تساؤلات ملحة حول دور قطاع النشر التعليمي في عالم ما بعد الجائحة

6 دقائق
قطاع النشر التعليمي

أظهرت إحصاءات اليونسكو أن جائحة فيروس كورونا قد تسببت في أكبر اضطراب في قطاع النشر التعليمي وللنظم التعليمية جميعاً شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، نتج عنه انقطاع نحو 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم في 190 بلداً، خلال العام 2020. وعلى الرغم من قلة الدلائل المتوفرة حالياً على طبيعة الآثار طويلة الأجل لإغلاق المدارس، فإن حجم ما فقدته العملية التعليمية، والذي يقدر في المتوسط بثلثي العام الدراسي، سيكون له تداعيات اجتماعية واقتصادية عالمية دون شك.

في خضم تلك الظروف العالمية غير المسبوقة على مستوى قطاع التعليم، اضطلع النشر التعليمي بدور حيوي في دعم أنظمة التعليم الوطنية والمدارس والمعلمين من أجل تحول سلس إلى أنظمة التعلم عبر الإنترنت. واحتل الناشرون الأكاديميون صدارة جهود مكافحة الجائحة عبر تمكين صناع السياسات والعاملين في مجال الصحة العامة والمجتمع الطبي من الوصول إلى أوراق بحثية موثوقة لتسريع خطوات تطوير اللقاحات واتخاذ قرارات مستنيرة. وما يؤسف له أن الاهتمام الكبير الذي حظي به تعزيز مشاركة الطلاب ورفع مستوى تحصيلهم الدراسي خلال الجائحة من جانب السلطات التعليمية وصانعي السياسات والمعلمين والناشرين التعليميين والأكاديميين وغيرهم من الأطراف ذات العلاقة، لم يدع متسعاً من الوقت أمام مجمل الأطراف الفاعلة على مستوى القطاع، فضلاً عن غيرهم، للتفكير بشأن المستقبل.

ومن خلال موقعي كناشرة تعليمية منخرطة بقوة في دعم الجهود الرامية لضمان التعليم الجيد والمنصف والشامل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وجدت نفسي مؤخراً أفكر في مدى حاجة الناشرين التعليميين على مستوى العالم إلى إعادة تعريف طبيعة الدور وحجم القيمة التي يمثلها النشر التعليمي في عالم ما بعد الجائحة. فعلى الرغم من المحاولات الأولية القليلة لفهم مسارات المستقبل والتي بادرت بها بعض الجهات مثل الدراسة التي أصدرها اتحاد الناشرين في المملكة المتحدة حول استخدام المعلمين للموارد ضمن منظومة التعلم عن بعد، لا يزال الناشرون التعليميون يعانون من ندرة المعلومات الكفيلة بدعم مساعيهم لرسم ملامح أعمالهم بعد الجائحة.

وفي ظل هذه الحالة من عدم اليقين وتأثر الناشرين التعليميين بشكل كبير بسبب الغموض الذي يلف ميزانيات التعليم، وخطط إعادة فتح المدارس، ومدى الرغبة في مواصلة رقمنة العملية التعليمية، تبرز الكثير من التساؤلات المُلِحّة حول سبل تطوير النشر التعليمي بعد الجائحة، وفي هذه المقال سوف نستعرض أهم التساؤلات حول هذا الموضوع.

كيف يمكن للناشرين التعليميين أن يصيغوا ويساهموا بشكل إيجابي في النقاشات المتعلقة بطبيعة ومآلات أنظمة التعليم في المستقبل؟

كانت جائحة كورونا بمثابة اختبارٍ قاسٍ لمدى مرونة وتحمل أنظمة التعليم على مستوى العالم. ولكنها بالمقابل عززت الحوار بين الناشرين والمدرسين والعاملين في المكتبات حسبما كشف عنه تقرير الاتحاد الدولي للناشرين الذي حمل عنوان "من الاستجابة إلى التعافي: تأثير كوفيد-19 على قطاع النشر العالمي". ومع ذلك، فقد بدأ المعلمون وصناع السياسات والناشرون والمتعلمون وغيرهم من الفئات المعنية بالعملية التعليمية في طرح أسئلة مهمة حول مستقبل التعليم ما بعد الجائحة: هل يجب أن تتطور مناهج التعليم والتعلم؟ هل هناك طرق أفضل لتقييم نتائج التعلم؟ كيف ينبغي أن تتكيف أنظمة التعليم مع أساليب التعلم غير المتزامن؟ ما هو الدور الذي يجب أن يؤديه الناشرون التعليميون في تدريب المعلمين؟ هل الموارد التعليمية المفتوحة المصدر تحقق النتائج المرجوة منها؟

إن بروز مثل تلك التساؤلات العميقة حول مستقبل أنظمة التعليم يعني وجود فرصة كبيرة أمام الناشرين التعليميين للمساهمة الاستباقية في النقاشات التي تهدف لرسم ملامح المستقبل. على سبيل المثال، في خضم أزمة كوفيد في أوروبا، نظمت المفوضية الأوروبية استبياناً تشاورياً عاماً مفتوحاً حول مستقبل قطاعي التعليم والتدريب في ضوء تداعيات الجائحة وكانت بعض نتائجه مثيرة للاهتمام. إذ اعتبر 95% من المشاركين الجائحة نقطة تحول مفصلية فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا في مجالي التعليم والتدريب، وهو ما من شأنه أن يعزز الطلب على المحتوى والمواد الأكثر ملائمة لتلك المرحلة الجديدة والتي تتطلب مستوى أفضل من التفاعل وسهولة الاستخدام. واسترشدت المفوضية بنتائج الاستبيان في صياغة خطة عمل للنهوض بالتعليم الرقمي.

ربما يكون التوجه الأوروبي لإعادة النظر في مستقبل العملية التعليمية وآلياتها ما بعد الجائحة مقدمة لمبادرات مماثلة على مستوى العالم وهي جهود لا شك في أنها ستستفيد للغاية من المساهمات والأفكار التي يطرحها الناشرون التعليميون. وهناك عدة أمثلة على جهود فعالة من جانب الناشرين للمساهمة بشكل أكبر في هذه النقاشات التي تتناول مستقبل التعليم منها مبادرة (Smart Curriculum) التابعة لدار نشر جامعة أوكسفورد، ومشروع (Future of Qualifications and Assessment) الذي أطلقه "دار نشر بيرسونز"، ومبادرة (Shape Education) التي دشنها دار نشر جامعة كامبريدج. وأعتقد أن هناك فرصة لتنظيم استقصاء عالمي أو فعالية افتراضية دولية تجمع كافة الأطراف المعنية برسم خارطة طريق مستقبلية تعاونية لتعافي قطاع النشر التعليمي.

هل ثمة حاجة لإعادة تشكيل أجندة حشد الدعم من أجل قطاع النشر التعليمي في مرحلة ما بعد الجائحة؟

مع اكتساب المعلمين ثقة أكبر في قدرتهم على استخدام التكنولوجيا في الفصول الدراسية خلال فترة إغلاق المدارس، تنامت رغبتهم في مزيدٍ من الاستقلالية المهنية في التحضير والتخطيط للحصص المدرسية. ومع ذلك، يقرُّ المعلمون بأن السبب الرئيسي لاستخدامهم الموارد المدفوعة، مثل الكتب المدرسية، بدلاً من مواردهم الخاصة، هو حاجتهم لتخفيف عبء العمل عن كاهلهم. وفي عالم ما بعد الجائحة، يمكن أن تُتَرجم تلك الرغبة إلى مطالب متزايدة من قبل المعلمين للمشاركة في إعداد الموارد بالشراكة مع الناشرين التعليميين بدلاً من الاقتصار على جمع المحتوى كما هو الحال حالياً. وقد تثير المساعي الرامية لإيجاد حلول واختيارات محلية رغبة المعلمين في أن يكون لهم تأثير أكبر مما سبق فيما يتصل بمحتوي الكتب المدرسية والمناهج التي يستخدمونها فضلاً عن المطالبة بمزيد من المرونة التي تتيح لهم تخصيص تلك المناهج بما يلائم فصولهم الدراسية.

من المرجح أن يتحول الهدف من التعاون بين مختلف الأطراف الفاعلة في قطاع النشر أكثر وأكثر نحو دعم مبادرات التحول الرقمي وتعزيز المهارات الرقمية ورفع مستوى أداء المنصات الرقمية التعليمية في ظل تعاظم مشاركة الناشرين التعليميين في المشاورات والحوارات الوطنية والإقليمية، رِفْقَةَ غيرهم من الأطراف المعنية بمستقبل التعليم ما بعد الجائحة. وعلى الرغم من وجود تعاون تقليدي بين الناشرين التعليميين والحكومات والمعلمين والمؤلفين في تقديم المناهج التعليمية الوطنية، تشير التوقعات إلى أن التعاون المستقبلي سيتحول تدريجياً إلى مشاركة جوهرية أكبر للناشرين في بناء القدرات الرقمية لمؤسسات التعليم والتدريب، ومبادرات تدريب المعلمين، وتحديد المهارات والكفاءات الرقمية المطلوبة، وتخزين واستخدام بيانات الطلاب.

لعل أهم النتائج التي ستترتب على ما سبق هي أنه من المحتمل جداً أن تتغير أدوار وتوقعات الناشرين التعليميين بشكل كبير بمجرد إعادة تقييم وتعريف القيمة الاستثنائية والدور المحوري لـ "قطاع النشر التعليمي" في عالم ما بعد الجائحة. ومن المرجح كذلك أنه سيكون على مجتمع الناشرين التعليميين إعادة النظر في أجندة حشد الدعم للقطاع لضمان الاعتراف بأهمية مساهمتنا ورؤانا حول الموضوعات الجوهرية في سياق هذا التحول المفصلي الذي يشهده قطاع التعليم.

كيف يمكن للنظم التعليمية والناشرين العمل معاً لردم الفجوة الرقمية؟

في غمرة التوجه الجمعي نحو اعتبار التكنولوجيا المنقذ الأكبر للعملية التعليمية في ظل الجائحة، هناك تغاضي واضح عن استمرار الفجوة الرقمية على مستوى العالم. وبالمثل، تُغْفِلُ السردية المطولة المتداولة عن تأثير الجائحة العالمية على قطاع التعليم ودورها في تسريع وتيرة التحول الرقمي التجاهلَ الذي يتعرض له ملايينُ الطلاب الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس حول العالم.

وتمثل قارة إفريقيا البؤرة الأهم التي تتجلى فيها هذه المشكلة. حيث أكدت بيانات صندوق الابتكار الإفريقي للنشر أن أكثر من 250 مليون طفل إفريقي هم خارج المدرسة الآن. وفي المجتمعات الريفية بالقارة، أدى غياب خدمات الإنترنت والمرافق المكتبية والفجوات الرقمية الكبيرة بين المناطق الحضرية والريفية إلى حرمان الكثير من الطلاب والتلاميذ من الاستفادة من أنظمة التعلم عن بعد. وقد تأثرت الفتيات، على وجه الخصوص، جراء عمليات الإغلاق حيث يُتوقع منهن في كثير من الأحيان تحمل مسؤوليات رعاية الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية. وتُنْذِرُ تلك المعطيات بوجود خطر محتمل يتهدد جيلاً كاملاً من الشباب الذين يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة الأساسية فضلاً عن سبل كسب العيش والمهارات الحياتية.

وفي ضوء نقاشاتي مع جمعيات الناشرين على مستوى العالم، يمكنني القول إنه من غير الممكن الفصل بين مخاطر الفجوة الرقمية التي تخلف ورائها جيلاً ضائعاً من الشباب وجهود تطوير أسواق النشر. فتوافر بنية تحتية رقمية قوية، وإلمام المعلمين بالتكنولوجيا، وإتاحة الوصول إلى مواد تعليمية ووسائل تدريسية نوعية، لا يزال يمثل مشكلة حقيقية ومتفاقمة حتى بالنسبة للأنظمة التعليمية في أسواق النشر الأكثر تطوراً. ومع الأسف، لا يبدو أن لدى الناشرين والأنظمة التعليمية حول العالم منهجيات مقنعة لضمان الوصول الشامل إلى التعليم الجيد في خضم التغيرات المتلاحقة التي تشهدها أنظمة التعليم والتدريب لمواكبة التطورات الرقمية التي تفرضها تداعيات الجائحة.

كشفت الجائحة أن الفجوة الرقمية تتجلى في أشكال متعددة أهمها: تفاوت القدرة على دفع ثمن الكتب المدرسية، وتفاوت المهارات الرقمية لدى المعلمين، واختلاف مستويات نضج أنظمة النشر التعليمية الوطنية، وافتقار أنظمة النشر الناشئة لأي محفزات للاستثمار في تطوير موارد تعليمية عالية الجودة. ولهذا السبب، يبدو أن إعادة التأكيد على القيمة المحورية لـ "قطاع النشر التعليمي" في عالم ما بعد الجائحة هو مطلب يتعلق بتحقيق العدالة والشمول بقدر تعلقه بضمان تطور القطاع والتكيف مع الواقع المتغير.

كثير من التساؤلات.. قليل من الإجابات

لا تزال العديد من أنظمة التعليم تئن تحت وطأة تداعيات "كوفيد-19"، وهو ما يجعل من الصعب للغاية النظر بجدية في المآلات التي سينتهي إليها قطاع النشر التعليمي وقطاع التعليم في أعقاب الجائحة. ومن الواضح أن الوضع الراهن يطرح من التساؤلات أكثر مما يقدم من إجابات. ومع ذلك، فهذه لحظة حاسمة للغاية بالنسبة للناشرين التعليميين للتعبير عن تصوراتهم وطرح مساهماتهم. وبينما نتطلع إلى المستقبل، فإن دور الناشرين في تشكيل النقاشات المستقبلية حول السياسات التعليمية، وأجندة حشد الدعم للقطاع، وآليات تحقيق الإنصاف والشمول ضمن أنظمة التعليم الوطنية المتوجهة بقوة نحو مزيد من الرقمنة، قد تحتاج إلى إعادة تقييم لما يبدو أنه منعطف تاريخي بالنسبة للناشرين التعليميين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي