هل تختار قرار خرائط جوجل أو قرارك، في حال كنت ترى أن هنالك طريقاً أقصر مما اختاره جوجل؟ ولماذا؟
وجهنا هذا السؤال إلى متابعي هارفارد بزنس ريفيو على منصة "تويتر". وعلى الرغم من أن غالبية الإجابات كانت ترجح اختيار كل شخص قراره الشخصي إذا تعارض مع قرار خوارزميات خرائط جوجل فإن اللافت أن الكثيرين ممن رجحوا قرارهم الشخصي، قالوا إن ذلك هو الخيار الأفضل وخاصة عندما تكون أنت على علم بالمكان أو المنطقة التي تتنقل فيها عبر السيارة.
وهنا يكمن "الفخ" الذي يتوقع فيه كثيرون من الناس أن معرفتهم بما حولهم يعني أن قراراتهم بشأنها سليمة، وأن معرفتهم بالمنطقة أو الظرف المحيط تعني اتخاذهم قرارات سليمة من التحيّز. هذا الفخ اسمه "التشويش"، بحسب عالم الاقتصاد السلوكي كاس سنستين، والعالم دانيال كانيمان، الفائز بجائزة "نوبل" في الاقتصاد، في كتابهما الجديد (Noise)، حيث يتحدث هذا الكتاب عن فكرة ترجمناها في "هارفارد بزنس ريفيو" إلى "التشويش"، وهي أن البشر ليس لديهم اتساق في قراراتهم. وبحسب هذا الكتاب، فإن حالات كثيرة حدثت وتحدث كل يوم مثل شخصين متهمين بالتهمة نفسها وفي الظروف نفسها، لكن القاضي نفسه قد يحكم لهذا بعدة أشهر في السجن في حين يحكم للشخص الآخر بعدة سنوات في السجن.
وفي حالة أخرى متكررة، قد يتقدم طالبان يحملان معدل الدرجات والاختبارات ذاته للقبول في الجامعة، ولكن طلب أحدهما يقبل والآخر يرفض؟ فما هو السبب؟ السبب كما يكشف هذان العالمان من خلال بحوث علمية مفصلة أن لدى البشر تحيزات تجعلهم يبدلون قراراتهم لأسباب بسيطة قد لا يدركونها في كثير من الأحيان، فالقاضي يختلف حكمه عندما يكون جائعاً عن حكمه بعد أن يأكل، فهو يميل إلى منح أحكام مخففة بعد الغداء وقاسية حينما يكون جائعاً أو غاضباً من أمر ما، فقد يكون فريقه المفضل خسر المباراة في الليلة السابقة، وهذا بالتأكيد يؤثر على قراراته. وكذلك، فقد أثبتت الدراسات أن قرارات الناس في اليوم المشمس تختلف عن قراراتهم في اليوم الغائم، فقد بينت الدراسات أن موظفي القبول الجامعي يميلون في الأيام المشمسة إلى التركيز على مؤهلات المتقدمين غير الجامعية أي هواياتهم وأنشطتهم الإضافية وهي التي قد ترجح قبولهم، في حين يميل هؤلاء الموظفون في الأيام الغائمة إلى التركيز على المؤهلات الجامعية والعلمية أكثر، ولهذا فقد يفشل طالب في القبول الجامعي وينجح آخر على الرغم من أنهما يحملان المؤهلات ذاتها. والسبب هو أن أحدهما تقدم لاختبار القبول في يوم غائم وآخر في يوم مشمس لسوء الحظ.
هل تتبع قرارك أو قرار الخوارزمية؟
ولذلك يصبح السؤال الآتي هو: هل تتبع قرارك أو قرار الخوارزمية في مثل هذه الحالات؟ توضح الدراسات بحسب هذا الكتاب، أن بعض هذه القرارات، مثل الأحكام القضائية، والقبول الجامعي، وقرارات أخرى مماثلة، يكون احتمال خطأ البشر مرجحاً بشكل أكبر لأنه متأثر دون أن يشعر الشخص بتغيرات وتحيزات؛ تبدأ من فراغ معدته إلى خسارة فريقه في كرة القدم إلى الطقس، ليقرر قراراً قد يهدم حياة إنسان أو يبنيها، في حين أن قرارات الخوارزميات في مثل هذه الحالات بعيدة عن تلك التحيزات البشرية، لكن لديها بعض التحيزات الأخرى التي قد يكون البشر زرعوها فيها من خلال تجاربهم السابقة، لكنها تبقى أقل تحيزاً لاستنادها إلى بيانات جماعية وليس إلى حالة فردية.
والآن، عودوا بنا إلى سؤالنا الذي بدأنا به هذه المقالة: هل ستتبع قرارك أو قرار خرائط جوجل حتى لو كان المكان معروفاً من قبلك؟ دعونا نضع الاحتمالات؛ فاحتمالية خطئك هي أنك قد لا تعرف الفرق بين الازدحام الحاصل الآن في هذه اللحظة وبين الازدحام في الطريق الآخر الذي يقترحه "جوجل". والاحتمالية الأخرى لخطئك أنك تفترض أن الطريق الأقرب يعني أنه الأسرع في الوصول. وهذا خطأ بالطبع، فقد يكون الطريق الأقصر مليئاً بعوائق وإشارات مرور وازدحام -في هذه اللحظة بالذات- تجعله أطول بعدة دقائق من الطريق الأطول. واحتمالية صوابك أنك قد تعرف أكثر من جوجل إن كان ثمة طريق قد أغلق اليوم وأن إصلاحات تجري على الطريق الفلاني منذ أمس، التي ربما لم يستوعبها "جوجل" بعد.
والآن دعنا ننتقل إلى احتمالية خطأ "جوجل"؛ فالاحتمال أنه لا يعرف فعلاً بتلك الإصلاحات التي تجري في الطريق، والتي بدأت قبل يومين، أو لا يعرف بإغلاق طريق آخر حدث مؤخراً، لكن صوابيته أعلى في قدرته على النظر من الأعلى والتقدير بأن الازدحام في هذا المسار الآن وفي هذه اللحظة، هو أقل من ذلك المسار حتى لو كان أبعد في المسافة، وأن الطريق الذي تظنه بحسب خبرتك أقرب وأسرع، قد لا يكون في الحقيقة هو كذلك الآن. باختصار، أنت تخطئ و"جوجل" يخطئ لكن احتمالية خطئك في مثل هذه الحالات هي أعلى من "جوجل".
دور الأتمتة في تجاوز التحيزات
والآن دعنا نسأل مرة أخرى، كم مرة حصلت معك هذه القصة أو سمعت عنها؛ تذهب إلى موظف حكومي أو في شركة خاصة لمراجعة تتعلق بمعاملة فيطلب منك طلبات وأوراق وشروط جديدة، وتذهب ثم تعود فتجد موظفاً آخر في مكان الموظف السابق بسبب تغيير المناوبة أو غيرها من الأسباب، فتتفاجأ بأن الموظف البديل يخبرك أن ما طلبه زميله كان خطأ، وأن الشروط أو الأوراق المطلوبة هي كذا وكذا؟
حسناً أسمعك تقول: "آووه، كثيراً"، حسناً، متى انتهت هذه المشكلة أو كادت أن تنتهي في بعض البلدان؟ حصل ذلك عندما تحولت هذه المعاملات إلى مؤتمتة أي أن من يديرها الخوارزميات وليس البشر ذوي التحيزات، لقد أصبحت الأوراق المطلوبة محددة مسبقاً ومعروفة، وما عليك سوى تعبئة طلبك على الموقع الإلكتروني وإرفاق المطلوب وانتهى الأمر. في دراسة أجراها العالم دانيال كانيمان وعدد من الباحثين، لما يسمى التشويش في قرارات الموظفين في بعض المؤسسات؛ أي: الفرق بين موظف وآخر في اتخاذ قرار حول الموضوع نفسه، فماذا وجدوا؟ توقع المدراء التنفيذيون في هذه المؤسسات أن تكون نسبة الفرق بين قرارات الموظفين 5 إلى 10%، وهذه نسبة مقبولة بالنسبة لهم فيما يتعلق بالقضايا التي تشتمل على تقديم الأحكام. ولكن النتيجة التي توصلنا إليها شكّلت صدمة لهم، فقد تراوح مؤشر التشويش بين 34 و62% في المؤسسة (أ)، وبلغ المعدل العام للتشويش 48%. أما في القضايا الأربع في المؤسسة (ب)، فقد تراوح مؤشر التشويش بين 46 و70% وكان المعدل 60%. ولعل أكثر ما كان مخيباً للظن هو حقيقة أن خبرة العمل لم تكن كافية للحدّ من التشويش. فقد كان معدّل الاختلاف بين الموظفين الذين لديهم 5 سنوات أو أكثر من الخبرة 46% في المؤسسة (أ) و62% في المؤسسة (ب).
لم يكن أحد يتوقع هذه النتائج. لكن، نظراً لأن إدارة الشركة هي التي تولّت أمر هذه الدراسة، فقد قَبِل المسؤولون التنفيذيون في كلتا المؤسستين النتائج التي خلصت إليها الدراسة، وآمنوا بأن الاختلاف بين أحكام الموظفين فيهما بلغ حداً لا يمكن احتماله. وسرعان ما اتفق الجميع على ضرورة اتخاذ خطوات للسيطرة على هذه المشكلة.