصرفية التقليدية فحسب، بل يشمل أيضاً التكنولوجيا المالية المتطورة، التي تجتذب المستثمرين العالميين الذين يبحثون عن بيئة مالية متطورة وديناميكية. وقد أدى التوجه نحو التكنولوجيا المالية المتطورة إلى تعزيز القدرة التنافسية للقطاع، ما جعل دولة الإمارات العربية المتحدة تتبوأ مركزاً مهماً للابتكار التكنولوجي في مجال التمويل.
الشراكات الاستراتيجية
يتميز الصعود الاقتصادي لدولة الإمارات العربية المتحدة بتنميتها الذكية للشراكات الاستراتيجية مع اللاعبين العالميين الرئيسيين، وهو نهج تكتيكي أثبت فعاليته في تحقيق المنافع الاقتصادية المتبادلة. وقد نجحت دولة الإمارات في ترسيخ مكانتها ليس بوصفها دولة رائدة على المستوى الإقليمي، بل على المستوى العالمي أيضاً، ما دفع الدول الكبرى للإسراع نحو إنشاء الشركات معها. على سبيل المثال، بلغ التبادل التجاري غير النفطي بين الإمارات والولايات المتحدة الأميركية نحو 15.4 مليار دولار أميركي في النصف الأول من عام 2023.
يمكن القول أن دولة الإمارات استطاعت من خلال هذه الشركات تسخير الخبرات والموارد المشتركة والوصول إلى الأسواق لدفع نموها الاقتصادي، وقد أدت الاتفاقيات التجارية دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية، إذ سهّلت التبادل السلس للسلع والخدمات، وعززت بيئة مواتية للتجارة الدولية. ولم تفتح هذه الاتفاقيات الأبواب أمام الشركات الإماراتية للوصول إلى الأسواق العالمية فحسب، بل جذبت أيضاً الاستثمارات الأجنبية، ما عزز المرونة الاقتصادية للدولة وقدرتها التنافسية.
بالإضافة إلى أن التحالفات مع الدول ذات الاقتصادات المزدهرة والمنظمات والصناديق الدولية والإقليمية تمتد إلى ما هو أبعد من التجارة، فتشمل قطاعات متنوعة مثل التكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية، ما يعزز من مكانتها الاقتصادية.
صياغة رؤى الحكومة 2021 و2023 والالتزام بها
يرتبط المسار الاقتصادي لدولة الإمارات العربية المتحدة ارتباطاً كبيراً بحكومتها ذات الفكر التقدمي، كما يتضح من المبادرات الحكيمة التي أطلقتها مثل رؤية 2021 ورؤية 2030؛ إذ تعمل هذه المبادرات بمثابة خرائط طريق شاملة، تحدد الأهداف الاستراتيجية والمعالم الرئيسية للتنمية الاقتصادية والتنويع في البلاد. حيث هدفت رؤية 2021، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عام 2010، إلى وضع دولة الإمارات ضمن أفضل دول العالم بحلول عام 2021، تزامناً مع الذكرى الخمسين لتأسيس الدولة. وشملت التركيز على التنمية الاقتصادية والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية والتنمية الاجتماعية. كما أكدت على التنويع الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على النفط، وتعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة.
ثم وبناءً على إنجازات رؤية 2021، أطلقت دولة الإمارات رؤية 2030، وتعمل على توسيع الأهداف الاستراتيجية لدولة الإمارات العربية المتحدة للعقد التالي، وتؤكد هذه الرؤية على التنويع الاقتصادي على نحو أكبر والقيادة العالمية في الصناعات الرئيسية، بالإضافة إلى التركيز على الاستثمار في التقنيات المتطورة، وتعزيز الابتكار، وإنشاء اقتصاد قائم على المعرفة. علاوة على ذلك، تتوافق رؤية 2030 مع التوجهات العالمية في مجال الطاقة المتجددة والاستدامة البيئية، بهدف جعل دولة الإمارات العربية المتحدة رائدة في هذه المجالات.
تجسد كلتا الرؤيتين التزام الحكومة بخلق اقتصاد يتطلع نحو المستقبل ويتمتع بالتنوع والمرونة، كما توجهان عملية صنع السياسات، واستراتيجيات الاستثمار، ومبادرات التنمية لضمان بقاء دولة الإمارات العربية المتحدة في طليعة التقدم الاقتصادي والتكنولوجي العالمي. إن الاستقرار الذي توفره هذه الرؤى طويلة المدى يعزز ثقة المستثمرين ويسهم في النمو والازدهار المستدام لدولة الإمارات العربية المتحدة.