لدينا اليوم مشكلة تبدو غريبة بعض الشيء متعلقة بقصة إدارة الوقت. فمن جهة تعتبر ساعات العمل الأسبوعية -بعد تطبيق عطلة اليومين في الأسبوع- أقل مما كانت عليه في القرن الماضي، ووسائل التواصل والتكنولوجيا اليوم هي أفضل وأكثر مساعدة في إنجاز المهام مما كانت عليه في القرن العشرين، ولكننا نبدو مشغولين ومتوترين طوال الوقت. لا بل إننا نشعر بالحنين لتلك الأيام التي كان الناس فيها يعيشون "راحة البال". فما الذي حصل؟
ما يصلك اليوم عبر بريدك الإلكتروني كان يصلك في تلك الفترة عبر البريد العادي، سواء كان خارجياً أو عبر ديوان المدير العام إلى مكتبك. وكذلك، فإن الاتصالات كانت متوفرة لكنها لم تكن بهذا التنوع والكثافة، فقد كان الهاتف والمكالمة الصوتية هي الوسيلة الأبرز، تساعدها تقنيات كانت تسمى الفاكس والتليكس. والاجتماعات، هي الأخرى والتي تعتبر إحدى مستهلكات الوقت كانت أيضاً موجودة على الدوام في الأعمال. وكان الرجل والمرأة يعملان في كثير من الحالات تماماً كما يحصل اليوم، ومع ذلك لم تكن أزمة إدارة الوقت والفصل بين العمل والأسرة ظاهرة كما هي اليوم. فما الذي اختلف؟
أزمة إدارة الوقت
على الرغم من أن مسببات الانشغال كانت على الدوام موجودة، لكنها ببساطة كانت ملتزمة بحدودها قبل عشرين أو ثلاثين عاماً، فقد كانت على الدوام تعيش جنباً إلى جنب مع الهدف المطلوب إنجازه من كل موظف وكل شركة، ولم يتحول هذا التعايش إلى صراع إلاّ في وقتنا الحالي. فالبريد الوارد في تلك الأيام ومهما كان طارئاً لم يشكل ظاهرة يومية تخترق روتين عملك ومخططات يومك أكثر من اللازم.
والاتصالات كانت متوفرة لكنها محدودة وقدرتها على الوصول للأشخاص في أي وقت لم تكن متوفرة، لذا لم يكن هنالك مشكلة "كيف نفصل بين العمل والحياة الشخصية" أو "كيف نتوقف عن الرد على بريد العمل في أيام العطل؟". وبسبب محدودية الاتصالات، كانت اجتماعات العمل أقل عدداً لأنها تحتاج لتحضير مسبق وتواصل مسبق مع الأطراف، بخلاف اليوم حيث يمكن تحضير الاجتماع فوراً وجمع الأطراف أينما كانوا واختراق دفاتر مواعيدهم عبر تقنيات "الاتصال الجماعي" عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: هل خدعتك إحدى هذه النصائح المتعلقة بإدارة الوقت؟
ماحصل مع التطور التقني ودخول أجيال الإنترنت والهواتف الذكية، هو تكثيف الاتصالات ودخولها على الخط في كل الأوقات، حاملة مهمات جديدة، أو اجتماعات عديدة، ومقاطعات لمهمات عمل قائمة، وانتهاك للحياة الشخصية، كما ظهر معها مصطلح "تعدد المهام"، وصار إحساس السرعة لدى الإنسان مستلهماً من سرعة الكمبيوتر.
ومع ما خلقه ذلك من توتر وإنهاك في تنظيم الوقت، ستجدون أن معظم المقالات والكتب التي تتحدث عن إدارة الوقت، غالباً ما تركز على إعادة ضبط الحدود بين مكونات العمل من جديد، وتحاول تدريبك على رؤية هذه الحدود بوضوح لكي تتمكن من التحكم فيها. ولذا فإنك ترى تلك النصائح المتكررة حول ترك هاتفك الذكي خارج الاجتماعات أو إغلاقه في أيام العطل، وكيفية إدارة بريدك الإلكتروني مثلاً عبر تصنيف الرسائل إلى مهمة وأقل أهمية وغير مهمة على الإطلاق. والكثيرون الذين وقفوا عاجزين أمام هذا التصنيف ولم يتمكنوا من تنفيذه، اختاروا إما العيش على الدوام في حالة استنزاف للوقت أو التضحية بساعة أو ساعتين على الأقل يومياً لتصفير البريد الإلكتروني أو تجاهل البريد الإلكتروني بشكل شبه كلي وخسارة العديد من الفرص، وهو ما عبر عنه أحد المسؤولين عن صندوق استثماري ناشئ بقوله: "إنني أخسر الكثير من الفرص بسبب تجاهلي للإيميل".
مستنزفات الوقت
وكذلك، فإن الاجتماعات كما تعلمون هي واحدة من مستنزفات الوقت التي تحاول الكتب والدراسات اليوم تدريبنا على وضع حدود لها، من حيث الهدف والوقت والتركيز وذلك عبر وضع حدود لتدخل الهواتف الذكية في الاجتماعات، وهذا هو النموذج الذي بات يستلهم من تجربة شركة "دروب بوكس" التي منعت الاجتماعات بشكل مطلق لفترة لا تقل عن أسبوعين، ثم اكتشفت أن الموظفين تأقلموا مع الحالة وتمكنوا من حل مشكلاتهم واتخاذ قراراتهم وفق صيغ أكثر سرعة ومرونة، ثم تحولت هذه التجربة إلى ثقافة مؤسسية جعلت طلب الاجتماع وإدارته منضبطة وفي الحالات الضرورية بالفعل.
اقرأ أيضاً: هل تشعر بالانشغال طوال الوقت؟ إليك ما سيقلب ذلك الشعور
ببساطة، تسعى نصائح اليوم في معظم الكتب والمقالات لتدريبنا على التخلص من التوتر قليلاً لنعود إلى ذواتنا ونتمكن من السيطرة مجدداً على الوقت، مستخدمة لذلك كل السبل بما فيها الخداع النفسي الذي يعيد لنا الثقة بأنفسنا وسيطرتنا على أجنداتنا، ولهذا فقد تصادف بعض النصائح الغريبة في مقالات هارفارد بزنس ريفيو مثل "كيف ساعدني تخصيص وقت للمطالعة في تنظيم يومي" و"ستشعرون بعجلة أقل من أمركم إذا تصدقتم بقدر أكبر من وقتكم"، وغيرها من المقالات، وصولاً إلى نصائح "اليقظة الذهنية" والتي هي عملياً تمارين لإعادة إيقاظ ذهنك من التشويش الذي اكتنفه بسبب تداخل الحدود بين الأشياء من حولك.
اقرأ أيضاً: