تتغلغل التكنولوجيا وأوداتها في كل جزء من حياتنا، ودعونا نأخذ شركة "سيلزفورس" مثلاً والتي لديها أقل من 40 ألف موظف، إلا التقنية تساعدها على تقديم خدماتها لأكثر من 150 ألف عميل، مع تقديرات تشير إلى استخدام خدماتها من قبل 3 إلى 5 ملايين شخص حول العالم.
تزداد التحديات يوماً بعد يوم أمام البشر، حيث تزداد صعوبة مواكبة البشر للتقنية من حيث المهارات المطلوبة، حيث يسارع الكثيرون لمحاولة تعلمها واستخدامها. حيث يخطر على بالنا هنا الكلمات التي قالها المستثمر المغامر (الجريء) مارك أندرسن، "البرمجيات تلتهم العالم". وتتطور التقنية في كل مكان، في حين يحاول البشر جاهدين مواكبتها ضمن كل صناعة وقطاع ووظيفة حول العالم. وقد تسبّب هذا في حدوث نقص هائل فيما يتعلق بعدد الأشخاص الذي لديهم المهارات الكافية لمواكبة التقنيات تلك، نظراً لتطوّر الابتكار بشكل فاق قدرة البشر حول العالم على مواكبته وتعلّم المهارات اللازمة له. وبينما يخشى كثيرون من أن يحل الذكاء الصناعي والأتمتة محل القوى العاملة البشرية، يشير التقييم العالمي لشركة الاستشارات العالمية "كورن فيري" (Korn Ferry) إلى العكس، حيث يذكر أنه لا يوجد ما يكفي من البشر المهرة لمواكبة هذا التقدم التقني، إذ تشير دراستهم التي جرت في عام 2018 إلى أنه بحلول عام 2030، سنواجه نقصاً في المواهب على مستوى العالم يصل إلى 85 مليون شخص، مما ينتج عنه عائدات سنوية غير محققة تبلغ 8.5 تريليون دولار.
ويجب أن ننظر إلى ما سبق بعين الاهتمام مع دخولنا الثورة الصناعية الرابعة، إذ بات البشر يتسابقون لاكتساب المهارات بنفس سرعة تقديم التقنيات لمهارات جديدة واجب اكتسابها. لكن فيما يتعلق بقطاع الأعمال، فهناك أخبار سيئة مفادها أن معظمنا تلقى تعليمه في نظام صُمّم لتطوير المعرفة، لا المهارات. إذ كان النظام القديم أكثر استقراراً وذي تغييرات أقل، متيحاً الظروف المناسبة لاختيار تخصص يمكن للمرء ممارسته على مدار الحياة المهنية بأكملها. لقد كانت المعلومات في عالم ما قبل الإنترنت شحيحة وكان التعليم الجيد يتعلق بكشف المعرفة وغرسها داخل الشخص. أما اليوم، فالمعلومات وفيرة ويمكن الوصول إليها فوراً باستخدام هاتف ذكي، الأمر الذي جعل عملية السعي للحصول على المعرفة غير ذات أهمية وجعل المهارات هي الأمر المهم جداً بدلاً من المعرفة فيما يتعلق بمواكبة سوق العمل. وتمثل المرونة حالياً، وليس التخصص، الأمر الأكثر أهمية مع تسارع التغيير.
يقول الفيلسوف إريك هوفر: "في أوقات التغيير، نجد أن المهتمين بالتعليم المستمر يرثون الأرض كما يقال، بينما يكتشف من يعتقدون أنهم ختموا العلم أنهم يعيشون في عالم لم يعد له وجود". ويجد هذا القول مصداقاً له اليوم بشكل متزايد مع التغيير الذي يحدث بوتيرة كبيرة ومتسارعة.
أما الجانب الإيجابي هنا، فهو أنه في عالم يزداد فيه الطلب على المهارات عن العرض، فإن أي دولة أو منظمة أو فرد ذي قدرة مرنة على اكتساب المهارات بسرعة سيكتسب ميزة تنافسية هائلة، وستصبح الخبرة عملة نادرة وستجني فوائد لم تكن تحققها سابقاً. وفي المقابل، فإن الجمود عن اكتساب المهارات الجديدة ستصبح عواقبه أكبر على الفرد والمؤسسة، وستكون "الحرب من أجل المواهب" أشد مما يمكننا تخيله. هذا المستقبل الذي تسود فيه المهارات العليا هو ما نسميه "اقتصاد الخبرة".
سيتطلب النجاح في اقتصاد الخبرة استخدام التقنية لمساعدة البشر على مواكبة التقنية، أي أننا سنلجأ لطريقة مكافحة النار بالنار. وستبرز متطلبات ملحة أمام الراغبين بالنجاح حيث سيحتاجون إلى تجديد أنظمة التعليم والتدريب في مكان العمل والتركيز على اكتساب المهارات. ويجب علينا تطوير كوادرنا الوظيفية وغرس ذهنية التعلم المستمر مدى الحياة. ويعني هذا الزمر، تكريس الممارسة اليومية لـ "حلقة التعلم" المكونة من أربع مراحل: التعلم، والممارسة، والسعي لتلقي الملاحظات، وتأمل تلك الملاحظات. وترى المؤسسات التي تتبنى ثقافة التعلم مشاركة متزايدة وجذب المواهب والاحتفاظ بها.
باختصار، عليك أن تسير وفقاً للقانون التالي:
اكتسب مهارة. ثم اكتسب مهارة أخرى جديد. حقق النجاح. كرر.
ويعد الاستثمار في رأس المال البشري وبناء الخبرات وضمان نقلها من جيل إلى جيل عملاً ذا أولوية ينبغي أن تتصدر أجندات الأفراد والمؤسسات والدول، بمعنى أن تتحول هذه المهمة إلى خطة منتظمة، تعمل على تغذية الجيل الجديد بالمهارات المطلوبة في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات وفتح المجال أمامهم للإبداع، وفي الوقت ذاته العمل على ترميم وتغذية خبرات الجيل المخضرم ليواكب هذه التطورات، ويضيف من خبرته التي لا غنى عنها لجعل مهارات العصر الحديث ذات معنى وغاية.
التحدي الآن ليس بسيطاً، فعالم ينتقل بوضوح من الاقتصاد المادي المبنى على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد المعرفة ومن ثم الخبرة حيث بدأ يعتمد في عصبه الرئيسي على الموارد البشرية.
والموارد البشرية والتي هي رأس المال الأهم في معادلة البناء والتطوير على مستوى الفرد والمؤسسة والدولة، تمتلك اليوم فرصة لتحويل دولها ومؤسساتها وأفرادها إلى علامات تجارية قادرة على المنافسة وقادة على الحياة باعتبار أن مورد رأس المال البشري هو المورد الذي لن ينضب. فقد ينضب النفط أو يقل إنتاجه بعد سنوات قد تطول أو تقصر، لكن المهم هو العمل على فتح مناجم العقل. ولحسن الحظ فإن التقنيات الحديثة لم تترك لأي فرد أو مؤسسة عذراً فوسائل التعليم واكتساب المهارات باتت على بعد ضغطة زر، فهي متاحة عبر الكمبيوتر والموبايل من البيت أو في الشارع دون تكلفة تذكر في كثير من الأحيان.
لا يحتاج الأمر سوى إدراك هذه الحاجة الملحة في الوقت المناسب، وهذا ما سيحدث الفرق بين الدول والمؤسسات والأفراد التي ستحتضن المستقبل وتلك التي ستكتشف بعد فترة وجيزة أنها أصبحت خلف قطار المستقبل. وفي هذا السياق يأتي برنامج "خبراء الإمارات" الذي يديره أحد الكاتبين المشاركين في هذا المقال، ليبين توجّه دولة الإمارات نحو خيار احتضان المستقبل وبناء رأس المال البشري الخبير والمستعد. إذ يعد هذا البرنامج واحداً من سلسلة مبادرات تتبعها هذه الدولة لخلق نمط متكرر من التوليد المستمر للمهارات اعتماداً على الخبرات الوطنية، حيث تلتحم إمكانات الشباب المنخرطين في هذا البرنامج مع خبرات الموجهين المخضرمين في أكثر من عشرين قطاعاً واختصاصاً لتقدم نموذجاً يحتذى في مبدأ التعليم المستمر واكتساب المهارات المتجددة.