قصة الابتكار في السعودية: محظوظ من عاش تلك الأحداث

7 دقائق
shutterstock.com/
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بعض القصص والأحداث الجميلة تحدث في العمر مرة، ومحظوظ من عاشها. والآن خذ دقيقةً وفكّر، ما الأحداث الجميلة التي عشتَها ولا تحدث في العمر غالباً إلا مرة؟ طبعاً دخول القفص الذهبي ليس خياراً!

من القصص والأحداث الجميلة التي عشتها ولا أزال أعيشها هي تحوّل المملكة العربية السعودية نحو الابتكار، ومراقبة لحظات تكوّن بيئة ومنظومة الابتكار (Innovation Ecosystem) بها.

البداية

ما زلت أذكر المراحل الأولى قبل نحو 6 سنوات، كان الأمر جديداً وغريباً، كان شرح مفهوم الابتكار للآخرين يستغرق وقتاً طويلاً.

كنت أرى عدداً من الجهات تسارع إلى المشاركة في التغيير، ولم يكن بالضرورة سباق تتابع، ولا ماراثوناً، كان أشبه بسباق المائة متر. أذكر أنني حاولت الجري معها من خلال تدريب الناس على التفكير التصميمي في ذلك الوقت، وكان مثلي جمعٌ أعرفهم بأسمائهم ولو أوتيتُ من الأمر شيئاً لكرّمتهم.

ثم جاءت من بعدها مرحلة الهاكاثونات، عشتها مشارِكاً وحَكَماً وموجّهاً ومستشاراً، عشتها بمراحلها المختلفة، كنت في هاكاثون الحج مثلاً عندما سجلنا رقماً قياسياً عالمياً في موسوعة غينيس.

ثم جاءت بعدها مرحلة ظهور الحاضنات والمسرعات وشركات الاستثمار الجريء ومعها جاءت مصانع الشركات الناشئة. تخرجُ الأفكار من الهاكاثونات لتدخل في الحاضنات، ثم المسرِّعات، ثم تحصل على التمويل وتنمو وتتابع المسير.

عفوية البدايات

اتسمت المراحل الأولى في صناعة الابتكار في بعض أجزائها بالعفوية وشيء من العشوائية. وتظهر سِمَة تلك المراحل الأولى في الأرقام التي حققتها المملكة في المقياس العالمي للابتكار (GII). ففي السنوات 2019، 2020، 2021، لم نتمكّن من رفع تصنيف المملكة إلا بمقدار خطوتين للأمام، إذ كان التصنيف هو 66، 66، 68، على التوالي، على الرغم من الجهد الكبير والحراك المثير.

ثم جاء عام 2022 لتقفز المملكة 15 خطوة للأمام وتحقق التصنيف 51 على مستوى العالم. وأعتقد أننا بدأنا نرتّب الأمور ونضبط الإيقاع، وستأتي قفزات أكبر في السنوات المقبلة إن شاء الله. فالوصول إلى المرتبة 15 في 2030 هو هدف كبير، لكنه ممكن مع التحرّك المنضبط والمدروس ومع وجود هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار التي أُعلن عنها قبل سنتين.

الابتكار في القطاع غير الربحي

تبنّت قطاعات كثيرة الابتكار وباتت تسعى إلى تحقيقه، مثل قطاعات الصحة والعدل والسياحة والحج والداخلية وغيرها. لكن أكثر ما لفت انتباهي هو التحوّل الكبير في عمل القطاع غير الربحي.

لا أنسى حديث الأمين العام لمؤسسة الأميرة العنود الخيرية، الدكتور يوسف الحزيم، حين قال: “انتقلنا من الرّعَوية إلى التمكين، ومن التمكين إلى الابتكار”.

لقد رأيت المؤسسات العاملة في القطاع غير الربحي تتبنّى أساليب مختلفة لدفع عجلة الابتكار، فهذه تعتني بصناعة المبتكرين ورواد الأعمال الاجتماعيين، وتلك تبحث عن التحديات المجتمعية المُلحّة وتضعها أمام الشباب المتحمّسين. وفي ديوان الابتكار من مؤسسة محمد بن سلمان مسك رأينا أفكاراً إبداعية عن توظيف المتقاعدين، وإنقاذ النحل والنحّالين، ومواساة مرضى السرطان وتقويتهم، وتحسين سلوك الأطفال، وتسهيل تعلّم المكفوفين، وغيرها الكثير.

الابتكار المؤسسي

ثمة مكوّن مهم في منظومة الابتكار في الدول، ألا وهو الشركات، وقد عملتُ في الابتكار المؤسسي لسنوات وأحمد الله أني قد حظيت بفرصة العمل في مطبخ الابتكار في إحدى أكبر الشركات.

كنت أرى بأم عيني كيف تُجمع المواد وكيف توزن وتُكال، وكيف توضع بترتيب زمني معين، وكيف تُطبخ (لقد احترقت معنا مجموعة لا بأس بها من الطبخات، ولربما نجحت بعض الطبخات لكن لم يشترِها أحد). لكننا مع الوقت صرنا نُحسن الطبخ وصارت تظهر على رواد مطبخنا آثار الأكل الصحي اللذيذ، إذ أصبحوا أكثر صحة ونضارة ورشاقة. ونجحنا في تخريج عدد كبير من الطباخين.

فرصة العمل داخل المطبخ لا تتاح لأي أحد، وهي تختلف كثيراً عن أخذ الوصفات الجاهزة من كتب الطبخ. اليوم لدينا وصفات مجربة لصناعة الابتكار في البيئة والثقافة والمتغيّرات التي نعيشها نفسها.

ولا أنسى أن أشكر صاحب المكان، فقد تقبّل الفشل ودفع ثمن كل المحاولات، وعزّز فينا روح المغامرة وحب التجريب، كان دائماً مؤمناً بأهمية الابتكار وأثره حتى إن طال الأمر وزادت التكلفة.

من الشركات الخاصة عموماً خرج الكثير من رواد الأعمال، وقد تميزت شركة عِلْم من بين الشركات التي ولّدت رواد أعمال صنعوا شركات ناشئة كبيرة صنعت أثراً يمتد.

هيئة البحث والتطوير والابتكار

الجامعات من الأعمدة الأساسية في منظومة الابتكار في أي بلد، وقد حققت الجامعات السعودية تقدماً كبيراً على المستوى العالمي، إذ أصبحت خمس جامعات ضمن الجامعات الأربعمائة الأفضل في العالم بحسب تصنيف التايمز للعام 2023، ونطمح للمزيد، بل نطمح إلى تفعيل التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الخاصة أيضاً.

ولكي نحقق هذا التفعيل بنجاح علينا أن نُبصر دور الحكومات، فالحكومات تؤدي دور المشرّع ودور الممكّن من خلال سنِّ القوانين والأنظمة التي تساعد على البحث والابتكار وتحفّزهما، وتمدّ الشركات والجامعات ومراكز الأبحاث بما تحتاج إليه من أدوات حتى تبتكر. تختار بعض الحكومات مواضيع بحثية معيّنة أو تقنيات محددة بحسب طبيعة البلد أو احتياجات المكان أو طلب السوق وتموّل الأبحاث والابتكارات في هذا الجانب، الأمر الذي يدفع الجامعات والشركات ومراكز الأبحاث والشركات الاستثمارية إلى التركيز على هذه المواضيع أو التقنيات المماثلة، فقيمة البحث مدفوعة من الحكومة والمنفعة والأرباح التي قد تنتج عن تحويل هذه الأبحاث إلى منتجات ستعود بالفائدة على الجميع.

في عام 2021 جاء الإعلان عن إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، حتى تتولى دعم قطاع الابتكار وتشجيعه، وتنسيق نشاطات المؤسسات ومراكز البحوث العلمية، واقتراح السياسات والتشريعات وتقديم التمويل للجهات المتصلة بالقطاع. خطوة مهمة في توقيت ممتاز. الذي أعجبني في عمل الهيئة وإن كانت لا تزال في بدايتها أنها عملت من مفهوم التمحور حول العميل (Customer Centricity)، فأشرَكَت كلاً من العملاء والشركاء وأصحاب العلاقة في صياغة استراتيجية الهيئة وتوجهها من خلال ورش عمل مكثفة لم أرَ -بحسب اطلاعي- مثيلاً لها.

“الابتكار يحتاج إلى وقت”

قبل 4 سنوات، قابلتُ في برلين، رئيس أحد استوديوهات الابتكار التي استحوذت عليها شركة آي بي إم (IBM)، أدريانو ديلوني، وفي إحدى الدردشات قال لي كلاماً معناه: “أنتم محظوظون في المملكة، لديكم ميزة مهمة لدفع الابتكار، وهي سرعة اتخاذ القرار”، ثم أردف قائلاً: “نحن لا تنقصنا الإمكانات، لكن تنقصنا القرارات، خصوصاً في تطوير بعض القطاعات كالقطاع الصحي مثلاً”.

وهذه نعمة عظيمة وميزة قلّما ينتبه لهما الكثيرون. سرعة اتخاذ القرارات ووجود مستهدفات واضحة وآلية وشفافية لمتابعة تحقيق المستهدفات هي ما نحتاج إليه في المرحلة المقبلة وفي كل مرحلة. ولعل المرحلة المقبلة هي الأصعب من وجهة نظري.

المرحلة المقبلة تحتاج إلى صبر ويقين، هي أقرب لسباق التتابع حيث يجري الجميع لتحقيق الفوز كفريق واحد، وهي أيضاً مثل سباق الماراثون، تحتاج إلى لياقة كبيرة جداً. لكن مَن يريد أن يجري ويشارك في المائة متر فقط سيظل دائماً يركّز على نتائج سريعة وربما تكون مؤقتة.

في سان فرانسيسكو، قابلت عرّاب التفكير التصميمي في العالم والرئيس التنفيذي السابق لشركة آيديو (IDEO) الابتكارية الشهيرة، تِيم براون، دار بيننا حديث محوره نصيحة ذهبية وهي: “أنتم أحياناً تستعجلون النتائج، والابتكار يحتاج إلى وقت”.

لا ابتكار دون تعاون وتناغم

في عالم صناعة الابتكار، إيجاد مكونات منظومة الابتكار (قوانين ممكّنة، تمويل، مراكز أبحاث، جامعات، شركات، إلخ) هو الخطوة الأولى، لكن الخطوة الأهم هي تفعيل عمل هذه المكونات حتى تعمل معاً كالأتراس المسننة التي يحرّك بعضها الآخر بتناغم حتى نحصل على النتيجة المرجوة.

في عام 1960، حاولت مدينة نيوجيرسي الأميركية استنساخ وادي السيليكون الذي بدأ يسطع نوره في ذلك الوقت، وحتى تتمكن من إنجاز هذا المشروع الضخم، استعانت المدنية بعميد كلية الهندسة في جامعة ستانفورد، فريدريك تيرمان، الذي كان يُلقّب بـ “أبو وادي السيليكون” نظراً لأنه من أهم المؤسسين.

كانت مدينة نيوجيرسي تحتضن نحو 725 شركة منها شركات ضخمة جداً مثل بيل لابز (Bell Labs)، ميرك (Merck)، آر سي أيه (RCA)، وكانت تضم نحو 50,000 مهندس وباحث وعامل وعالم. وكانت هناك إرادة حكومية كبيرة لصناعة شيء عظيم، الشيء الوحيد الذي كان ناقصاً في ذلك الوقت هو وجود جامعة مثل ستانفورد.

المهم، لم تنجح خطة “أبو وادي السيليكون” والسبب الذي تم الإفصاح عنه في دراسة عام 1996 هو غياب التناغم؛ إذ رفضت الشركات المتنافسة أن تتعاون فيما بينها ورفضت أن تجعل أفضل باحثيها ومهندسيها يعملون مع الجامعات ورفضت أيضاً فتح أبواب التوظيف من خارج المنطقة مخافة سرقة التقنية.

حاولت مدن كثيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها استنساخ تجربة وادي السيليكون مستخدمة الوصفة التي دوّنها أستاذ كلية الأعمال في جامعة هارفارد، مايكل بورتر، التي كانت تقوم على اختيار صناعة مميزة عليها إقبال، وبناء مجمّعات للعلم والتقنية على مقربة من جامعة مميزة، وتوفير الحوافز وتسهيل الإجراءات حتى تأتي الشركات وتستقر في هذا المكان، وإيجاد مجموعة من الشركات الاستثمارية لتسهم في نمو المخرجات والشركات.

استُخدمت هذه الوصفة في مئات الأماكن حول العالم واستثمرت الدول عشرات المليارات من الدولارات، وماذا كانت النتيجة برأيكم؟ بعد كل هذه التجارب وصل الكثيرون إلى قناعة وكُتبت عشرات المقالات: “لا يمكن استنساخ تجربة وادي السيليكون”.

في عام 1994 أجرت الأستاذة في جامعة كاليفورنيا بيركلي، آنا لي ساكسينيان، بحثاً طويلاً ومن ثم ألّفت كتاباً أسمته: “ميزة المكان: الثقافة والتنافس في وادي السيليكون” وخلُصت في بحثها إلى أن بروز وادي السيليكون لم يكن بالأساس بسبب وجود جامعة مميزة، ولكن بسبب التنوّع والثقافة. المكان والأنظمة والتشريعات كانت تشجّع على التنافس والتعاون بين الشركات في الوقت نفسه، وتُرحب وتدعو إلى التجريب والمخاطرة وتقبّل الفشل، وكانت تحتضن المبتكرين من كل مكان (52% من الشركات التي أُنشئت في وادي السيليكون في الفترة من 1995 حتى 2005 ولِدَ واحد أو أكثر من مؤسسيها خارج الولايات المتحدة الأميركية).

الابتكار والتعليم 

اليوم، نجد الكثير من الدول الناجحة في مجال الابتكار قد تخصّصت وركّزت على صناعة أو تقنية معينة، على سبيل المثال، تايوان تصنّع الرقائق الإلكترونية لأضخم الشركات حول العالم بما فيها شركات وادي السيليكون، والماكينات الألمانية ما زالت هي الأفضل، وسنغافورة، الدولة الصغيرة، التي تحتل المركز السابع عالمياً في المقياس العالمي للابتكار (GII) ركّزت على جودة التعليم، فلديها نظام تعليمي يركز على ما تحتاج إليه السوق وعلى آخر ما توصلت إليه العلوم والتقنية. يمكن لهذه الدول تغيير المناهج بسهولة كلما دعت إلى ذلك الحاجة، وبالتركيز بشكل أساسي على تعليم الطلاب طرق إيجاد الحلول الإبداعية للمشكلات الموجودة حولهم. الطالب السنغافوري ذو الخمسة عشر عاماً يسبق الطلاب في الدول الغربية بما معدله 15 شهراً، ويسبقهم في الرياضيات بعشرين شهراً.

أما سويسرا، الدولة الأكثر ابتكاراً في العالم بحسب المقياس العالمي للابتكار للعام 2022، فهي تُنفق مبالغ ضخمة للغاية على البحث والتطوير لسنوات، فالشركات السويسرية وحدها أنفقت 889 مليار يورو في عام 2022 على البحث والتطوير. أيضاً، تستثمر سويسرا بشكل كبير في بناء الإبداع والمواهب لدى أبنائها منذ الصغر، وتُركز كثيراً على جودة مخرجات التعليم، إذ يختار 70% من الطلبة السويسريين التعليم والتدريب المهني على التعليم الجامعي الأكاديمي لأنه يصقل مهاراتهم ويقرّبهم من السوق أكثر. بعد 3 سنوات يتخرج الطالب في الكلية ولديه قرابة السنتين والنصف من الخبرة العملية. بل إن نصف الوزراء في سويسرا جاؤوا من تخصصات صناعية. اعتناء سويسرا بجودة مخرجات التعليم الصناعي يفسر أنها الدولة الأولى في العالم في عدد براءات الاختراع مقارنة بعدد السكان.

الوصفة السحرية للابتكار 

أنا أؤمن بأنه ليس ثمة وصفة سحرية لصناعة الابتكار يمكن أن تُستخدم في أي مكان وزمان، بل هي مجموعة من الممارسات التي يمكن تجريبها والتعلّم منها والتعديل والتحسين عليها لسنوات حتى نصل إلى الوصفة المناسبة. هذا ما جربتُه لسنوات عديدة في مجال الابتكار وهذا حصيلة اطلاعي على عشرات التجارب والأبحاث. المهم أن نتمتع بالإيمان والشغف والمرونة وحب التعلّم وسرعة التجريب وتقبّل الفشل، فهذه الأمور هي كالزاد لنا في هذا الماراثون الطويل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .