إلى أي مدى سيتأثر قطاع النشر العالمي بموجة “الاستقالة الكبرى”؟

4 دقائق
قطاع النشر والاستقالات الكبرى
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

برزت خلال حواراتي المتعلّقة بتقريرَيْ “الاتحاد الدولي للناشرين” المعنونين بـ “من جهود التصدي للجائحة إلى التعافي منها” و”كيف يمكن لقطاع النشر العالمي تحويل التضامن إلى فرصة؟” الآثار التي لا تخطئها عين للتحول الرقمي المتسارع الذي انطلق تحت وطأة جائحة كورونا على مهارات القوى العاملة في مجال النشر العالمي. فماذا عن موضوع قطاع النشر والاستقالات الكبرى حول العالم؟

امتداداً للممارسات الراسخة التي لطالما تبناها القطاع بخصوص الاعتماد على الموظفين المستقلين والمتعاقدين، نجحت صناعة النشر بسرعة في تبني أساليب عمل مرنة خلال الجائحة، لعل أبرزها كان السماح بنظام العمل من المنزل. في الواقع، تشير الدلائل المبكرة إلى أن أحد الآثار الدائمة للجائحة على قطاع النشر العالمي قد تشمل اعتماداً أكبر لآليات العمل المرن من أجل الوصول إلى المواهب والكفاءات المتميّزة في أي مكان إلى جانب زيادة الاعتماد على أسلوب تقسيم العمل إلى مشاريع مستقلة والاستعانة بمصادر خارجية.

أجرَيْتُ منذ نهاية عام 2020 محادثات مع أكثر من 90 شخصية من كبار المسؤولين التنفيذيين في منظومة النشر حول مسيرة تعافي القطاع عالمياً، ومع ذلك، فإنني أشعر بقلق متزايد من أن آراء العاملين في مجال النشر عموماً لم يتم التعبير عنها بالقدر الكافي، وعلى غرار نقص البيانات بشأن مسار تعافي قطاع النشر بعد الجائحة، هناك ندرة مقلقة بالقدر نفسه للبيانات التي تتناول الآثار المحتملة لتلك العملية على العاملين في مجال النشر. فالقواعد الناشئة لتنظيم العمل عن بُعد لها القدرة على التأثير بشكل كبير على العمليات المستقرة لقطاع النشر، وثقافة مكان العمل، والمؤهلات والمهارات المطلوب توافرها لدى الكوادر العاملة في القطاع.

قطاع النشر والاستقالات الكبرى: هل تجاهلنا العاملين في قطاع النشر؟

يمكننا أن نستفيد في هذا الصدد من إحصائية غير مكتملة، لكنها ذات دلالة هامة، خاصة أنها تأتي من الولايات المتحدة — أكبر سوق للنشر في العالم. فقد أعلن “مكتب إحصاءات العمل” في أغسطس/آب الماضي أن عدد الموظفين الذين تركوا وظائفهم في قطاع الفنون والترفيه خلال شهر واحد قد تخطى أعلى مستوى مسجل له على الإطلاق، وقد أكدت إحصاءات مماثلة أصدرتها ‏”منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” أن هذه ليست مجرّد مشكلة معزولة أو مقتصرة على الولايات المتحدة. حيث تُظهر إحصاءات المنظمة أيضاً أن الصناعات الإبداعية على مستوى العالم قد تضررت بشدة من انخفاض ساعات العمل وفقدان الوظائف والخروج من سوق العمل، وتشير تلك الإحصاءات المقلقة إلى أن موجة “الاستقالة الكبرى” قد تكون التحدي الأهم الذي سيتعيّن على قطاع النشر العالمي مواجهته في المرحلة المقبلة.

تشير الدلائل التي تطرحها استبيانات الموظفين على مستوى القطاع إلى بعض الاستنتاجات التي تبدو قابلة للتعميم على مجمل القوى العاملة في مجال النشر، ويأتي على رأس تلك الاستنتاجات رغبة الموظفين الذين عملوا عن بُعد أثناء الجائحة في عدم العودة إلى الوضع السابق، وكشفت عدة دراسات أن عدداً كبيراً من الموظفين — يناهز 40% أو أكثر بناءً على الاستبيانات المشار إليها — يفضلون البحث عن عمل جديد بدلاً من التخلّي عن العمل عن بُعد، وهكذا، تسلّط تلك الدراسات الضوء على ضرورة تبني أساليب عمل مرنة وتُبرز بالقدر نفسه الأهمية المتنامية للثقافات المؤسسية التي تُعنَى برفاهية الموظفين.

وبالتوازي مع ذلك، لا ينبغي أن نُغْفِلَ الضرورة الملحة للارتقاء بالمهارات وإعادة تأهيل العاملين في القطاع لمواكبة المتطلبات الناشئة على مستوى صناعة النشر من أجل رفع معدلات الاحتفاظ بالموظفين ودعمهم لاكتساب مهارات جديدة تمكنهم من الترقي الوظيفي الذي يلبي طموحاتهم. حيث خَلُص التقرير الأولي الذي أصدره “الاتحاد الدولي للناشرين” حول تأثير الجائحة على قطاع النشر العالمي إلى أن إلغاء معارض الكتب، وإغلاق منافذ بيع الكتب، وتباطؤ المبيعات المؤسسية قد دفع العديد من الناشرين نحو أنماط مختلفة من التحول الرقمي غير المدروس، وقد أصبح من الواضح الآن أكثر من أي وقت مضى أن التقنيات ومبادرات الرقمنة وأنماط العمل الجديدة التي ظهرت كحلول للتعامل مع تداعيات قرارات الإغلاق وتعليق الأنشطة الاقتصادية ستتواصل على الأرجح، ويستلزم هذا من العاملين في قطاع النشر اكتساب مهارات رقمية جديدة وصقل مهاراتهم الحالية في مجالات عدة تشمل الكتب الإلكترونية، والكتب الصوتية، والبيع عبر الإنترنت، والتسويق عبر شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وتنظيم الفعاليات الافتراضية، ورقمنة خدمات العضوية، وغير ذلك من المؤهلات الرقمية الناشئة الأخرى.

استجابة “الاتحاد الدولي للناشرين” لموجة “الاستقالة الكبرى”

كانت إحدى مبادراتي المبكرة بعد أن توليت رئاسة “الاتحاد الدولي للناشرين” هي تشكيل لجنة عمل — تعرف حالياً باسم لجنة العمل المعنية باستدامة ومرونة قطاع النشر الدولي “إنسباير” (Inspire) — لدعم الأعضاء وتعزيز التضامن في مواجهة التحديات التي فرضتها الجائحة على القطاع، وقد أجرت اللجنة منذ تشكيلها مشاوراتٍ مستفيضة لتطوير خطة “إنسباير (Inspire) التي أُطلِقَت مؤخراً على هامش معرض فرانكفورت للكتاب، ووافقت 50 جهة من الأطراف المعنية بقطاع النشر على الالتزام بها والتعاون من أجل تحقيق أهدافها العشرة الرئيسية.

وإدراكاً منها للحاجة إلى بناء القدرات، ورفع المهارات، وإعادة تأهيل القوى العاملة في مجال النشر، عكفت اللجنة أيضاً على تأسيس “أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين” بالتوازي مع جهودٍ أخرى مثل وضع “ميثاق وخطة إنسباير” (Inspire Charter and Plan) لإعادة رسم ملامح مستقبل قطاع النشر، وتعتبر الأكاديمية التي نحن بصدد إطلاقها نهاية العام الجاري بوابة موحدة لتنمية وتطوير مهارات العاملين في قطاع النشر، وقد برزت فكرة إنشائها كاستراتيجية مُثْلَى يستطيع الاتحاد من خلالها دعم استجابة أعضائه وقطاع النشر العالمي إجمالاً للتأثيرات المتصاعدة لموجة “الاستقالة الكبرى” على قطاعنا.

ستوفر الأكاديمية في بداية عملها تدريباً مباشراً ودورات منهجية لأعضاء “الاتحاد الدولي للناشرين” وعموم القطاع على مستوى العالم على يد نخبة من الشركاء المختصين، ويجري حالياً بحث فرص إبرام شراكات مع مؤسسات رائدة عالمياً في مجال تطوير القدرات مثل “المنظمة العالمية للملكية الفكرية”، و”جامعة نيويورك”، و”جامعة أكسفورد بروكس”. كما ستوفر البوابة التدريب وحزماً متكاملة من الموارد المتعلقة بتنمية الكفاءات التنظيمية والمؤسسية الهامة، مثل رسم الاستراتيجيات وإدارة العمليات، والمهارات الرقمية، مثل التسويق عبر الإنترنت، وأولويات الدعم التي يتبناها “الاتحاد الدولي للناشرين”، مثل دعم تطوير مهارات تأسيس وإدارة الاتحادات الوطنية للناشرين.

ستدعم الأكاديمية أعضاء “الاتحاد الدولي للناشرين” وقطاع النشر ككل بفرص تعلّم مرنة متوفرة عند الطلب، إلى جانب مسارات تعلّم مخصصة بهدف تعزيز مشاركة العاملين في مجال النشر، ومن المنتظر أن تُسهم الأكاديمية بقوة في تمكين الجهات المنضوية تحت مظلة الاتحاد من تطوير قوى عاملة مؤهلة ومدرّبة تدريباً جيداً، وتأهيل الأعضاء والشركاء للتعاطي على نحو أفضل مع التحديات المستقبلية في ظل التطورات المتلاحقة التي تشهدها الأسواق على خلفية موجة “الاستقالة الكبرى”.

اغتنام فرصة اللحظة الراهنة

ارتبط ترك الوظيفة في الماضي بوصمة اجتماعية سلبية لا يُستهان بها، ولكن هذا قد ولى اليوم دون رجعة. فالموظفون يولون حالياً أهمية أكبر لحياتهم الخاصة وأولوياتهم الشخصية. وقطاع النشر العالمي ليس محصناً ضد تداعيات موجة “الاستقالة الكبرى” التي تضرب العالم حالياً، وقد حان الوقت لتدشين حوار لدراسة سبل الاستفادة من الإمكانات الناتجة عن تغيّر العلاقة بين الموظفين وأرباب العمل.

وفي نهاية الحديث عن موضوع قطاع النشر والاستقالات الكبرى تحديداً، تبرهن أفضل الإحصاءات التي بين يدينا أن موجة “الاستقالة الكبرى” تتصاعد بوتيرة متسارعة وتطول جميع القطاعات دون استثناء، وتشكل اللحظة الراهنة منعطفاً حاسماً يمكن لقطاع النشر العالمي استثماره لضمان قدرة صناعتنا على مواكبة التحديات المستقبلية، ولا شك أن الاهتمام والتركيز على تطوير القوى العاملة يمثل أحد أفضل الطرق التي يمكن للقطاع أن يغتنم من خلالها هذه الفرصة السانحة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .